الحريري وجمهوره بذكرى الأب المغدور: كان لا مفرّ من التعاطف الوجدانيّ!

شيوخٌ ونسوةٌ وأطفال ومئات الشباب الغيارى على الإرث المضمحل، آلافٌ مؤلفة، وقفت ظهر اليوم الأربعاء 14 شباط، في ساحة الشهداء. آلافٌ مضت خارجةً من منازلها الأمينة والدافئة، نزولًا من الأطراف نحو وسط العاصمة، متدثرةً بأغطيتها البلاستيكيّة وأعلامها الزرقاء، للمشاركة في “الكرنفال التأبيني الوطنيّ”، وللوقوف على خاطرة الرئيس المُعتكف “المغلوب على أمره”، ابن الرئيس الراحل، الذي اغتيل على حين غرّة، فرحل معه أي أملٍ بحلحلة الجمود الذي طرأ على الكيان اللّبنانيّ وهيكله المهترئ.

اجتماع بشريّ ضخم، مبللٌ بمياه الأمطار المنهمرة بشدّة، ازدحم في البقعة الملاصقة لضريح الرئيس الشهيد ورفاقه، متناسيًّا هزائمه اليوميّة، متجاوزًا لهنيهة من الزمن كل ما اختبره من متلازمة الإحباط والميلانكوليا السياسيّة والمذهبيّة وحتّى الاقتصاديّة، ومعلقًا كل آماله وأمنياته، برجاءٍ روحيّ حميم لخطوةٍ ولو مجهريّة قد يخطوها الرئيس المستقيل سعد الحريري، لتفسيرٍ منطقيّ لتسريحة شعره الجديدة أو لصمته السياسي، لعلّه بذلك، يكسر هذا الخمول الفجّ الذي تعيشه السّياسة اللّبنانيّة، صانعًا الحدث الذي قد يخلخل الستاتيكو الجاف الذي يتربص بالمشهد العام.

الذكرى التاسعة عشر
خلال الوقفة الرمزيّة، افترش الحاضرون الأرض، فيما أحضر بعضهم المأكولات والوجبات الخفيفة. ورقص الأطفال (بعضهم مطلية وجوههم باللون الأزرق) على وقع الأناشيد الحماسية وكذلك أغاني التيار التّي غلب عليها طابع الحنين لحضور زعيم التيار من منفاه الطوعيّ. واتسمت الوقفة التّي تمّ التحضير لها، لجهة نصب الصور والأعلام والتجهيزات الصوتيّة، بتشددٍ أمنيّ وحضور لافت للأجهزة الأمنيّة المختلفة وتحديدًأ مكافحة الشغب والاستقصاء، واتسق مع تطويقٍ لمحيط الوقفة ومحيط ساحة الشهداء، حيث سدّت منافذ الطرقات، المؤديّة إلى موقع الاغتيال في محلة السّان جورج (الطريق البحريّ)، والمؤدية إلى الوسط التجاريّ، الأمر الذي تسبب في زحمة سيرٍ خانقة، على امتداد المساحات العموميّة في العاصمة. وحضر آخرون أمام بيت الوسط، لاستقبال الرئيس المستقيل والاحتفاء به.

وكما كان متوقعًا، لبت جماهير “تيار المستقبل” الدعوى الشعبيّة بمناسبة ذكرى مرور 19 سنة على اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وتوافدت الحشود من شتّى المناطق وتحديدًا من الشمال والبقاع الغربي والشماليّ، وبحشودٍ أقلّ من الجنوب، بالباصات ومواكب السّيارات، لاستقبال نجله، بروحيّة شبيهة لحدٍّ ما بالعرفان بالجميل وتأبين المدينة التّي فقدت أباها الروحيّ وكذلك “تجديدًا للبيعة”، وإثبات أن أنصار التيار والشارع السّنيّ لا يزال حاضرًا في السّاحة الوطنيّة، وهم رصيد الحريريّة السّياسيّة (ما تبقى منها). واتسمت الوقفة، بأجواءٍ احتفاليّة مبهجة ممزوجة بشيءٍ من الحنين، تمّ استئنافها بعد دقيقة الصمت التّي تخللها قراءة الحريري، سورة “الفاتحة” عن روح والده، وسرعان ما تفرقت الجموع بسبب الأحوال الجويّة، بالرغم من الدعوات التّي بُثت على مدار الأيام السّابقة، لافتعال حدثٍ شعبيّ يلزم سعد الحريري على البقاء في لبنان.

الخطبة الموجزة
وبعودته إلى بيت الوسط، خطب الحريري بالجموع التّي احتشدت احتفاءً به، قائلًا، “نشكر كل الذين حضروا إلى ضريح الشهيد رفيق الحريري الذي دفع دماءه من أجل هذا البلد”. وأضاف الحريري: “الرئيس الشهيد كان يحمل مشروع المستقبل وقد استشهد لأنه كان وسطيًا وداعٍ للاعتدال وكان يسعى للنهوض بهذا البلد”. وتابع، “أينما كنت سأبقى إلى جانبكم ومعكم وسعد الحريري لا يترك الناس وكل شيء بوقته حلو وأنتم عدتم الى الساحة.. وبلاكن ما في شي ماشي بهالبلد”.

هذا من دون أن تنضويّ الخطبة، على تأكيدٍ أو مسارٍ واضح، بالعودة أو الاعتذار عنها، بل كانت ضبابيّة وتشي بالتحضير للخطوات المقبلة، وسط تهافت التصريحات الرسميّة والسّياسيّة التّي تمنت على الحريري العودة إلى النشاط والعمل السّياسيّ في لبنان.

وإن كان لا مفرّ من التعاطف الوجدانيّ، تجاه هؤلاء الذين حضروا برغبتهم المتقدة والمستميتة لحلٍّ ما (أو لمجرد عودة زعيمهم كصمام أمانٍ لهم) بالرغم من الأحوال الجويّة المضطربة، والخطر الأمنيّ المتمثل بالتصعيد الجنوبي، فإن المشهد اليوم على الرغم من الضجّة الإعلاميّة والشعبيّة التّي أحاطت به، يضعنا أمام إقتراحٍ معاد ومكرّر، لنظامٍ سياسيّ قائم على الحنين الجماهيريّ والعاطفة الشعبيّة، من دون منهجٍ جليّ أو حاجةٍ لإعادة التّأهيل أو الحوكمة الصحيحة. بل يطرح تساؤلات، شعبوية في الظاهر، جوهريّة في الصميم، عن الوقت الذي قد يتعظ فيه اللبنانيين من دروس الماضي.

مقابلة “الحدث”
وفي مقابلة مع قناة الحدث قال الحريري “لن أعود عن قراري الآن في ما يخصّ الابتعاد عن الحياة السياسيّة”. مشيراً إلى أن “عودتي للمشهد السياسي من عدمها ليست أولوية شعب لبنان”. وأَضاف، “لحظة تعليقي للسياسة أتت للأسباب التي عبرت عنها ورأيت أنّ لبنان يمرّ في مرحلة خطرة وما زلنا في مرحلة خطرة. إذ لا انتخاب للرئيس ولا أي شيء في هذا المجال”. وفيما يتعلق بحرب الجنوب، اعتبر أنه “من الواضح أنّ نتنياهو يريد تحويل الوضع في لبنان إلى سيناريوهات مختلفة”. وزعم بأن “الحزب وإيران اليوم لا يريدان الحرب مع اسرائيل. ونحن علينا الوقوف مع غزة وعدم إبعاد المشهد عن غزة”. وعن قضية إغتيال الرئيس رفيق الحريري قال: “تصرّفنا بعد قرار المحكمة الدولية كان على أساس أننا لم نرد أن نتسبّب بحرب أهلية في لبنان”. وقال: “أنا مؤمن بربّي وواثق بأن الذين اغتالوا رفيق الحريري بدأوا بدفع الثمن”. وعن عدم تسليم المتهم بقتل والده، أجاب: “بشّر القاتل بالقتل ولو بعد حين، ولابد أنهم سيدفعون الثمن وهم يدفعون هذا الثمن”. وأكد أنه “لم أخرج من محبة اللبنانيين ووجودي بينهم وهذا الأمر سيستمر خصوصاً على الصعيد الإنساني”.

بتول يزبك- المدن

مقالات ذات صلة