هل عطّلت الـB1 “وحدة الساحات”…وقطّعت “سلاسل” الجبهات التي تقودها طهران؟

داتا البنتاغون المخبّأة تخرج إلى مسرح العمليّات

أيّ عقل جهنّمي هذا الذي نجح في تشتيت الأنظار عمّا يواصل الاحتلال الإسرائيلي ارتكابه من مجازر وفظاعات في غزة، فجذب الأنظار نحو مسرح عمليات آخر حيث القصف الأميركي الجوّي ضدّ الميليشيات الموالية لإيران في العراق وسوريا وضدّ الحوثيين في اليمن، بعد قتل “المقاومة الإسلامية” في العراق ثلاثة جنود أميركيين في الأردن وجرح أكثر من أربعين، وبعد قصف الحوثيين لسفن تجارية واستهداف سفن حربية أميركية؟

سواء كان مخطّطاً له أم لا، النتيجة واحدة. بدأ تشتيت الأنظار عن مأساة غزة منذ أواخر شهر كانون الأول الماضي حين انطلق التصعيد في البحر الأحمر، وضدّ الجيش الأميركي في كلّ من سوريا والعراق، مطالباً بانسحابه من بلاد الرافدين وبلاد الشام، ومستفيداً من تبلُّغ طهران من واشنطن بأنّها لا تريد الحرب معها. وجذب كلّ ذلك المزيد من الحشد العسكري الأميركي إلى المنطقة.

استدراج أميركا… ومفاوضات الهدنة ومحكمة العدل
تصدّر الحديث عن قاذفات الـ B1الآتية مباشرة من أميركا، وقنابل الألفَي باوند التي تحملها… واستهدافها اليمن وصولاً إلى صنعاء، وقصف قواعد ميليشيا “الحشد الشعبي” العراقي والتشكيلات العسكرية الواقعة تحت الإشراف الإيراني المباشر في سوريا، واختلط مع الأحداث الميدانية في غزة.

تزامن تدحرج الوقائع العسكرية مع محطّات لها صلة بما آلت إليه الصورة السياسية لمساعي التوصّل إلى هدنة:

1- التفاعلات التي تركها قرار محكمة العدل الدولية غير المسبوق، بإعلانها قبول دعوى دولة جنوب إفريقيا ضدّ إسرائيل بتهمة ارتكاب جرائم إبادة جماعية، ومطالبتها الدولة العبرية بوقف الأفعال المتّصلة بذلك وبالسماح بدخول المساعدات الإنسانية، مع بدء عملية جمع الأدلّة كي تأخذ المحاكمة الطويلة مجراها.

2- تكثيف الاتصالات الدولية من أجل إعادة تفعيل صفقة تبادل الرهائن الإسرائيليين بالأسرى الفلسطينيين، على أن تقترن بهدنة إنسانية لإدخال مساعدات إلى القطاع المنكوب، تؤسّس لوقف الأعمال الحربية ولمرحلة جديدة في الحرب تقوم على العمليات الخاصّة ومحاولة اصطياد قادة “حماس”. وانحصرت المفاوضات في هذا الصدد بالولايات المتحدة الأميركية، مصر، قطر وإسرائيل. وما حرّك الاندفاع الغربي نحو الهدنة ضغوط التحوّلات في الرأي العامّ في أوروبا وأميركا تضامناً مع غزة وحاجة الإدارة الأميركية إلى رفع هذه الضغوط عن الحملة الانتخابية للرئيس جو بايدن، وليست عملياّت الأذرع الإيرانية لمساندة غزة.

3- تكثيف الحركة الدبلوماسية الأميركية الفرنسية البريطانية والضغوط الدولية باتجاه لبنان وإسرائيل لتجميد جبهة جنوب لبنان المفتوحة منذ 8 تشرين الأول الماضي منعاً لتوسيع الحرب.

4- جمود التفاوض الأميركي الإيراني غير المباشر عبر القناة العُمانية بسبب الخلاف حول مقاربة ملفّ إيران النووي، منذ أواخر كانون الأول الماضي، بموازاة استثناء طهران من الاتصالات حول الهدنة و”خفض التصعيد” في جنوب لبنان. وأدّى تسخين الجبهات إلى معاودة الاتصالات غير المباشرة بين الجانبين عبر القناة القطرية.

داتا البنتاغون المخبّأة تخرج إلى مسرح العمليّات
أعاد التصعيد العسكري إيران ودورها إلى الواجهة عبر تحريك هذه الأذرع في سوريا والعراق واليمن في البحر الأحمر وبحر العرب، حيث تعثّرت الملاحة الدولية للمرّة الأولى منذ عقود. فالمرّة الأخيرة التي خضع فيها أمن الممرّات المائية للتهديد الجزئي كانت إبّان الحرب العراقية الإيرانية في ما سمّي حينئذٍ “حرب السفن”، في ثمانينيّات القرن الماضي. وطغى الحديث عن استهداف “الميليشيات الإيرانية” على استهداف العمليات الإسرائيلية لـ”حماس”. وخضعت مياه البحار المحيطة بالخليج واليمن لتدويل غير مسبوق، مع انضمام الاتحاد الأوروبي إلى أميركا وبريطانيا وفرنسا… بقرار دوله إرسال قوّة بحريّة مشتركة لحفظ أمن الملاحة الدولية.

هكذا أخرج البنتاغون ووزارة الدفاع البريطانية الداتا من بنك الأهداف المتعلّقة بالمواقع العسكرية للحوثيين في اليمن، خلافاً لإبقائها في الدرج، في مراحل سابقة، مثل القصف الحوثي لمنشآت أرامكو في منطقة البقيق السعودية في 14 أيلول عام 2019 ثمّ لمنشآت الشركة السعودية في جدّة في 26 آذار عام 2022.

“إعفاء” إيران من مساندة حلفائها
على الرغم من أنّ الرئيس الأميركي جو بايدن أعلن أنّ إيران تتحمّل “مسؤولية جزئيّة” لأنّ الطائرة المسيّرة التي قتلت الجنود الأميركيين الثلاثة في الأردن، من صنع إيراني، فإنّ قوله إنّه لا يريد توسيع الحرب (مع إيران) يفسّر المعطيات عن أنّ واشنطن أخطرت طهران عبر العراق وقنوات أخرى (كما نشر “أساس” قبل يومين وأكّد ذلك الناطق باسم مجلس الأمن القومي جون كيربي يوم السبت) بالضربات التي قرّرت تنفيذها، فأتاحت لقادة “حرس الثورة” الابتعاد عن المواقع التي استُهدفت في سوريا والعراق. لكنّ الضربات استهدفت في اليمن مثلاً مخازن ذخيرة تحت الأرض ومنصّات صواريخ ومواقع إطلاق مسيّرات ورادارات ومراكز عمليات وقيادة وتحكّم في 6 محافظات ليل الجمعة ويومَي السبت والأحد الماضيين، ومثلها في العراق ضدّ “الحشد الشعبي”، وفي سوريا ضدّ التشكيلات العسكرية التي يقودها “مستشارو قوّة القدس” الإيرانية.

إعلان مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان أنّها “البداية”، وتحديد مسؤولين أميركيين آخرين بأنّ الهدف هو “إضعاف قدرة الميليشيات على القيام بهجمات مماثلة للهجوم الذي استهدف قاعدة أميركية في الأردن”، وتوقّع استمرارها في “جولات متعدّدة”، تفضي إلى جملة استنتاجات:

– بينما يعتبر مراقبون أنّ استخدام قاذفات الـB1 خطوة “استراتيجيّة”، بدا أنّ الاتصالات فعلت فعلها في تجنيب الداخل الإيراني، وبالتالي إعفاء طهران من الدفاع عن ميليشياتها.

تعطيل وحدة الساحات؟
– الضربات الأميركية تقطع “سلاسل” وحدة الساحات والجبهات التي تقودها طهران، إذا استمرّت في تجريد الحوثيين من القدرة على تهديد سلاسل الإمداد البحرية، وإذا نجحت في تجريد الميليشيات في العراق وسوريا من البنية التحتية والمخزون التسليحيّ الذي يتيح لها استهداف القوات الأميركية تارة وإسرائيل تارة أخرى (من سوريا خصوصاً حيث تلاحق الطائرات الإسرائيلية في شكل دوري شحنات الأسلحة والصواريخ الآتية من إيران).

حسابات الحزب وتغليب التفاوض
– استمرار الضربات الأميركية يوجب على “الحزب” حسابات مختلفة إزاء فرضية إقدام إسرائيل على شنّ حرب ضدّه وضدّ لبنان بذريعة إبعاده عن الحدود لضمان عودة مستوطني الشمال الإسرائيلي النازحين، إذا نجحت ضربات الـB1 في تعطيل وحدة الساحات، وبالتالي مؤازرة “الحزب” في أيّ حرب محتملة على الرغم من القدرات الصاروخية الكبيرة التي يملكها وتفوق قدرات أيّ من الميليشيات الأخرى.
– إضعاف أذرع إيران أحد مطالب عدد من الدول العربية التي اضطربت علاقتها مع الولايات المتحدة في السنوات الماضية بسبب مسايرتها لإيران وتوسّع نفوذها الإقليمي. فهل تحقّق العمليات العسكرية الأميركية لها ما تريده؟
بعض الدوائر الضيّقة في واشنطن والغرب وجدت في الاندفاعة العسكرية الأميركية دليلاً إلى الاستعداد للحرب، فيما ترجّح الاستنتاجات المذكورة أعلاه معطيات عن تغليب التفاوض والتسويات بالتزامن مع إنجاز ترتيبات الهدنة على جبهة غزة.

وليد شقير- اساس

مقالات ذات صلة