تخوين “الحزب” للقادة المسيحيين أبعد من فورة غضب و“فشّة خلق”!
عملية تخوين للمسيحيين من الممانعة ترتقي إلى مستوى التكفير
لا تكاد تنتهي حملة مبرمجة من أنصار محور الممانعة على أحد القادة المسيحيين حتى تبدأ أخرى، وكان أخطرها منذ أيام، مستهدفة البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي كرد فعل على عظته التي تضمنت صرخة صريحة وواضحة لمعاناة أهالي الجنوب بسبب حروب “حزب الله” من دون أن يسمّيه، معترضاً على تحويل الجنوبيين “رهائن ودروعاً بشريّة وكبش محرقة لسياسات لبنانية فاشلة، ولثقافة الموت التي لم تجر على بلادنا سوى الانتصارات الوهميّة والهزائم المخزية”.
ليست المرة الأولى التي يتعرّض فيها البطريرك الراعي لتهجّمات مغرضة تتضمن إهانات مخزية له ولبكركي، والجهة التي تقوم بذلك معروفة الانتماء ومن يقف وراءها وأهدافها، وهو “الحزب” على الرغم من إنكاره وغسل يديه منها، إلا أنه لا يمكن لعقل بشري أن يقتنع بأنها عفوية وبريئة ومجرد فورة غضب، لأن الجيوش الالكترونية على مواقع التواصل الاجتماعي باتت جزءاً من الهيكليات الحزبية، وبالتالي لا أحد يُصدّق أنها تتحرّك من تلقاء نفسها.
والبطريرك الماروني على الرغم من عدم ذكره “الحزب” بالاسم، إلا أنه بتوصيفه هاجم اسرائيل عبر كلامه عن “الغارات اليوميّة وأصوات القذائف المدوية” من جهة، وانتقد ضمنياً توجهات “الحزب” عندما استعرض حالة الجنوبيين وتخلي الدولة عنهم والحرب المفروضة عليهم والسياسات الفاشلة وأخذهم كدروع بشرية من جهة أخرى.
من المؤكّد أن البطريرك كان ينقل وجع أبنائه الجنوبيين، وهذا ما أثار سخط “حزب الله” وأنصاره، فبدأ بنشر صور البطريرك بلباس جنرال اسرائيلي وما إلى ذلك من إهانات وشتائم لا تُعد ولا تحصى، إلا أن القضية أعمق من ذلك بكثير وتنسحب على جميع القادة المسيحيين وكأن هناك خطة لرفع سقف الاعتداءات على المسيحيين في لبنان وتفريغ المواقع المسيحية في الدولة بدءاً من رئيس الجمهورية، كما يركّز الراعي دائماً في عظاته، علماً أن سياسة التخوين ضد بكركي وصلت إلى ذروتها عندما تم توقيف راعي أبرشية حيفا والأراضي المقدسة والنائب البطريركي على القدس والأراضي الفلسطينية والمملكة الهاشمية في الطائفة المارونية المطران موسى الحاج.
وسبقت الحملة على الراعي، عمليات تخوين من أنصار “الحزب” لرئيس حزب “الكتائب” سامي الجميل لأن طروحه عن رفض الأحادية والتحكم بمفاصل البلد وجرّه إلى أتون الحرب، لم تعجب قيادة “الحزب”، وهذا ما يحصل أيضاً بعد كل مقابلة لرئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع، مطلقين عليه صفة “الصهيوني”، تلك التهمة الجاهزة المعلّبة والسخيفة لترهيب المعارضين لـ”الحزب”، ويبدو أن هذه الحملات لن تتوقف، وخصوصاً أن “الحزب” مع محوره مأزوم وغير مرتاح اقليمياً نتيجة الضغوط الاسرائيلية والدولية، ويريد عدواً داخلياً يلهي مناصريه به في هذا الوقت.
لكن الأستاذ الجامعي الدكتور بيتر جرمانوس يؤكّد أن المسألة ليست مجرد “فشة خلق”، بل هي عملية تخوين للمسيحيين من الممانعة ترتقي إلى مستوى التكفير، وتخفي نوايا بالاضطهاد على خلفية دينيّة، ولا بد من التنبّه الى هذا الأمر وأرشفة هذه الحملات ونقلها إلى المراجع الدولية.
ويشرح جرمانوس أن جماعة “الحزب” تتبنّى سرديّة التخوين، وتتعامل مع كل مكوّن لبناني على نحو معيّن، فتُلصق بالمسيحيين مسألة العمالة لاسرائيل، وتتّهم السُنّة بالداعشية، وحتماً هذه المجموعة تستسهل عملية التخوين، بل انها تنزع المواطنية والانسانية عن شركائها في الوطن لمصلحة مشروعها الديني، واللهم أن لا يتبع ذلك بعد نهاية “ميني” الحرب الجنوبية حملات تصل إلى تكفير دمنا وقتلنا. ولا شيء مستبعداً، فالزعيم النازي الألماني ادولف هتلر كان يتّهم اليهود بأنهم يملكون الأموال وبالتالي يجب قتلهم ومصادرة أموالهم وأرزاقهم قبل إبادتهم، والأتراك خوّنوا الأرمن واتهمومهم بالعمالة لليونان ثم نفّذوا عملية الابادة.
واللافت أن تعبئة “الحزب” لجمهوره وجيشه الالكتروني خطيرة جداً، ويرى جرمانوس أنها ليست بريئة بتاتاً، وما على المرء سوى مطالعة جريدة “الأخبار” التي تمثّل فكر “الحزب”، فهي تُمعن في التهجّم على الرموز والقامات المسيحية على نحو منهجي، ولم توفّر في هذا المجال قاضياً أو رجل دين أو رجال أعمال أو ضباطاً. من الواضح أن هناك ضغطاً مستمراً على البيئة المسيحية العميقة لحملها على عدم التعاطي في السياسة.
ولا يبدو أن لحلفاء “الحزب” المسيحيين أي “مونة” عليه لعدم التعرّض للمقامات المسيحية، ويقدّم جرمانوس أمثلة عدة حصلت خلال عهد الرئيس السابق ميشال عون مثل توقيف المطران موسى الحاج، ملاحقة ميشال مكتّف حتى الموت، ومهاجمة قائد الجيش العماد جوزيف عون وغيرها.
يحاول المسيحيون المعارضون لمشروع “الحزب” الاستمرار في المواجهة، ويشير جرمانوس إلى أنهم يقومون بدورهم، علماً أن البابا فرنسيس منذ فترة، طلب الاجتماع بكل الكنائس في لبنان، وعندما سألهم ما هي مشكلاتكم؟ وماذا تريدون؟ كانت خيبة الأمل الكبيرة، إذ نقل اليه رؤساء هذه الكنائس صورة مغايرة للواقع مضمونها أن لا مشكلات لديهم!
أما رئيس حزب “حركة التغيير” المحامي ايلي محفوض فلا يوافق على أن هناك استهدافاً للمواقع المسيحية، لأن “حزب الله” يُشجّع حلفاءه المسيحيين على الوصول إلى المواقع المتقدمة في الدولة، إلا أنه يختار “المحسوبين” عليه. ويلفت إلى أن الحملة على البطريرك وبكركي قد تتكرر، لأننا فقدنا حسّ المبادرة كجماعة مسيحية وأصبحنا نكتفي برد الفعل، وقد يأتي يوم يتدخلون فيه بانتخاب البطريرك الماروني، إذا لم تعد كل القوى المسيحية إلى ثوابت المسيحيين التاريخية.
ويختصر المشكلة بأنها ليست في الفريق الآخر أي “الحزب” لأن من سبقه لم يكن متساهلاً مع المسيحيين من الموجة الناصرية مروراً بياسر عرفات وحافظ الأسد وصولاً إلى خامنئي، إلا أن محفوض يعتبر أن في الأمس كانت هناك رهبانية مارونية صلبة ممثلة بالأباتي شربل قسيس والأباتي بولس نعمان وبشير الجميل وشارل مالك وكل أعضاء جبهة الحرية والانسان، وما أقوله لا يعني أن نصبح كلنا كمسيحيين في حزب واحد، بالعكس، إنما يجب أن نحافظ على التعددية السياسية، إلا أن الخطر عندما يدق على الأبواب، من المفترض أن يصبح المسيحيون كياناً واحداً للمواجهة. بمعنى آخر، عندما يتعرّض البطريرك لحملة تخوين، علينا جميعاً الدفاع عنه كرمز وليس كشخص فقط.
ويلاحظ كثيرون أن منسوب التخوين والتشنُّج والتوتُّر ارتفع كثيراً بعد حرب غزة وهذا ما يدلّ على أن الفريق الممانع فقد صوابه نهائيّاً، بسبب الأزمة العميقة التي يعيشها مع بيئته التي تهاجمه بعنف في نقاش داخلي بدأت دوائره تتوسّع، ولا يجد من وسيلة للتغطية على مأزوميته سوى من خلال حملات التخوين ضدّ كل من ينتقد الكارثة التي جرّ البلد إليها، وخصوصاً البطريرك الراعي الذي انتقده مؤخراً على حربه الشعواء التي قتلت الأبرياء ودمرت القرى والمنازل وهجرت الناس، وقد شعر “الحزب” أن صرخة الراعي لاقت آذاناً صاغية وتأييداً لمواقفه، وهذا ما يفسّر حملات التخوين خشية أن تتوسّع دوائر الاعتراض الشيعية وتلقى الأصوات المعترضة على الحرب التأييد العلني.
جورج حايك- لبنان الكبير