عن شرق أوسط تسرح فيه المسيّرات والشياطين وتمرح

تسارعت دينامية التفجيرات والاغتيالات مطلع هذا العام، ذات الصلة إما بتداعيات حرب التدمير الإسرائيلية لقطاع غزة، وإما بالتشنّج المتصاعد بين إيران والولايات المتحدة سواء فيما اتصل بالوضع في غزة، أو بالوضع في عموم المنطقة، ومسار المفاوضات بين البلدين.

كذلك اتسعت خريطة التهديف والتهديف المضاد. البداية كانت من ضاحية بيروت الجنوبية ثاني أيام السنة، باغتيال القيادي في «حماس» و«القسّام» صالح العاروري. تبعها في اليوم الثاني التفجيران الدمويان في كرمان بإيران ضد مواكب الذكرى الرابعة لاغتيال قائد فيلق القدس قاسم سليماني، وفي المدينة التي يتحدّر منها سليماني ودفن فيها.

الرد الإيراني جاء على شكل ضربة صاروخية كانت وجهتها إربيل في كردستان العراق، ضد ما وصفته الجمهورية الإسلامية بأنها أهداف تابعة للموساد الإسرائيلي، مع أنه قيل أن تنظيم «الدولة» تبنى تفجيرات كرمان.

كذلك أُطلقت صواريخ باليستية من إيران بإتجاه شمال غرب سوريا.

وفي اليوم الثاني، 16 كانون الثاني/يناير، توجهت إيران شرقاً وضربت أهدافاً لمنظمة «جيش العدل» البلوشية في باكستان! و«جيش العدل» المنبثق عن «جند الله» حركة انفصالية سنية من أبناء بلوشستان الغربية الواقعة في إيران، ويظهر أنها تحظى بغض الطرف في بلوشستان الشرقية، الواقعة في باكستان.

الرد الباكستاني جاء بتخطي الحدود بالاتجاه المعاكس، والمعاملة بالمثل، وقصف أهداف لمتمردين بلوش شرقيين (أي انفصاليين في هذه الحالة عن باكستان) ضمن الأراضي الإيرانية. هذا قبل أن يتدخل حليف البلدين، الصين، لاحتواء التوتر بينهما.

ولئن اتسعت رقعة التهديف من بيروت حتى بلوشستان، مروراً بريف إدلب وأربيل وكرمان، فإن العاصمتين العراقية والسورية كانت لهما مكانة وافرة في استقبال الرسائل الدامية الأمريكية والإسرائيلية. في الرابع من كانون الثاني/يناير، تعقبت المسيرات الأمريكية رتلاً يتبع «حركة حزب الله النجباء» المنشقة عن «عصائب أهل الحق» والأكثر حظوة عند «الباسدران» من الحدود السورية حتى بغداد، وقتلت القيادة في «النجباء» مشتاق طالب السعيدي داخل مقر الحركة في شارع فلسطين، غير بعيد عن وزارة الداخلية العراقية.

الضرب الإسرائيلي في سوريا، وضد أهداف إيرانية أو موالية لإيران، والذي يبدو عملاً «كلاسيكياً» أو معتاداً ومكرراً، إذا ما قوبل بسواه من ظواهر تصاعد التوتر والمراسلات الخشنة بعد هجمة 7 أكتوبر وفي ظل الحرب الحالية، ارتفعت حدّته هو الآخر، من خلال الهجوم على دمشق الذي نكّل بمستشارين في الحرس الثوري، ومنهم «الحاج صادق» (صادق آميد زاده) في الـ 20 من الشهر الحالي.

كل هذا، إذا ما وضعنا جانباً تمدّد الصراع، المتصل بالحرب في غزة، بإتجاه نطاق البحر الأحمر وباب المندب، وتوجيه الأمريكيين والبريطانيين ضربات ضد الحوثيين ردّاً على استهداف الأخيرين لشبكة الملاحة التجارية التي تمر، عبر باب المندب، بإتجاه قناة السويس. ترسم رقعة وروزنامة هذه الاغتيالات والتفجيرات واقع الحدود الدولية، بين الدول الوطنية، من بيروت حتى إسلام آباد وصولاً إلى الحديدة.

الحدود السرابية

فالتنقل العادي، برّاً، للمواطنين، بين هذه البلدان، من أصعب ما يكون اليوم، محفوف بالمخاطر، أو ممنوع. في الخمسينيات من القرن الماضي، بالتحديد عام 1952 كان بمستطاع المعلم كمال جنبلاط الذهاب، بسيارة رفقة سائقه، من بيروت حتى جنوب الهند، مرورا بسوريا والعراق وإيران والهند.

وهذا كان بعد سنوات قليلة على مآسي الانفصال والترحيل المتبادل لملايين السكان بين الهند وباكستان، وإبان فترة تولي محمد مصدق لرئاسة الحكومة في إيران، ونضاله من أجل تأميم النفط، والكر والفر بينه وبين قوى الثورة المضادة، إلى لحظة الانقلاب عليه بعد ذلك بعام. وكانت فترة حكم أديب الشيشكلي في سوريا، أي مرحلة «الديكتاتوريات العسكرية» فيها 1949-1954… على أساس أن المرحلة التالية لها هي مرحلة الفل والياسمين والديمقراطية الاجتماعية والليبرالية.
ما كان الوضع مثالياً في كل هذه البلدان، لكنها كانت تتطلع للمضي قدماً في بناء الدولة الوطنية في كل منها، وإقامة سياداتها الترابية، وإثبات حقيقة «عدم حاجتها» للاستمرار تحت قيد الاستعمار، ولو أنها أخذت تحمل شيئا بعد شيء كل فشل فيها لتسلل الاستعمار مجدداً إلى داخلها، بأشكال واقنعة مختلفة.

ليس معنى هذا أن الاستعمار لم يكن يحاول العودة. إنما كان هناك فارق، ولم تزل هي الحال، بين أساليب تجديد مبرراته وطرائقه وأنماطه وبين تحويله إلى شماعة لكل فشل، وكل استبداد، بل لكل تبعية للاستعمار نفسه تحب المكابرة على واقعها. وإذا كانت هناك مشكلة جدية لشعوب المنطقة مع الممانعة فهي تكمن بالذات هنا.

في الماضي، كانت حركات التحرر تقول للمستعمر ارحل عنا ونحن كفيلون ببناء ديمقراطية وطنية حقة، ليس فيها من «مندوب سامي» أو «سفير فوق العادة» له القدرة على تعطيل الدستور أو اقتحام قصر الملك لاجباره على تشكيل هذه الحكومة لا تلك. اليوم، «مسخ التحرر» يبدأ من الجحود بالفكرة الديمقراطية نفسها باعتبارها مجرد حيلة لعودة الاستعمار، وبالحدود الدولية بين الدول الوطنية بحجة أنه رسمها المستعمر. أما حقوق الشعوب، فهذه تتفق مثلا باكستان وإيران على أن قوم البلوش ليس لهم الحق في نيلها، والأمر نفسه يتفق عليه الأتراك والعرب والإيرانيون حيال الأكراد. لأجل هذا، ولئن كانت مأساة الشعب الفلسطيني هي الأكثر مرارة، وكان معيار الانتساب إلى فكرة العدالة هو في الانحياز لقضية شعب فلسطين، كونه اقتلع من أرضه، بواسطة استعمار استيطاني كثير النفاق، بل يرفع النفاق إلى رتبة وجودية، فإن هذا الشعب الفلسطيني هو في الوقت عينه جزء من خريطة من الشعوب والأقوام والجماعات اللاحق بها الاضطهاد والبطش والتهجير والجحود إما بوجودها وإما بحقوقها في هذا الشرق. عدد من هذه الشعوب يحبس حقه بدعوى الصراع مع إسرائيل والامبريالية الأمريكية. قضايا كل هذه الشعوب ليست سراباً، أما الحدود بين الدول القائمة فأضحت سرابية بامتياز.

واليوم، وبعد سبعة عقود على تاريخ الرحلة البرية، بالسيارة، من بيروت حتى كيرالا، والتي كانت غير مألوفة، إنما ممكنة، وواقعية، عام 1952، تبدو «الحدود» غير قائمة بين هذه البلدان حين يتصل الأمر بتدفق اللاجئين من بلد إلى آخر بفعل الحروب الأهلية وتفسّخ المجتمعات وتبدّد العمران، وغير قائمة من زاوية شبكات التهريب ونقل الأسلحة والمقاتلين، ولا يبدو أن لهذه الحدود الترابية من أثر بالنسبة إلى الصواريخ الباليستية الدقيقة والمسيّرات والحرب السيبرانية.

طرق الدم و«الأممية الليكودية»

لا تظهر الحدود الترابية إلا عندما يتعلق الأمر بتراجع إمكانية الانتقال البرّي الآمن والقانوني وغير القسري والداخل في كنف الدولة وقوانينها، لا الأجسام الموازية، للمواطنين بين هذه البلدان، وتراجع الإمكانية نفسها بالنسبة لقبائل الرحّل التي ما عاد بإمكانها التنقل في مجالها التي دأبت عليه قبل ذلك لأجيال عديدة.

ويتصل فوق ذلك التفاوت الكبير بين وجود فضاءات ثلاثة للتبادل التجاري القاري أو البرّي (فضاء الاتحاد الأوروبي، فضاء روسيا وبعض من الجمهوريات السوفياتية السابقة دون البعض الآخر، فضاء الصين ومبادرة الحزام وطرق الحرير الجديدة) وبين قلة حظ منطقة الشرق الأوسط بفضاء من هذا النوع، في ظل التصدع الحاد لمجتمعات وكيانات عديدة، من العراق وسوريا إلى اليمن وامتدادا لليبيا، والمزيد من التأزم واللاعقلانية في مسارات الصراع بين إسرائيل والفلسطينيين، كما في ظل الترنح الشديد لطموحات الانتقال نحو الديمقراطية وصياغة عقود اجتماعية من وحيها، وهذا ما ابتعدت عنه وعلى نحو مرهق وقاتل، معظم مجتمعات المنطقة.

لقد توسع نطاق عملية التحديث الطرقي الصينية لخريطة التبادل الطرقي وصولا حتى ميناء جوادر في بلوشستان الباكستانية. في المنظار الصيني، ميناء جوادر هو نقطة التقاطع بين الطرق البرية التي تعكس تمدد النفوذ الصيني، وبين الطرق البحرية لهذا التمدد، أي خط هامبانتوتا (وهو ميناء استأجرته الصين من سري لانكا لـ99 عاما، في تعريض فظ بفكرة السيادة الوطنية)، فجوادر، فجيبوتي (حيث للصين قاعدة، وللفرنسيين قاعدة، والأمريكان، وهكذا، والبلد عضو في جامعة الدول العربية).

أما الرؤى المتعلقة بتطوير التجارة البحرية بين مومباي الهندية وبندر عباس الإيرانية فوجدت نفسها تركن في الاعتبار الثانوي أمام شهوة «كوريدور موندره – الفجيرة – حيفا» أو الممر الاقتصادي بين الهند والشرق أوسط وأوروبا الذي صدقت ووقعت كل من الهند والولايات المتحدة والإمارات والسعودية وفرنسا وألمانيا وإيطاليا والاتحاد الأوروبي عليه إبان قمة العشرين في نيودلهي في ايلول/سبتمبر من العام الماضي. ومع أن إسرائيل هي حجر الزاوية في هذا المخطط الا أنها لم تشمل بالتوقيعات، لتسهيل الأمور أمام عملية إبرام سلام إسرائيلي سعودي كان يبدو أن تحقيقه وشيكاً آنذاك. لقد قوبل هذا الكوريدور بالاستهجان كما السلبية، من أكثر من بلد. الصين، وقد رأت فيه مزاحمة لامبراطوريتها الطرقية، ومحاصرة لما كانت تتوخاه أساساً من المصالحة الإيرانية السعودية، تحت رعايتها، من فتح أبواب الشرق الأوسط لشركاتها واستثماراتها وربما قواعدها. تركيا، وقد خرج رئيسها رجب طيب اردوغان لانتقاد الكوريدور، والتشديد في المقابل على وجوب تنمية الاستثمار التركي بإتجاه العراق – المقصي هو الآخر عن «جنان الكوريدور». ومصر، التي رأت في هذا المشروع إضرارا بمصالحها وعائدات مرور الملاحة التجارة من طريق قناة السويس. ليس الهدف هنا إقامة صلة سببية بين زلزال 7 أكتوبر والحرب الإسرائيلية وما يتبعها من بيروت حتى بلوشستان شرقاً وباب المندب جنوباً من اختبارات تصعيد ومراسلات دامية بين القوى المتواجهة في المنطقة. إنما لا يمكن تجاهل واقعة أن هذا المسار كان يجري الضغط بإتجاهه من «الأممية الليكودية» المتشكلة من حزب بهاراتيا جاناتا في الهند، والليكود في إسرائيل، وجماعة «اتفاقيات ابراهام» من العرب.

كما لا يمكن تجاهل واقعة أن تصعيد 7 أكتوبر زاد تصميم فروع «الأممية الليكودية» على التكاتف، في حين أحدث موجة من البلبلة والتردد لدى العواصم التي كانت تتقاطع مع هذا المسار، ضد إيران وحلفائها في المنطقة، دون أن يكون بإمكانها أن تتعرف على نفسها في هذا التطرف، ولا أن تعود فتبعث مقولة «الاعتدال» التي كانت، فيما مضى، نقطة التلاقي بين السعودية ومصر (إلى حين الإطاحة بالرئيس حسني مبارك). اليوم، ومهما قيل عن مواقف مصر والسعودية حيال الحرب الحاصلة في غزة، فلا ينبغي اضاعة الفارق بينهما وبين الجموح المتطرف الهندي – العربي – الإسرائيلي الذي ما زال يتصور أن الأرضية سانحة، وفي القريب، لتحويل «الممر الاقتصادي» المشار اليه، إلى واقع. بالتوازي، فإنه لا يمكن استبعاد الأزمة المستفحلة في حوض البحر الأحمر، وتحفظ السعودية على التصعيد في الوقت الحالي ضد الحوثيين بشكل يمكنه أن يؤدي إلى إعادة تفجير الحرب السعودية معهم. بشكل عام، الافتراض الأكثر معقولية إلى الآن هو أن موقف السعودية «ترقبي» في الصراع الحالي، مهموم بعدم كسر المصالحة مع إيران، والهدنة مع الحوثيين، ومدرك لأن «اتفاقيات ابراهام» لا تصلح إطارا لا لإيجاد أي حل واقعي للمسألة الفلسطينية ولا لاقامة علاقة دبلوماسية بين السعودية وإسرائيل. يمكن لموقف السعودية أن يتطور إيجابا أو سلبا في الحرب الحالية لاحقاً. لكنه حتى الآن موقف «مؤجّل». مصر أيضاً، هي حاليا ضمن معادلة مزدوجة. تفيد عمليا بأنها ترفض تهجير الفلسطينيين إلى أرضها، لكنها حريصة على عدم تخطي الخطوط الحمراء الأمريكية الإسرائيلية لها فيما يتعلق بالتخفيف من الحصار المفروض على القطاع. في الوقت نفسه، تدرك مصر ان الحرب المستمرة في السودان، وموقع الجنجويد فيها، بالضد من السياسة المصرية، كما الأزمة الدائمة بين مصر وأثيوبيا، المطلة مؤخرا من بوابة «أرض الصومال» وتداعيات الأزمة في البحر الأحمر وتأثيرها على القناة، كلها دوائر تكبيلية لها ولدورها.

المحور الإيراني – الموالي لإيران في المقابل، بعد أخذ ورد في الأسابيع الأولى التالية على بدء الحرب، بات يمكن القول أن هذا المحور يتحرك بشكل اوركسترالي سمفوني على كل الجبهات، إنما الاستراتيجية الاجمالية تبقى الضغط على الأمريكيين كي يضغطوا بدورهم على الإسرائيليين. هذا في الوقت الذي تؤدي فيه تفاصيل المواجهة من العراق إلى اليمن، ومن باكستان إلى لبنان، إلى زيادة منسوب التوتر بين الأمريكيين وقوى الممانعة الإيرانية وزيادة تعويل الإسرائيليين على أن يأخذ التصادم الأمريكي الإيراني شكلاً مباشراً. الولايات المتحدة تسعى في المقابل إلى سياسة قادرة على أن تفلت من ترجمة ما يتمناه خصمها الإيراني أو صديقها الإسرائيلي الصعب لها. لكنها في المقابل، تبقى سياسة بلا شركاء فاعلين في المنطقة حالياً، شركاء يتعاونون معها لا بقصد توريطها، وتتعاون معهم لا كمجرد بيادق. فواشنطن، ان انساقت بالفعل إلى صراع مفتوح مع الإيرانيين، كانت نتيجة ذلك اختلالا عميقا في القدرة الغربية على مد الأوكران بما يلزم في مواجهة استعادة الشدّة الروسية.

هذا ناهيك عن المسارات غير المنظورة للحرب المفتوحة مع إيران. وواشنطن، ان استجابت في آخر الأمر للضغط الإيراني عليها بالضغط على إسرائيل فلا مجال لتثمير هذا الضغط من دون التزام جدي بحل، ان لم يكن عادلا، فأقله قابل للحياة وغير كاريكاتوري، للمسألة الفلسطينية، وهذه لا يرفضها نتنياهو فقط، يرفضها معظم الطيف السياسي الإسرائيلي، بما في ذلك الأكثر انتقاداً ضمنه لنتنياهو وحكم الليكود. كذلك، وفي المقلب الآخر، فإيران لا تزال تشدد على أنها ترفض وجود إسرائيل من الأساس، وهذا من الناحية الأمريكية، يحول دون الاستجابة للضغط الذي تمارسه إيران وحلفاؤها على القواعد والمصالح المرتبطة بواشنطن في المنطقة.

وسام سعاده- القدس العربي

مقالات ذات صلة