“يومين” يعيد دريد لحام التسعيني إلى سينما الصغار

يمضي المخرج باسل الخطيب في تعميق شراكته مع الفنان دريد لحام (1934) عبر إكماله ثلاثية سينمائية كان قد بدأها بفيلميه “دمشق – حلب” عام 2018، و”الحكيم” عام 2021. واليوم يتوج هذا التعاون بفيلم ثالث حمل عنوان “يومين” عن سيناريو لتليد الخطيب. افتتح الفيلم الروائي الطويل عروضه في قاعة الدراما بدار الأوبرا السورية، وفيه تناول كل من الخطيب ولحام موضوع العائلة السورية، وما تركته الحرب على هذه العائلة من آثار نفسية لا تمحى.

وإذا كان “يومين” أتى استكمالاً لمسيرة سينما العائلة التي رفع لحام شعارها منذ كتابته وإخراجه فيلمه “الآباء الصغار” عام 2006، إلا أن الشريط الروائي الجديد جاء بمثابة مصالحة بين ذهنيتين للإنتاج السينمائي كانتا في ما مضى على طرفي نقيض في سوريا. الأولى تمثلت في ذهنية سينما القطاع الخاص، وكان دريد لحام حينها نجمها الأبرز إلى جانب الراحل نهاد قلعي منذ إطلاق فيلمهما “عقد اللولو” عام 1964، أما الذهنية الثانية فتمثلت في سينما القطاع العام، وتحديداً الأفلام التي أنتجتها المؤسسة العامة للسينما، بعد مرسوم تأسيسها عام 1963، أيام دولة الوحدة بين مصر وسوريا، إذ دأب صناع أفلام المؤسسة على تحقيق أشرطة وصفت بالملتزمة، وجاءت وقتها كرد على أفلام القطاع الخاص التي وسمت بأنه لا هم لمنتجيها إلا جني الأرباح وتحقيق الترفيه للجمهور.

اليوم، وبعد نصف قرن على انقضاء هذا الجدل، واضمحلال سينما القطاعين، الخاص والعام في البلاد، تعود المؤسسة ذاتها لتستعين بأبرز نجوم سينما القطاع الخاص لإخراجها من ورطتها، خصوصاً في ظل تراجع إنتاجها في السنوات الأخيرة، واقتصارها طوال العام على إنتاج فيلم أو اثنين، إلى جانب بعض الأفلام المتوسطة والقصيرة، التي غالباً لا تلقى فرصة للعرض إلا في مهرجانات إقليمية، أو على نطاق ضيق ومحدود في صالات أمست تعد على أصابع اليد الواحدة.

هذه المحاولة للتطبيع مع ذهنية سينما شباك التذاكر لم تكن الأولى في هذا السياق، فالمخرج الراحل نبيل المالح (1936-2016) حاول هو الآخر أن يؤسس علاقة جديدة مع ذهنية السينما التجارية في بلاده، وقام وقتها بتحقيق فيلمه “غوار جيمس بوند” عام 1974، لكن الفيلم وقتها باء بالفشل، واعترف مخرجه بأنه رمى من خلال هذا التعاون مع دريد لحام إلى “جعل الناس تبصق على سينما القطاع الخاص”. عبارة وردت على لسان دريد لحام نفسه في حديثه عن هذه التجربة في كتاب “دريد ونهاد” للناقد الفلسطيني الراحل بشار إبراهيم، الصادر عن سلسلة الفن السابع، دمشق 2003.

مصالحة سينمائية

لعل الكلام اليوم عن مصالحة بين سينما قطاع خاص وقطاع عام يبدو متأخراً، لكن تكرار التجربة بين الخطيب ولحام الذي كتب قصة فيلم “يومين”، تأخذنا إلى شريط لم يلعب صاحب شخصية “غوار” فيه دور البطولة المطلقة. فالرجل الذي يحتفل في التاسع من فبراير (شباط) المقبل بعيد ميلاده الـ90 كثيراً ما حلم بما سماه “السينما النظيفة”، وهي سينما لم يتخيلها بلا أطفال، ولا يكتب على إعلاناتها الترويجية عبارة “للكبار فقط”، بل إنه سعى مراراً وتكراراً إلى أن يعطي البطولة في أعماله للطفل، فهي سينما الصغار للكبار، وهي سينما تناقش قضايا من قبيل العنف الأسري والتسرب المدرسي ودور الآباء في فهم مخيلة الطفل وهواجسه وهمومه الفطرية، وترفع بذلك شعار “للصغار فقط”.

هذا ما حدث في فيلم “يومين” الذي يحكي قصة نغم (شهد الزلق) وصباح (جاد دباغ) الطفلين اللذين يهربان من تعنيف والدهما (حازم زيدان) لأمهما (نجاح مختار) بعد كل مرة يعود فيها الأب إلى البيت، مخموراً أو خاسراً على طاولة القمار. تندلع أحداث الشريط (100 دقيقة) بعد مكيدة لطيفة يحيكها الولدان، فيلوذان بعربة تنقل الخضراوات والفواكه من أسواق العاصمة إلى قرية في ريف دمشق. ويحدث أن يكون صاحب هذه العربة هو غيث (دريد لحام) الرجل المسن المشهود له بالحكمة والنزاهة، والذي يعيش هو وابنته الوحيدة (رنا شميس) من العمل في دكان السمانة وصيانة الأجهزة الكهربائية.

علاقة لا يرسمها الفيلم ببساطة، بل يمهد لها باسل الخطيب بأناة داخل كوادر جمالية باذخة في نقلاتها البصرية (مجيد الخطيب) بين الريف والمدينة. ومنها ينطلق لنتعرف أكثر على قصة الولدين الذين يستمران في مخادعة “جدهما” المزعوم بعد عودتهما من بلاد المغترب. وينتشر في القرية خبر إنقاذ غيث للطفلين من عصابة تتاجر بالأعضاء البشرية كانت تنوي اختطافهما لولا تدخله في اللحظة الحاسمة، والمجيء بهما إلى قريته الوادعة “طرنيبة النهر” التي تحتفل به بطلاً. يقتنع مختار البلدة (أسامة الروماني) برواية الطفلين، لكن “الجد”، على رغم عنه، يشرع في رحلة بحث عن حقيقة قصة الحفيدين الملفقين. وبعد محاولات عديدة ينجح في الوصول إلى أبويهما، ويتواصل معهما على الهاتف المحمول، فيتقمص هو الآخر دور زعيم عصابة، ويطلب كلوتي الأب كفدية مقابل الإفراج عن ولديه الضائعين، لكن لن يطول الزمن بنا حتى نكتشف أن غيث كان يدير لعبة بريئة لإعادة الطفلين إلى كنف عائلتهما، وتلقين الأبوين درساً في التربية الحميدة.

نهاية سعيدة في فيلم يمكن لنا أن نفهم من سياق أحداثه ومعالجته الفنية، أنه يؤكد قيمة العائلة في مجتمع الحرب، ويدين العنف الأسري، وينبذ العنف الممارس على شريحتي الأطفال والنساء في المجتمعات المشرقية. ويمكن الإطلالة من خلال “يومين” على مزاج جديد في أفلام المؤسسة العامة للسينما (جهة حكومية)، التي بعد إنتاجها لعشرات الأشرطة التي اعتمدت في معظمهما المباشرة الفنية في تناول أحداث الحرب السورية، بدا فيلم “يومين” يشكل خياراً فنياً مغايراً للسائد في موجة أفلام الحرب، وينتقل مباشرة إلى شريط يغمض عينيه عن اجترار ويلات الحرب وتقليب مواجعها، ليفتح قلبه على عالم طفولي مرح وبريء وفطري، لكنه في الوقت ذاته ليس عالماً ساذجاً أو سهل الانقياد. وهذا ما يتضح من أداء الطفلين بطلي الفيلم، ومحاولة رسم ملامح جديدة لأداء الأطفال في السينما العربية. فلم يقدم “يومين” الطفل كضحية بقدر ما قدمه كشخصية ذكية ومحببة لا تخلو من صفتي الشغب واللعب، وهي شخصية تسعى إلى انزال عقاب نفسي بالأب والأم، وثنيهما عن مشاهد العنف التي يمارسانها يومياً أمام ولديهما.

في هذا السياق تبدو موسيقى (رضوان نصري) لاعباً رئيساً في مواكبة أحداث الشريط، بل يمكن الحديث كثيراً عن شخصيات لعبت هي الأخرى أدوارها بصورة لافتة أمام كاميرا باسل الخطيب، ومنها سكان القرية (يحيى بيازي ونور الوزير ومحسن غازي ومؤنس مروة وآخرون). إلا أن البينة الزمنية للفيلم التي تستغرق قرابة 48 ساعة بدت منسجمة مع تعاقب مشاهده. وهذا ما كان واضحاً في الدمج المستمر لمخرج الفيلم بين مناظره الليلية والنهارية في سرد سينمائي متصاعد، وسبك مرئي حاول عدم تغييب الزمن الواقعي المشار إليه من العنوان، بل سعى إلى إيجاد معادل فني عبر إضاءة المشاهد الداخلية، والتنويع عليها بمشاهد القرية والحديقة العامة وزريبة الحيوانات.

اندبندنت

مقالات ذات صلة