الجنوب يعود إلى لبنان ولو… بخجل: “لبيك يا جنوب”!

بين الثامن من تشرين الأوّل (أكتوبر) الماضي تاريخ دخول “حزب الله” باسم “المقاومة الإسلاميّة في لبنان”، في حرب “طوفان الأقصى”، ويوم السبت الماضي، تاريخ تشييع سبعة شهداء مدنيّين سقطوا في غارة إسرائيليّة على بناء في النبطية بحجة استهداف أحد مسؤولي “حزب الله”، كاد ذكر لبنان يغيب كلّيًا عن حرب حدوديّة تتخذ من جنوبه ميدانًا لها.

ومنذ الثامن من تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، حرص “حزب الله” على تقديم عملياته كما شهدائه باسم “غزة” و”القدس” ومكبّلًا أدبيّاته بتعابير إسلاميّة مصاغة في “الجمهورية الإسلامية في إيران”.

وعلى الرغم من هذا النهج الذي لا يمت إلى لبنان بصلة، راح يرصد كل موقف لبناني معارض لما يقوم به من أجل تخوينه هنا وتحقيره هناك، وكأنّ المطلوب من اللبنانيّين أن يضحوا بأنفسهم وممتلكاتهم ووطنهم، من أجل قضايا يتم استيرادها إليهم، أهدافًا، أساليب وأدبيات.

ولكن ثمّة تغييرات طرأت بوضوح يوم السبت الماضي، عندما تمّ إبعاد “حزب الله” عن تنظيم تشييع شهداء غارة النبطية المدنيّين، بحيث جرى لف نعوشهم بالعلم اللبناني، وصدحت الحناجر في وداع الشهداء بشعار وطني لا حزبي ولا “إيراني”، فامتلأ الفضاء بـ”لبيك يا جنوب”!

وقد لاحظ المراقبون أنّ التعاطي اللبناني مع شهداء النبطية المدنيّين جاء مختلفًا عن التعاطي مع كل المآتم السابقة، بحيث شعر كثيرون بفداحة الخسارة انطلاقًا من “الجامع الوطني”، ولو أنّ السؤال عن جدوى الحرب التي أودت بهؤلاء الشهداء لا يزال مطروحًا بقوة.

وللإنصاف فإنّ البعد اللبناني في هذه الحرب الحدودية التي فتحها “حزب الله” من أجل ما يسمّيه مؤازرة غزّة ومساندتها، كان قد بدأته “حركة أمل” مع سقوط أوّل شهيد لها من شهدائها العشرة الذين قدّمتهم حتى تاريخه.

فـ”أمل” التي هي اختصار لـ”أفواج المقاومة اللبنانيّة”، لم تدخل الحرب باسم غزة، ولم تقدم شهداءها في حرب “على طريق القدس”، بل حرصت في بياناتها على الجزم بأنّها تقوم بما تقوم به دفاعًا عن الجنوب اللبناني.

وفي تحليل سريع لنعاوي “حركة أمل”، يظهر بوضوح أنّ أدبيّاتها تختلف جوهريًا عن تلك التي يعتمدها “حزب الله”، إذ إنّها تتضمن في متنها الآتي: “بمزيد من الفخر والاعتزاز تزف أفواح المقاومة اللبنانية “أمل” إلى قائدها سماحة الإمام موسى الصدر وجماهيرها المؤمنة، الشهيد(…). استشهد أثناء قيامه بواجبه الوطني والجهادي دفاعًا عن لبنان والجنوب. إنّ أفواج المقاومة اللبنانيّة “أمل” تعاهد الشهيد وجماهيرها بأن تبقى على العهد والقسم للقائد المؤسس وللشهداء بأن نكون فدائيي أرضنا المقدسة مهما غلت التضحيات”.

في هذه النعاوي التي تصدرها “أمل” تبدو المرتكزات لبنانية: القائد هو الإمام موسى الصدر، “الواجب وطني”، المدافع عنه “لبنان والجنوب”، والمقدس هو “أرضنا”.

في المقابل، فإن “حزب الله” يحرص على تغييب المصلحة اللبنانيّة عن التضحيات التي يقدّمها في هذه الحرب، فهو في نص نعي شهدائه يعتمد الصيغة الآتية: “بمزيد من الفخر والاعتزاز، تزف المقاومة الإسلامية في لبنان الشهيد المجاهد(…)، والذي ارتقى شهيدًا على طريق القدس”.

إذًا، وقبل أن تدخل “حركة أمل” على خط تقديم الشهداء، لم يكن اللبنانيون يجدون ذكرًا لوطنهم في ما يحصل في الجنوب، إذ إنّ “حزب الله” ينعى شهداءه باسم “المقاومة الإسلامية في لبنان”، أي باسم تنظيم انطلق من إيران ونسخ نفسه في العراق واليمن وسوريا ولبنان. ويقود “المقاومة الإسلاميّة” مرشد الجمهوريّة الإسلامية في إيران السيد علي خامنئي وينسق نهجها وأعمالها وأجندتها قائد “فيلق القدس” في “الحرس الثوري الإيراني”.
وتقدم “المقاومة الإسلامية في لبنان” مثلها مثل “المقاومة الإسلامية”، في أي بلد آخر جرى إلحاقه بـ”محور المقاومة”، شهداءها على أنّهم سقطوا “في الطريق إلى القدس”.

بالنسبة لكثيرين لا يقدّم هذا الاختلاف في الأدبيات اختلافًا في الميدان، إذ إنّ الأقوى، أي “حزب الله”، يمكن أن يستفيد من هذا التمايز مع الأضعف، أي “حركة أمل”، من أجل تحصين حربه وإعطائها دفعًا إضافيًّا.

قد يكون هذا صحيحًا، لكنّ الصحيح أكثر أنّ اضطرار “حزب الله” إلى قبول هذا التمايز، يعني أنّه، للمرّة الأولى، بدأ يشعر بثقل الحالة الشعبيّة التي، بعيدًا عن الأفلام الدعائية التي يبثها، تعيش حالًا من التململ والاستياء والاضطراب من التضحية بها من أجل مشاريع لا علاقة لها بها ولتحقيق أهداف تبدو لها وهميّة.

ولعلّ هذا التمايز هو ما كان قد أثار غضب “حزب الله” الكبير على البطريرك الماروني الكاردينال بشارة الراعي، حين تلا مقتطفات من رسائل وصلته من أهالي الجنوب، تبيّن غضبهم من “حزب الله” وحروبه وتكتيكات معاركه، تحت عنوان عريض: نرفض أن نكون وعائلاتنا كبش محرقة لثقافة الموت التي لم تجر إلا انتصارات وهمية!

فارس خشان

مقالات ذات صلة