المصارف تستعد للمعركة… والمجلس النيابي يتحضر لخطط جهنميّة!

تستعد الحكومة لمناقشة مسودّة مرسوم مشروع القانون الخاص بإصلاح وضع المصارف في لبنان، خلال الأيّام القليلة المقبلة. وكما بات متداولًا حتّى اللحظة، سيدمج القانون ما بين مسودّات مشروع قانون إعادة التوازن إلى النظام المالي، الذي ينظّم عمليّة تسديد الودائع تدريجيًا، ومسودّات مشروع قانون إعادة هيكلة القطاع المصرفي، الذي يضع معايير استمرار المصارف أو تصفيتها.

المصارف تتطيّر من كلمة “إعادة الهيكلة”
بشكل عام، باتت المصارف تتطيّر من سماع كلمة “إعادة الهيكلة”، بعدما دلّت تجربتها أنّ أي مشروع لإعادة الهيكلة لا يمكن أن يتخطّى فكرة شطب الرساميل أو استدعاء مساهمين جدد للقطاع. فتناقص قيمة الرساميل يمكن تحمّله، لكن خسارة السيطرة على المصارف أو تغيير إداراتها غير مسموح.

على هذا النحو، لم تعد المصارف تتعامل مع المسودّة المستجدّة كمشروع يُفترض مناقشته أو البناء عليه، بل باتت تميل لرفع السقف قدر الإمكان، تمهيدًا لتطييره. وفي مقابل تطيير إعادة الهيكلة العقلانيّة، او الطبيعيّة بمعايير دول القانون والمؤسسات، يستعد اللوبي المصرفي في المجلس النيابي لتحضير البدائل الخارجة عن العقل والمنطق، والخارجة حكمًا عن أي تفاهم مع صندوق النقد أو حملة سندات اليوروبوند.

في المجلس النيابي، يتم التداول بأفكار مثل: مؤسسة إدارة أصول الدولة، أو الصندوق الإئتماني، أو غيرها من المسميات التي تتحايل لتحويل الودائع إلى ديون عامّة لن تُسدّد في المستقبل. مشاريع حرق الأخضر واليابس تُطبخ هناك، في المجلس النيابي، وحروب إسقاط الحلول تبدأ في الحكومة.

شروط المصارف لإعادة الهيكلة
في واقع الأمر، تختلف درجة العقلانيّة في طرح الشروط والفيتوهات بين مصرف وآخر، بحسب نوعيّة ارتكابات كل مصرف، أو بحسب قدرته على إعادة الرسملة، أو بحسب هشاشة رساميله القائمة أصلًا، أو حتّى بحسب علاقة أصحاب المصرف بالسياسيين والعمليّات المشبوهة. بمعنى أوضح، لا يمكن تعميم ورقة مواقف واضحة على جميع المصارف، لكن يمكن فهم القواسم المشتركة الأساسيّة، أو الحد الأدنى من الشروط التي تتفق عليها.

وهذه الشروط، تم تسويقها في النقاشات التي جرت خلال الأيّام الماضية، بين استشاريي ولوبيات المصارف، وبعض دوائر القرار المؤثّرة في مصير مسودّة مشروع إصلاح القطاع المصرفي.

وعليه، يمكن تلخيص هذه الشروط المصرفيّة الأساسيّة على النحو التالي:

– يمكن للمصارف أن تستوعب اقتطاعات محددة من رساميلها، لتحمّل جزء من الخسائر. غير أن الممنوع هو أن تصل هذه الاقتطاعات إلى حد تغيير ملكيّة أي مصرف، أو تغيير الجهة المسيطرة على مجلس إدارته. بمعنى أوضح، المهم أن لا يخسر مدراء المصارف مصارفهم، أمّا خسارة جزء من الرساميل فيمكن تحمّلها وتعويضها في المستقبل. المساس بملكيّات المصارف، سيُقابل فورًا بحديث طائفي عن تغيّر هويّة القطاع. بالمختصر المفيد: على الإدارات التي ارتكبت وأساءت الإدارة في الماضي، أن تؤتمن على أموال المودعين في المستقبل.

– لضمان تنفيذ الشرط الأوّل، ترفض المصارف أن يتم إقصاؤها عن مركز القرار في عمليّة إعادة الهيكلة، حتّى لو عنى ذلك تحدّي سيطرة مصرف لبنان على هذا المسار. عند طرح المسودّة الأخيرة من قانون إعادة الهيكلة، لم تجد جمعيّة المصارف حرجًا في أن تستنكر –علنًا، وفي نشرتها الدوريّة- أن يكون مصرف لبنان المقرّر والحكم في هذا الموضوع. بصورة واضحة، يجب أن تكون المصارف شريكًا في تحديد المصارف التي ستستمر بالعمل، وفي تحديد شروط هذه الاستمراريّة. سيكون ذلك مثيرًا للسخرية طبعًا، لكن هذا ما تطلبه المصارف: أن تراقب نفسها وتحدد بنفسها مصيرها، وأن تعاقب نفسها إذا فشلت في تحقيق متطلبات إعادة الرسملة.

– لا مشكلة مبدئيّة في اقتطاع أي جزء من الودائع، عبر تمييزها بين ودائع مؤهلة وودائع غير مؤهلة، وعبر اعتماد أسعار صرف مختلفة لسدادها. المشكلة ستبدأ حين يتم تمييز الودائع بحسب مصدرها، أو بحسب مشروعيّتها، أو بمعنى آخر: حين يتم فتح الدفاتر وتمييز أرباح الهندسات الماليّة أو الفوائد الفاحشة، أو عند البدء بالسؤال عن كيفيّة تكوّن الوديعة. المطلوب أولًا رسم خط فاصل زمني، يعزل كل ما جرى في الماضي، عن ما سيجري في المستقبل. وعند البدء بالسؤال عن مصدر الوديعة، فعنوان قدسيّة الودائع، ورفض مشاريع إعادة الهيكلة بهذه الحجّة، جاهز وحاضر.

– لا مشكلة في قانون للكابيتال كونترول، بالتوازي مع إعادة الهيكلة، لكن المرفوض هو تحديد حد أدنى للسحوبات النقديّة بالدولار.

– لا مشكلة في خلق صندوق استثماري يُصدر سندات تُسدد بعد عشرات السنوات، على أن يتم توظيف مبالغ معيّنة من الصندوق في استثمارات دوليّة لتكوين الأرباح الكفيلة بالسداد. المشكلة ليست في عدالة الفكرة بالنسبة للمودع، لكن شرط المصارف هو أن يتم تمويل الصندوق من الدولة أو مصرف لبنان حصرًا. ستصبح الفكرة مجحفة وظالمة فقط إذا طُلب من المصارف تمويلها.

– البحث عن الأموال المهرّبة إلى الخارج ممنوع، ولا يمكن اعتبار تهريب أصحاب المصارف لأموالهم جرائم احتياليّة بمفعول رجعي.

– ممنوع أن ينص أي قانون على مسؤوليّات شخصيّة بالنسبة لأصحاب المصارف أو أعضاء مجالس إدارتها.

– المصارف القائمة حاليًا ستحتكر القطاع حتّى تُعاد هيكلته، ودخول مصارف جديدة ونظيفة ممنوع.

أدوات حرق مشروع إعادة الهيكلة
قد يبدو كل ما سبق سقفًا مرتفعًا، نسبة إلى مصارف متعثّرة وغير قادرة على السداد، ونسبة إلى قطاع أمضى أربع سنوات من دون أن يخضع لعمليّة إعادة الهيكلة البديهيّة في هذا النوع من الظروف. غير أن مواجهة مسار إعادة الهيكلة خلال الأيّام المقبلة لن تكون بالإفصاح عن أولويّات المصارف الصريحة، أو عن شروطها التي تُقال في الغرف المغلقة، بل بعناوين برّاقة إعلاميًا، مثل حق الملكيّة الفرديّة وقدسيّة الودائع وحقوق الطوائف برساميل مصارفها…إلخ، تمامًا كما حصل العام 2020 مع خطّة لازارد.

وعلى هذا النحو، تمارس المصارف ازدواجيّة في عملها، فتطرح العناوين المنحازة للمودعين إعلاميًا، وتطرح في المقابل شروطها القاسية عند الضغط على أصحاب القرار. وإذا كانت الشروط كبيرة وحادّة، فهذا طبيعي، لكون المصارف لا تملك ما تخسره في هذه اللعبة. فالإطاحة بمسار إعادة الهيكلة، في حال فشل التوافق على شروط هذا المسار، سيصب في مصلحة المصارف. وخضوع الحكومة لشروط المصارف، سيصب أيضًا في مصلحة المصارف. وفي جميع الحالات، بات المجلس النيابي مهيئًا للخطط الجهنميّة البديلة عن إعادة الهيكلة، أي خطط تحويل الودائع إلى ديون عامّة.

علي نور الدين- المدن

مقالات ذات صلة