روسيا متفوّقة: هل تقترب أوكرانيا من خسارة الحرب؟
فرضت سيطرة الروس على مدينة أفديفكا المحصّنة سؤالاً ملحّاً على مشارف دخول الغزو الروسيّ الواسع لأوكرانيا عامه الثالث. ألا تزال أوكرانيا قادرة على الفوز بالحرب؟ بدأ التداول بهذا السؤال بعد فشل الهجوم الأوكرانيّ المضاد الصيف الماضي والذي تلاه احتجاز بعض جمهوريّي الكونغرس المساعدات التي طلبتها الإدارة لدعم أوكرانيا. لكنّ سقوط أفديفكا أوضح أكثر أنّ روسيا استعادت الزخم وقلبت المشهد الميدانيّ. إنّما إلى أيّ حدّ؟
روسيا متفوّقة
حطّمت التحصينات الروسيّة في شتاء 2022-2023 الهجوم الأوكرانيّ المضادّ مكلّفة أوكرانيا أثماناً بشريّة ومادّيّة باهظة. عادة ما يتمتّع المُدافع بأفضليّة على المهاجم (في هذه الحالة الجيش الأوكرانيّ) ممّا يعني أنّ خسائر أوكرانيا السنة الماضية قد تكون أعلى من تلك التي تكبّدتها في العام الأوّل للحرب.
تتكتّم كييف، كما موسكو، عن أعداد ضحاياها. لكنّ تقديرات أميركيّة ذكرت أنّ أوكرانيا فقدت بحلول آب (أغسطس) الماضي، نحو 70 ألف قتيل ونحو 120 آلاف جريح. بحسب التقديرات الأميركيّة أيضاً، خسرت روسيا نحو 315 ألف جنديّ بين قتيل وجريح أي نحو 90 في المئة من قوّاتها الأساسيّة المهاجِمة. إذا صحّت هذه الأرقام فستكون الخسائر الأوكرانيّة أقلّ من تلك الروسيّة. لكنّ القوى البشريّة الروسيّة أكبر من تلك التي تتمتّع بها أوكرانيا بثلاث إلى أربع مرّات. بطبيعة الحال، ثمّة عوامل أخرى غير الأرقام تساهم في صمود الأوكرانيّين مثل تمتّعهم بإمدادات طبّيّة أفضل من الروس. وأشارت تقارير إلى العديد من المقاتلين الأوكرانيّين الذي فقدوا أطرافاً خلال الحرب لكنّهم أصرّوا على العودة إلى الميدان والخدمة بشكل أو بآخر. لكن مع انسداد الأفق، بدأت هذه الحماسة تتراجع.
من جهة، ثمّة أحاديث كثيرة لا عن أنّ أوكرانيا تعاني من نقص في عدد المقاتلين ومن ارتفاع معدّل أعمار جنودها إلى ما فوق الأربعين وحسب، بل أيضاً عن استياء الجنود من الشبان الذين يتهرّبون من الذهاب إلى الجبهات. وبينما كان الأوكرانيّون يتمكّنون قليلاً من أخذ قسط من الراحة ليلاً قبل عام، تغيّر الوضع مع استخدام روسيا طائرات بلا طيّار تعمل بالأشعّة ما دون الحمراء، بحسب ما يقوله جنود من أوكرانيا. ويبدو أنّ أوكرانيا فقدت العديد من جنودها بين جريح وأسير وهي تنسحب من أفديفكا وفق مسؤولين أميركيّين. وحين يسود التشاؤم فوق الميدان، تعود ارتداداته إلى السياسة. أقال الرئيس الأوكرانيّ فولوديمير زيلينسكي قائد القوّات الأوكرانيّة الجنرال فاليري زالوجني مؤخّراً بحجّة تجديد الاستراتيجيّة العسكريّة. قال البعض إنّ زيلينسكي كان مستاء من ارتفاع شعبيّة الجنرال الأوكرانيّ إلى درجة أنّها تخطّت شعبيّته بين المواطنين الأوكرانيّين، وهذا ما أثار قلق الحلفاء الغربيّين. وعيّن الرئيس الأوكرانيّ قائد القوّات البرّيّة أولكسندر سيرسكي الذي نُسب إليه فضل المساهمة في تحقيق إنجازات ميدانيّة بارزة كالدفاع عن كييف واستعادة خاركيف، لكنّه انتُقد أيضاً بسبب إدارته معركة باخموت.
(جزء من المعارك في باخموت – أب)
وتحقّق روسيا تقدّماً آخر أو على الأقلّ زخماً أكبر على مستوى الهجمات في جبهات أخرى مثل باخموت ومارينكا (دونيتسك) وكرينكي (خيرسون). وفي كرينكي، خاض الأوكرانيّون معارك عنيفة جداً ليؤسّسوا رأس جسر على الضفة الشرقيّة لنهر دنيبرو. أعلنت روسيا أنّها سيطرت على البلدة لكنّ أوكرانيا نفت ذلك. سيعدّ سقوط كرينكي ضربة معنويّة أخرى للأوكرانيّين. وقد تتّجه القوّات الروسيّة بعد أفديفكا إلى مدينة تشاسيف يار أو بوكروفسك وربّما حتى روبوتين، الثغرة شبه الوحيدة التي حقّقتها أوكرانيا خلال هجومها المضادّ.
وتمكّنت روسيا من استعادة توازن كبير في التصنيع الدفاعيّ. ويبدو أنّها تنتج نحو 100 دبابة ومليوني ذخيرة شهريّاً فيما رفدتها كوريا الشماليّة بكمّيّات كبيرة من القذائف المدفعيّة والصواريخ الباليستيّة. ومدّتها إيران أيضاً بعدد كبير من الطائرات بلا طيّار. واتّفقت طهران وموسكو على تصنيع مشترك لتلك الطائرات في روسيا. على المستوى الأعمّ، كانت الصورة قاتمة بالنسبة إلى أوكرانيا سنة 2023: في المجموع، كسبت روسيا نحو 300 كيلومتر مربّع من الأراضي الأوكرانيّة، في وقت كانت التوقّعات الأوّليّة تعد بإمكانيّة شطر الأوكرانيّين الدفاعات الروسيّة إلى قسمين عبر الوصول إلى بحر آزوف. وتحدّث أوكرانيّون عن أنّ القوّات الروسيّة تطلق كمّيّة من القذائف المدفعيّة تفوق ما يطلقه جنودهم بنحو 5 مرّات.
بسبب كلّ هذه التطوّرات، رأى العقيد المتقاعد من الجيش الأميركيّ ومدير التواصل الأسبق في القيادة المركزيّة الأميركيّة جو بوتشينو أنّه لم يعد بإمكان أوكرانيا الانتصار على روسيا بمعنى استعادة كلّ أراضيها التي خسرتها قبل الغزو. ما يبقى أمامها بحسب رأيه هو الصمود لفترة قد تفوق العام من أجل التفاوض على تسوية مقبولة مع الروس. حتى الإفراج عن الأموال العالقة في الكونغرس لن يغيّر الواقع الجديد كما كتب. لكنّ آخرين لا يشاطرونه الرأي.
أرقامٌ تدعم أوكرانيا
يعتقد كثر أنّ بإمكان أوكرانيا، بمساعدة من الغرب وباستراتيجيّة مناسبة، أن تستعيد اليد العليا في المعارك. يرى الخبراء العسكريّون مايكل كوفمان ودارا ماسيكوت من مؤسسة “كارنيغي” وروب لي من “معهد أبحاث السياسة الخارجيّة” أنّ بإمكان أوكرانيا اللجوء إلى الدفاع سنة 2024 مع إعادة تشكيل قواتها وأصولها العسكريّة من أجل شنّ هجوم آخر سنة 2025. ولفتوا النظر إلى أنّ سنة 2023 كانت سلبيّة بالنسبة إلى أوكرانيا، لكنّها لم تكن إيجابيّة بالنسبة إلى الروس، لأنّهم لم يحقّقوا اختراقاً واضحاً. ولا تزال روسيا تعاني في تجديد قوّاتها كما أنّ صناعتها الدفاعيّة المتطوّرة لا تعني أنّها توقّفت عن إخراج معدّات سوفياتيّة قديمة ستنضب في نهاية المطاف.
وكان للخبير العسكريّ مايكل أوهانلون من “معهد بروكينغز” نظرة مشابهة. هو ذكر في أيلول (سبتمبر) أنّ الاختراقات الأساسيّة في معظم الحروب تحقّقت بعد عامين إلى أربعة أعوام من انطلاقها. حتى بالنسبة إلى الولايات المتحدة، حقّق الأميركيّون النجاحات الأساسيّة بعد نحو 25 إلى 30 شهراً في الحروب التي كسبوها. ويعتقد أنّ لأوكرانيا فرصة مقبولة لتحقيق اختراق بحلول 2025 بالرغم من أنّها قد لا تتعدّى 50 في المئة. وينتقد في مقال حديث التشاؤم السائد مذكّراً بأنّ أوكرانيا لا تزال تحتفظ بنحو 82 في المئة من أراضيها ويرجّح قدرتها على الدفاع عنها ملاحظاً أيضاً أنّ أوكرانيا قد تستطيع نشر نحو 400 ألف جنديّ إضافيّ سنة 2024 إذا خفّضت سنّ التجنيد. ودعا آخرون كييف إلى التركيز أيضاً على الدفاع هذه السنة استعداداً للسيناريوهات المختلفة في وقت لاحق.
وثمّة نقاط أخرى يمكن الإشارة إليها أيضاً. لفتت تقارير إلى أنّ أحد مدوّني الحرب الروس، أندري ‘مورز‘ موروزوف، أشار أنّ روسيا خسرت نحو 16 ألف جنديّ بين قتيل وجريح على طريق اقتحامها بلدة أفديفكا. قال موروزوف، قبل ساعات من إعلانه اتّخاذ قراره بأنّه سينتحر، إنّه أُجبِر على محو الأرقام عن مدوّنته. يُذكر أنّ الاتّحاد السوفياتي خسر 15 ألف جنديّ في أفغانستان طوال 10 أعوام من القتال. وفي كانون الثاني، تحدّث الأميركيّون عن رقم مشابه (13 ألفاً). إذا كانت أرقام الخسائر في أفديفكا قريبة من الواقع فهذا مؤشّر إضافيّ إلى أنّ القوّات الروسيّة لا تستطيع مواصلة تقدّمها بالزخم الحاليّ. وكانت هناك ملاحظات سابقة بشأن حصر الروس قوّاتهم المتقدّمة في أفديفكا بمجموعات صغيرة، بالرغم من أنّ هذا قد يدلّ إلى تغيير في التكتيك وليس بالضرورة إلى نقص في الجنود. مع ذلك، قد يكون نقص القوى البشريّة في صفوف القوّات الروسيّة أمراً جديراً بالاعتبار.
وما لا يمكن التغاضي عنه أيضاً قدرة أوكرانيا الكبيرة على استنزاف الأسطول الروسيّ في البحر الأسود، إذ فقد نحو 30 في المئة من أصوله البحريّة بحسب بعض الأرقام. في مقابل كلّ الضجيج عن الفشل الأوكرانيّ في الحرب البرّيّة، لم تلقَ أنباء الضربات الأوكرانيّة الموجّهة إلى أهمّ الغوّاصات والسفن الحربيّة الروسيّة تغطية شبيهة بتغطية الإخفاق الميدانيّ. ساهمت هذه المعارك في إمكانيّة استعادة أوكرانيا قدرة كبيرة على تصدير حبوبها عبر البحر الأسود ممّا مكّن اقتصادها من استعادة بعض التعافي. ومن سلسلة الأنباء الإيجابيّة (نسبيّاً) بالنسبة إلى أوكرانيا، أنّها قريباً ستحصل على مقاتلات أف-16 وأنّ دولاً أوروبّيّة عدّة تواصل تحويل جزء كبير من أسلحتها إلى كييف، كما حصل مع الدنمارك وبريطانيا وألمانيا وفرنسا، إضافة إلى توقيع اتّفاقات أمنيّة معها قد تسهّل انضمامها اللاحق إلى حلف شمال الأطلسيّ في حال قرّرت الدول المعنيّة الموافقة على ذلك. وتتحدّث تقارير أميركيّة عن أنّ واشنطن قد تفرج عن بعض الصواريخ النوعيّة التي امتنعت عن منحها لكييف، مثل منظومات “أتاكمس” البعيدة المدى. ولا تزال أوكرانيا قادرة على إسقاط مقاتلات روسيّة متطوّرة مثل “سو-34”.
علاوة على كلّ ذلك، وبالرغم من أنّ الروس تكيّفوا بشكل كبير مع متطلّبات الحرب، يبقى أنّ بعض قادتهم لا يزال يرتكب الأخطاء نفسها كتدريب الجنود بالقرب من الخطوط الأماميّة ممّا عرّضهم لنيران الأوكرانيّين. تظهر لقطات فيديو سقوط العشرات منهم بين قتيل وجريح بسبب ضربات أوكرانيّة خلال الأيّام القليلة الماضية.
إذاً ما الذي يمكنه استنتاجه؟
ببساطة لا يزال من المبكر تحديد أيّ استنتاجات. منذ انطلاق الغزو الروسيّ وحتى اليوم، أخطأ المراقبون كثيراً حين استندوا في إطلاق توقّعاتهم البعيدة المدى إلى آخر المعطيات الميدانيّة الكبيرة. فهذه المعطيات شديدة التقلّب ونادراً ما تتوالى لترسم نمطاً مستقرّاً. بالتالي، لا يمكن توقّع المسار المقبل للحرب باستثناء ملاحظة أنّ روسيا تملك اليوم اليد العليا عسكريّاً، (وحتى سياسيّاً مع احتمال عودة ترامب إلى البيت الأبيض والاهتمام الدوليّ المنصبّ حاليّاً على الحرب على غزة). بهذا المعنى، قال وزير الدفاع الأميركيّ الأسبق روبرت غيتس إنّ روسيا “كسرت حالة المراوحة”.
لكن أبعد من ذلك، تبقى أبواب الاحتمالات مفتوحة على مصراعيها، بالنسبة إلى الفترة البعيدة. سيتحتّم على أوكرانيا إيجاد توازن دقيق وصعب جداً بين المحافظة على موقف دفاعيّ نشط يمكّنها من شنّ بعض الهجمات الموضعيّة من دون أن تفقد الكثير من معدّاتها ومقاتليها، بانتظار الهجوم الكبير المفترض سنة 2025 (إن تحقّق). بالمقابل سيتحتّم على روسيا مواصلة وتيرة التقدم نفسها لفرض أمر واقع على الأوكرانيّين وحتى على الغرب والولايات المتحدة بحلول أواخر 2024 يفيد بأنّ قلب اتّجاه الحرب سيكون مكلفاً على الأميركيّين؛ سواء انتخبوا جو بايدن أم دونالد ترامب.
النهار العربي