بعد عامين على غياب الحريري: في ١٤ شباط لم يعد الصمت بليغاً يا عرب!
عودة إلى مسار الأحداث التي سبقت تعليق الرئيس سعد الحريري عمله وعمل تياره السياسي قبل عامين، وعدم مشاركته في الانتخابات النيابية قبيل منتصف العام ٢٠٢٢، والأحداث التي تلت ذلك مع اقتراب موعد الذكرى التاسعة عشرة لاستشهاد الرئيس رفيق الحريري. ولكن قبل ذلك كلمة وعودة إلى ما لا يغيب عن الذاكرة الشعبية والوطنية من إنجازات الرئيس الشهيد رفيق الحريري على صعيد إعادة إعمار لبنان وبناء الإنسان المثقّف والمتعلم، المتمسّك بهويته الوطنية وإيمانه بالله سبحانه وتعالى دون عصبيّة قاتلة ولا مذهبيّة مقيتة.
رفيق الحريري الذي يشهد له خصومه في لحظات الحقيقة قبل أحبائه، ويسلّم له أعداؤه قبل أنصاره بنبل المواقف وعطاء الكبار ونجاحٍ لا توقفه المعوقات والافتراءات وخنادق السياسة الضيقة والشخصانية المريضة. الزعيم السُّني والوطني بامتياز غير مسبوق وما زال، «السيد لبنان» أو «مستر ليبانون» ولبنان كان لهما كل الدعم والمودّة من المملكة العربية السعودية والأشقاء العرب، وكان هذا الوطن يستعيد ألقه وموقعه الريادي في الشرق الأوسط، فكانت الدُّرر اللامعة لأعماله الإنمائية التي أعادت أضواء بيروت وجمالها في العلم والثقافة والأدب والفنون والعمران، وربطت عاصمة النور المشرقي بباقي مدن وقرى لبنان والعالم، لآلئ دموع الفرح وأمل الأجيال بعد سنوات الحرب البغيضة التي كتبت سطورها بالدم والغوغائية وفقد الأحبّة، وخَطَّ نهايتها «إتفاق الطائف» الذي حمل في روحه أكثر مما حملت مواده ونصوصه الدستورية من السلام المستدام والازدهار وقيم العيش المشترك.
الحدث الأول: إستقالة الرئيس سعد الحريري بعد ثورة ١٧ تشرين الأول ٢٠١٩ لتجنيب لبنان الفتنة والاستجابة لمطالبة الشعب بضرورة التغيير بالرغم من التهديدات المباشرة التي تعرّض لها من قبل العهد الأسوأ على مرِّ تاريخ لبنان وحلفائه لمنعه من تقديم هذه الاستقالة.
الحدث الثاني: تعطيل العهد مهمّة الرئيس سعد الحريري المكلف بتشكيل الحكومة بعد انفجار المرفأ لمدة تسعة أشهر، وفشل المبادرة الفرنسيّة في المساعدة على تشكيل حكومة مُهمّة من اختصاصيين مستقلّين، واستبدالها بحكومة بمواصفات العهد الجامح في خروقاته لمبادئ السيادة والديمقراطية والدستور.
الحدث الثالث: الرئيس سعد الحريري يأخذ القرار وخياره الديمقراطي والسيادي بمقاطعة الانتخابات النيابية لعدة أسباب، ومنها: تحمله للمسؤوليّة الوطنيّة وعدم تمسكه بالموقع السياسي، ولإعطاء الفرصة لتمثيل سياسي جديد يستطيع إيجاد الحلول للأزمات التي يعاني منها الوطن والشعب، وتعمّد العهد الجهنّمي خرق الدستور وإفشال مهمّته في تشكيل الحكومة وفق المبادرة الفرنسية، وقناعته بعدم وجود فرصة إيجابية للبنان في ظل الظروف الدولية الراهنة.
الحدث الرابع: أفرزت الانتخابات النيابية مجلس نيابي مفكك ومنزوع من القيادة السنية والوطنية التي لا يزال يمثلها الرئيس سعد الحريري لغاية الآن بالرغم من غيابه عن الساحة السياسية منذ سنتين.
الحدث الخامس: إمعان العهد وتياره الرئاسي في حربه المستمرة على اتفاق الطائف وصلاحيات رئيس الحكومة عبر المطالبة بتعديل الدستور وتقييد الرئيس المكلف بمهلة شهر لتأليف الحكومة. وهذا ما يمنح لرئيس الجمهورية «حق فيتو مزدوج» أولاً- على شخص الرئيس المكلف من قبل الأكثرية النيابية، وسلطة إكراه يمكّن لرئيس الجمهورية من خلالها عدم التعاون مع الرئيس المكلف وتطيير مهلة الشهر وفقاً لأهوائه الشخصية ولو على حساب الدستور. وثانياً- على مطلق تشكيلة وزارية يقدمها الرئيس المكلف ولا تحظى بموافقة رئيس الجمهورية عليها بالرغم من استيفائها لكافة الشروط المفروضة بموجب الدستور.
الحدث السادس: تمدُّد النفوذ الإيراني في المنطقة، ودعم طهران لسياسات الرئيس السابق ميشال عون، وتعويم «حزب الله» لرئيس التيار الوطني الحر «جبران باسيل» الذي فَقدَ جزءاً كبيراً من شعبيته وتمثيله لدى المسيحيين على حساب حلفاء المقاومة والممانعة. وانكفاء المملكة العربية السعودية عن لعب دورها الكامل في لبنان بسبب هيمنة حزب الله وحلفائه على مؤسسات الدولة وقرارها السيادي.
الحدث السابع: العجز الأممي عن حفظ الأمن والسلم الدوليين في ملفات المنطقة والعالم من أوكرانيا مروراً بالصين وتايوان وأرمينيا وأذربيجان، إلى اليمن والعراق وسوريا والسودان، وليس انتهاءً بغزّة وجنوب لبنان وإيران وباكستان، ولا تزال مفاتيح التسوية في لبنان ضائعة أو معلّقة في الظلام بانتظار الخروج من النفق الطويل.
الحدث الثامن: وبعد صمتٍ بليغ لعام كامل، ترحّم الرئيس سعد الحريري على والده الشهيد في ذكراه الثامنة عشرة في العام الماضي، واكتفى بالقول: «أعان الله لبنان». حينها كان صمته بليغاً، وكلماته القليلة كانت معبّرة عن واقع تضييع كل الفرص الحقيقية لإنقاذ لبنان.
الحدث التاسع: عدم تمكن اللجنة الخماسية حتى الآن حل أزمة الشغور في سدة رئاسة الجمهورية، وعدم نضوج صيغة الخمسة زائد واحد في ظل الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة وسائر الأراضي الفلسطينية، وتمدد الحرب إقليمياً عبر قيام جماعة أنصار الله الحوثيين في اليمن بتهديد حرية الملاحة وضرب الأهداف والمصالح التجارية العائدة للولايات المتحدة الأميركية والغرب وإسرائيل في البحر الأحمر، وضرب فصائل المقاومة الإسلامية في العراق للقواعد الأميركية في العراق وسوريا وعلى حدود الأردن. وفي المقابل تشكيل الولايات المتحدة الأميركية لتحالف دولي بقيادتها تحت إسم «حارس الإزدهار»، بالتعاون مع بريطانيا وباقي الدول لضرب الحوثيين والميليشيات المدعومة من إيران وتأمين حرية الملاحة والتجارة الدولية في البحر الأحمر.
الحدث العاشر: ربط الساحات ولو حدث ذلك بالتدرّج وبشكل متأخر عن الدخول بشكل جديّ وفاعل ومؤثر في معركة طوفان الأقصى، وتوجيه ضربات قوية وموجعة من العدو الإسرائيلي إلى العديد من قيادات المقاومتين الفلسطينية واللبنانية، واشتعال جبهة جنوب لبنان وتهديد العدو الإسرائيلي بنقل تركيزه وقواته إلى الجبهة الشمالية وتنفيذ سيناريو في لبنان مشابه لسيناريو غزة، واستهداف القوات الأميركية لقيادات في الحرس الثوري الإيراني في دمشق وطرح احتمال توجيه ضربات أميركية في الداخل الإيراني رداً على مقتل وإصابة عشرات العسكريين الأميركيين في قاعدة التنف الأميركية في سوريا، كلها أمور من شأنها تعقيد الحلول على مستوى كل المنطقة عموماً ولبنان خصوصاً، حيث يستمر التعطيل المعتاد في استحقاق انتخاب رئيس الجمهورية ربطاً بحرب غزة ومصالح الدول في الإقليم.
لم يعد الصمت بليغاً في ١٤ شباط، وعلى الرئيس سعد الحريري كما على الدول العربية ولا سيما المملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة، وكذلك قطر ومصر وكل الحريصين على بقاء لبنان، مواصلة العمل الجاد لإعادته إلى المكانة التي تليق به وبشعبه بعدما عانى ويلات الحروب التي لا تنتهي، وتحمّل بما يفوق قدرته أزماته وانهياراته كما أزمات أشقائه السوريين والفلسطينيين. يستحق لبنان منكم العمل وتصحيح المسار. يستحق الشعب الفلسطيني ما هو أكثر من التعاطف والمساعدات الخجولة في مواجهة حرب الإبادة الجماعية والتجويع في قطاع غزة. ويستحق الشعب السوري وكل لاجئ في لبنان العودة إلى أرضه وبلده عزيزاً كريماً آمناً ومطمئناً لمستقبله وأهله وعائلته.
لم يعد الصمت بليغاً يا عرب!
المحامي د. أحمد مكداش- اللواء