مصارحة شاملة مع القوى المسيحية: بعد المكابرة والوهم والرهانات الفاشلة… إستيقظوا!

قبل 2005، كان الرهان السياسي المسيحي واحداً: يخرج الجيش السوري واستخباراته من لبنان قبل الظهر فيخرج سمير جعجع من السجن ويعود ميشال عون من المنفى بعد الظهر وتحلّ كل المشاكل. سقط هذا الرهان، وتوالت بعده الرهانات الفاشلة. لم يغيّر «تصحيح التمثيل السياسي للناخب المسيحي»، على أهميته، أوضاع هذا الناخب ولم يمنع هجرته، ولا سيما أنه ترافق مع انهيار الدولة، وبالتالي تلاشي «حلم الدولة» في العقل المسيحي.

حقق «التشاطر» على الخلاف السني – الشيعي، وتموضع نصف المسيحيين إلى جانب القوى السياسية الشيعية ونصفهم الآخر إلى جانب القوى السياسية السنية، بعض المكاسب. لكن جمهور كل من التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية هو من يقول اليوم إن استفادة القوى السياسية الشيعية والسنية مما اعتبره المسيحيون تشاطراً، كانت أكبر وأهمّ وأكثر استدامة. سقط وهم الاتفاق المسيحي – المسيحي القادر على فرض أولوياته على الآخرين، إذ بدا أنه ينفع للعرقلة وليس للبناء. سقط رهان القوات اللبنانية والكتائب ومن يدور في فلكهما على سقوط سوريا وتقسيمها واستعادة المشاريع الفدرالية. سقط رهان سمير جعجع على سحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ليحيى السنوار وحركته خلال بضع ساعات أو بضعة أيام، ليتقدم بعدها نحو بيروت لتنصيبه رئيساً للجمهورية فوق الدبابات في تكرار لتجربة 1982. إذا كان البعض يستصعب إجراء مراجعات جدية لاستخلاص العبر في بناء الرهانات المستقبلية، فهذا التقرير هو خلاصة نقاشات طويلة مع فاعلين ومعنيين في الأحزاب والرهبانيات المسيحية، والهدف منه ليس الشماتة ولا «فشّة الخلق»، وإنما ملاقاة ما يكتبه ويعبّر عنه الأمين العام السابق لقوى 14 آذار فارس سعيد بأفضل طريقة اليوم، كما يعبّر عنه كثير من الرهبان القلقين، وتغريدات يمنى الجميل، وملاحظات بعض مطارنة الاغتراب، ونقاشات جبران باسيل والدائرة الآيلة إلى التوسع التي يحيط نفسه بها، والديناميكية الجسدية التي لا بد أن تصبح فكرية أيضاً إذا أراد رئيس حزب الكتائب سامي الجميل أن يتقدم فعلاً. الهدف هو مخاطبة العقل المسيحيّ بحرص وغيرة وهدوء لحثّه على قراءة اللحظة بشكل صحيح في منطقة «تنام على شيء وتستفيق على آخر»، كما كتب فارس سعيد على منصة X أمس، وإعادة تحديد الحجم والدور والوظيفة بشكل أصدق مع الذات، وعدم التفكير في أي رهانات إضافية خارج مبدأ التفاهم مع جميع المكونات الأخرى..

ثمة ثابتة أولى تبدو للبعض تحصيل حاصل. لكن، لا بد في مطلع أي نقاش، من تثبيتها كحجر أساس لتبديد الأوهام التاريخية من جهة وصناعة المستقبل من جهة أخرى: بعيداً من الاهتمام الإيراني بحزب الله، ما من أحد في هذا العالم الواسع مهتم، من قريب أو بعيد، بأيٍّ من المكونات اللبنانية سواء الطائفية أو السياسية. من لا يزال يثق بـ«رادارات» الزعيم الدرزي وليد جنبلاط عليه أن يسمع ما يكرره يومياً في هذا الخصوص، بموازاة القراءة الهادئة لتجربة مسيحيي المنطقة والغرب من جبل لبنان إلى سوريا والعراق وفلسطين ذهاباً وإياباً منذ خمسة عقود. علاقة فرنسا (التي اعتبرها الموارنة أمّهم الحنون لعقود، قبل أن تتخلى عنهم لتحنّ على الرئيس رفيق الحريري) مع حزب الله أوطد وأعمق ولا تقارن اليوم بعلاقتها مع البطريركية المارونية والتيار الوطني الحر والقوات اللبنانية والكتائب مجتمعين. سخط البطريرك بشارة الراعي كان كبيراً في لقائه الأخير مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. لكن حدّته من جهة وديبلوماسية ماكرون من جهة أخرى، لم تعدلا في المسار الفرنسيّ: «مصلحتنا تقتضي التعامل مع من لديه القدرة؛ حسّنوا قدراتكم، وحينها يكون لكل حادث حديث».

لا أحد يسأل الحكومة اللبنانية أو القوات اللبنانية أو سامي الجميل عمّا ينبغي فعله لتهدئة الجبهة الجنوبية، بل يجري الحديث مع حزب الله مباشرة، في ظل اقتناع الإدارة الديموقراطية في الولايات المتحدة بأن محاولة ترغيب «محور الممانعة» ضمن ضوابط، أفضل بكثير من محاولات ترهيبه.

إذا كان ما سبق واضحاً ومحسوماً، فإن بناء أي مقاربة سياسية للمرحلة يجب أن تبدأ من إسقاط وهم التعويل على الغرب الذي يقول يومياً – بكل اللغات والوسائل – إنه معنيّ بأمن اليهود، لكنه ليس معنياً بأمن المسيحيين أو الأكراد أو الدروز أو السنة أو الشيعة. تماماً كما أثبت في السنوات القليلة الماضية أنه معنيّ بأمن إسرائيل، وليس معنيّاً بأمن السعودية أو الإمارات أو غيرهما من الدول الحليفة للولايات المتحدة، إضافة إلى بحثه عن تفاهمات مباشرة مع خصومه المفترضين.

مصلحة المسيحيين
الخطورة هنا لا تتعلق بالضربات الأمنية المباشرة، وإنما بعدم الاهتمام الغربي بكل ما يمكن أن يحصل، سواء سياسياً أو تمثيلياً أو غيره حتى لو بلغت الأمور حد التهديد الأمني. وهو ما يفترض أن يدفع المعنيين إلى السؤال عن وظيفتهم في حال بلغت المواجهة ذروتها، أو في حال التوصل إلى تفاهمات مفصلية كبيرة طالما «تنام المنطقة على شيء وتستفيق على شيءٍ آخر»: هل تقتضي مصلحة المسيحيين، وحتى مصلحتهم كأفرقاء سياسيين، المبادرة إلى تفاهمات داخلية جدية كبيرة يكونون «شركاء» فيها، أو انتظار تفاهم الحزب والخارج ليأخذوا علماً بنتائجه؟ هل يفيدهم الجلوس اليوم على الطاولة معززين مكرمين، أم انتظار أن يرسلهم الخارج غداً مهزومين ومهانين؟ هل يجب أن ينتظروا من يوجّه إليهم الدعوات، أم أنّ عليهم أن يبادروا إلى الدعوة وبإلحاح كبير؟

في ظل المتغيرات السريعة، لا يوجد ما يمكن وصفه بترف الوقت: كان الرئيس ميشال عون يأمل أن تتزامن لحظة المفاوضات الكبرى مع وجوده في قصر بعبدا ليضمن الجلوس إلى طاولة المفاوضات، لكنه ترك القصر للفراغ قبل أن يحين أوان التفاوض. فيما أخرجت السعودية نفسها بنفسها حين أخرجت سعد الحريري، فلم يبقَ فريق لبنانيّ في المشهد المحلي – الإقليمي – الدولي غير حزب الله. ورغم قول رئيس حزب التيار الوطني الحر جبران باسيل أخيراً إن التوقيع على أيّ اتفاقيات يستوجب وجود رئيس للجمهورية، إلا أنه يعرف أن الاتفاق شيء وتوقيعه السابق أو اللاحق شيء آخر، إذ يمكن للموقّع، مستقبلاً، أن يطلب تعديل فاصلة أو نقطة أو كلمة بعد أن يكون ما كتب قد كتب وسلك طريق التنفيذ، تماماً كما حصل في اتفاق الطائف حين نُفِّذ ما اتفق اللاعبون الإقليميون عليه لا ما وقّعه المجتمعون. وهذا ما يقود إلى القول إن وجود حزب الله على الطاولة لا يهزّه أو يؤثر فيه نكد سياسي أو عمل أمني أو برنامج تلفزيوني أو «اسكتش» هزلي، والمطلوب الاعتراف بهذا الواقع بدل البكاء على الأطلال، من أجل معرفة كيفية التعامل معه لجهة إيجاد قواسم مشتركة ورؤى وشراكات، فلا يقرر الحزب وحده حتى ولو كان قادراً على ذلك. وبموازاة هاتين الثابتتين، لا بدّ من النقاش بعقلانية اليوم في أربع نقاط إضافية:

أي المحورين أخطر؟

أولاً. ثمة محور يمتد من الضاحية الجنوبية إلى ما بعد بعد البحر الأحمر. يمكن تصديق الروايات القائلة إنه يعرّض الأمن اللبنانيّ للخطر من البوابة الجنوبية. لكن هذا نصف الحقيقة. ونصف الحقيقة المطلقة التي لا يمكن التشكيك فيها، هي أن هذا المحور ليس وحده، بل يقابله محور مضادّ يبدأ من السفارة الأميركية في عوكر ويمرّ بمعراب والصيفي ومفوضية اللاجئين وسفارة الاتحاد الأوروبي ونحو مئتي جمعية. وهؤلاء جميعاً يعرّضون الأمن اللبنانيّ لخطر أكبر بكثير عبر الإصرار على إنهاء القضية الفلسطينية وتوطين اللاجئين الفلسطينيين في لبنان وتدمير سوريا وتوطين اللاجئين السوريين في لبنان أيضاً، إضافة إلى منع مصر والأردن من تزويد لبنان بالغاز لتشغيل معامل الكهرباء، رغم الاتفاقيات الموقّعة بهذا الشأن، والتضييق على التحويلات المصرفية من لبنان وإليه طوال العقدين الماضيين، ومنع شركات النفط العالمية من التنقيب عن النفط رغم الاتفاقيات الموقّعة بهذا الشأن أيضاً، ومنع تصدير المنتجات اللبنانية إلى عدد كبير من هذه الدول، والاستثمار في المجموعات التكفيرية لأكثر من عشر سنوات بكل ما تمثله من تهديد للأمن اللبنانيّ، بموازاة التغطية المتواصلة منذ عقود للتجاهل الإسرائيلي المطلق للقرارات الدولية التي تنصّ على عودة اللاجئين، والانتهاكات الإسرائيلية اليومية المتكررة للسيادة اللبنانية.

هل يمكن وضع الغرائز والشعارات والعواطف المتوارثة الجياشة جانباً لقياس الضرر الذي ألحقه كل من المحورين المتنافسين بالأمن والاقتصاد والمؤسسات والمجتمع في لبنان؟ وهل يمكن تحديد المنفعة اللبنانية من الاستجابة للتماهي المطلق مع مطالب المحور الأميركي – الأوروبي – الخليجي الذي يحاصر ويجوّع ويصرّ على توطين الفلسطينيين والسوريين من دون تعديل جذري في مواقفه التي تدفّع لبنان واللبنانيين الثمن الباهظ لصراعه مع المحور الآخر؟ أليست هذه هي اللحظة الأنسب ليضع كل طرف لبناني ورقة تفاوض حقيقية مع كل من المحورين لينتزع بموجبها المصلحة اللبنانية من هنا وهناك، بدل تسليف المواقف المجانية لمن لا يستحقها؟ وما هو الأخطر بالنسبة الى البطريركية المارونية والقوات اللبنانية تحديداً: الضربات الإسرائيلية التي يمكن أن تصيب لبنان جراء ما يصفونه بـ«ممارسات محور الممانعة»، أم خطر التوطين جرّاء إنهاء القضية الفلسطينية كما يريد المحور الآخر وتوطين السوريين بعد تخريب المحور نفسه لسوريا وتدمير الدولة اللبنانية؟

ثانياً. إذا كان الإسرائيليّ، قبل الأميركي والأوروبي والخليجيّ، قد بات واقعياً جداً مبتعداً عن مطلب نزع سلاح حزب الله، ومحوّلاً اهتمامه ومطلبه وضغوطه إلى مجرد وحدة متخصصة في الحزب تدعى «قوة الرضوان»، لا يطلب تفكيكها أو تجريدها من سلاحها أو نفي مقاتليها، بل مجرد إبعادهم إلى ما بعد الليطاني فقط لا غير… فعلى من يزايد بعض الأفرقاء اللبنانيين، ولمن يبيعون هذا الوهم المتعلق بعزل حزب الله ونزع سلاحه وغيره من العناوين التي لم تعد في حسابات الإسرائيليين؟ وكيف يرضى جمهور عقلاني علمي يؤمن برجاحة العقل أن يستهبله بعض السياسيين بهتافات (لا مشاريع أو خطط) لا مكان لها في أحلام الإسرائيليين حتى؟ وإلى متى تبقى أولوية هذا الجمهور التصفيق للخطاب غير المنطقي أو العقلاني بدل وضع أصحابه عند حدود عقلانية أو منطقية ما؟ وهناك، هنا، ما يتجاوز الحساسية المسيحية – الشيعية إلى الحساسية المسيحية – المسلمة عموماً: لا بدّ من طيّ صفحة الخطاب العدائي الذي يستقطب الجمهور، لإقناع هذا الجمهور نفسه بأن ما يفترض أن يستقطبه هو الخطاب الانفتاحي التصالحي الحواريّ، فلا يخسر كل من ينصح بالانفتاح والتفاهم والشراكة شعبيته لأن الجمهور المسيحي عموماً يريد الازدهار والرفاهية من جهة، والانعزال والتحريض والعدائية من جهة أخرى. لا بدّ من استنهاض العقل، هنا، لإيجاد مساحة مشتركة أو خطاب سياسي يضمن الاستقلالية والكرامة وعدم التبعية أولاً، والشراكة والندّية ثانياً، والانفتاح والتفاهم ثالثاً. إذ لا يمكن أن تبقى العدائية والكراهية وشتم الآخر الممر الوحيد الأوحد للشعبية: كيف يمكن أن يخسر التيار الوطني الحر شعبيته عند المسيحيين لأنه آمن بالتفاهم! هل كان يفترض أن يؤمن بالتحريض والكراهية والاقتتال الداخلي وتجارة الأوهام ليحافظ على شعبيته مثلاً؟ هل هذا فعلاً ما يريده المسيحيون؟

ثالثاً. في لحظة التجاذب السني – الشيعي التي بلغت حدّ التقاتل، كان يمكن للفريقين المسيحيين الرئيسيين أن يتموضعا كل في جهة، مستفيدين من حاجة كل من المعسكرين الماسّة إلى أحدهما ليبالغا في تدلّلهما، فينتزع العونيون حقوقاً تمثيلية لم يكن أحد يتخيّلها تستعاد، ويحصد القواتيون أموالاً ونفوذاً وتقديراً خليجياً منقطع النظير. لكن الاستمرار في الاعتقاد والتصرف على أساس أن هذه اللحظة متواصلة يمكن أن الفريقين المسيحيين من وضعية «رابح – رابح» إلى وضعية «خاسر – خاسر» بالسرعة نفسها. فلا يمكن القوات التعامل مع لحظة التماهي الإيراني – السعودي إقليمياً بالطريقة نفسها كما في لحظة تقاتلهما، ولا يجوز للتيار التعامل مع لحظة التحالف الوطيد بين الثنائية الشيعية وكل من سعد الحريري ونجيب ميقاتي والجماعة الإسلامية والنواب الذين أظهروا حضورهم القوي في كل من عكار والمنية والضنية وطرابلس وصيدا والبقاع الغربي بالطريقة نفسها التي كان يتم التعامل فيها مع لحظة تصادم هؤلاء. كان لدى حزب الله حليفان عام 2006 هما التيار الوطني الحر وحركة أمل، فيما لديه اليوم ما لا يعدّ ولا يحصى من الحلفاء.

هل مصلحة المسيحيين المبادرة إلى تفاهمات داخلية يكونون «شركاء» فيها أم انتظار تفاهم الحزب والخارج ليأخذوا علماً بنتائجه

سلّفه التيار موقفاً وطنياً عام 2006، ويسلّفه الرئيس نجيب ميقاتي موقفاً رسمياً اليوم. لا يمكن أن يقابل الأفرقاء المسيحيون كل هذه الديناميكيات بكل هذا الجمود. ولا يمكن أن يتمتع الجمهور والقيادات بكل هذه الديناميكية الجسدية والجمود الفكري معاً، ولا يمكن أن يكون الحل بتزوير الوقائع أو إخفائها؛ فلا أحد يريد إخافة المسيحيين حين يشرح عن بنية حزبه أو يهدد إسرائيل أو يوضح للمغامرين أن لديه مئة ألف مقاتل. بل يفترض أن يسأل المسيحيون أنفسهم، لماذا لمثل هذا الخطاب أن يخيفهم أو يقلقهم بدل أن يعزز ثقتهم بأنفسهم وبتحالفاتهم وببلدهم؟ لا يمكن الاستمرار في اللعب السياسيّ بالتكتيك نفسه في ظل تغيّر المباراة واللاعبين والمدربين، تماماً كما لا يمكن أن تعدّل الجماهير بأمزجتها وتتقلب وتتغير وتواكب المراحل، فيما مزاج الجمهور المسيحي ثابت لا يتغير! ثمة غطاء رسمي يأخذ الرئيس نجيب ميقاتي مداه في تقديمه لحزب الله في المحافل الدولية لا يمكن إسقاطه اليوم من الحسابات. ثمة تهدئة سنية – شيعية تريح المنطقة والبلد ولها انعكاساتها الداخلية بكل ما تقتضيه من تنازلات متبادلة لا يمكن إسقاطها اليوم من الحسابات. ثمة شراكة دم جديدة في مواجهة العدو الإسرائيليّ بين الحزب والجماعة الإسلامية لا يمكن إسقاطها من أيّة حسابات مستقبلية. ثمة موقف شجاع مريح للحزب سطّره وليد جنبلاط لن يكون بالإمكان إسقاطه من أيّة حسابات مستقبلية. ثمة تنسيق أساسي مركزي حيوي يحفظ أرواح المقاومين على مدار الساعة بين قيادتَي الجيش والمقاومة لا يمكن إسقاطه من أية حسابات مستقبلية. يفترض أخذ كل هذه المتغيرات المحلية الصغيرة في الاعتبار عند التفكير بالمستقبل القريب، لا اعتبارها جميعها غير موجودة لأنها تتنافى مع المصلحة المباشرة لهذا الفريق السياسي أو ذاك. المقاربة السياسية تحكمها الوقائع المتغيرة لا التحالفات الاستراتيجية التي يمكن أن تبقى ثابتة.

المزاج المسيحي
رابعاً. لدى القوات اللبنانية قدرات مالية استثنائية تغنيها عن الحاجة إلى موارد الدولة لتقديم خدمات الاستشفاء والتعليم وتوفير فرص العمل في الخليج خصوصاً. كما أن لديها القدرة على التماهي مع الخطاب الوجداني الماروني المعادي لكل مفاهيم الشراكة، ما يساعدها على البقاء خارج السلطة في لحظة انهيارها والعمل من خارجها. أما أن يحاول التيار الوطني الحر اللحاق بها، من دون امتلاك قدراتها الإعلامية والمالية والتوظيفية، فهو أمر يفترض أن يناقش بهدوء، مع درس هادئ أيضاً لهوية الناخبين والملتزمين في التيار وعلاقتهم بمؤسسات الدولة التي لم تضاعف من شعبية التيار كما يقول، عن حق، رئيسه جبران باسيل، لكنها مثّلت الملاذ الوظيفي الآمن لآلاف العونيين. ولا بدّ هنا من الرسو على برٍّ: هل كانت العودة المسيحية إلى الدولة قراراً استراتيجياً للرئيس ميشال عون مدعوماً من البطريركية المارونية وعدة مؤسسات كاثوليكية بعد خطيئة المقاطعة التي كانت لها تداعياتها على الوجود المسيحي في الدولة، أم كانت قراراً ثانوياً يمكن التراجع عنه؟ يمكن لهذا الفريق السياسي أو ذاك أن يربح معركة أو يخسر أو يعارض أو يوالي، لكن لا يفترض أن يبحث أحد من القوات، إلى التيار، مروراً بالكتائب وغيرهم، بجدوى المشاركة أو عدمها. يفترض بالمشاركة أن تكون قراراً استراتيجياً لا يخضع للمزايدات أو المزاجية أو الانتقائية: لا يمكن أن تطلب شراكة كاملة حتى على مستوى حراس الأحراج يوم الاثنين، ثم تفكر بعدم المشاركة على مستوى الوزراء يوم الثلاثاء. مع العلم أن الحديث عن تفضيل المزاج المسيحي العام للمعارضة فيه كثير من التضليل: قدرات القوات وبعض وجوه المجتمع المدني تمكنهم من المعارضة، لكن ثمة الكثير من «الحالات الدراسية» التي تناقض ذلك، يكفي ذكر «غسان مخيبر – ميشال المر» منها؛ لا يمكن للمعارض المبدئي الذي لا يملك قدرات مالية أن يفوز بختم مختار في بلدته، فيما يمكن للموالي أن يورّث أحفاده الشرعية الشعبية المسيحية.

أخيراً، يمكن سمير جعجع أن يتعامل في اللقاء المصوّر الأخير مع كوادر حزبه مع الطموحات الإسرائيلية أو الأهداف الإسرائيلية للحرب على لبنان باعتبارها وقائع رغم كل إخفاقات الإسرائيليين في تحقيق أهدافهم، سواء في لبنان أو في غزة أو الضفة أو حتى أراضي 48 المحتلة. ويمكن لبعض الأفرقاء المتماهين مع جعجع أن يواصلوا التعامل مع الأهداف الأميركية باعتبارها وقائع، رغم كل الإخفاقات الأميركية في المنطقة من سوريا والعراق إلى أوكرانيا، مروراً بأفغانستان وتركيا. ويمكن للتيار الوطني الحر أن يقول إنه جرّب كل شيء بما في ذلك الشرق والغرب وتبيّن أنهم جميعهم أسوأ من بعضهم، فيراكم فوق الإحباط إحباطاً. ويمكن البطريركية المارونية أن لا تقرأ ما تكتبه «نيويورك تايمز» و«واشنطن بوست» عن فشل الإمبراطورية الفرنسية في تثبيت أقدامها في بيروت، فيما باتت إيران تضع قدماً في البحر المتوسط وقدماً في البحر الأحمر. يمكن للقيادات أن تقرر لعب دور النعامات وتواصل الهروب إلى الأمام، لكنها ليست مشكلة القيادات – خاضت القيادات تجاربها، فازت برئاسات ووزارات ونيابات، وغالبيتها تعيش اليوم في قصور – بل هي مشكلة الرأي العام: لا يمكن للرأي العام أن يواصل لعب دور النعامات أو يخرج نفسه من وهم ليدخل نفسه في وهم أكبر. لعل القيادات لا تخرج من مناطقها، ولا تذهب إلى قصور العدل أو المستشفيات أو المطاعم أو المدارس أو المجمعات التجارية والأحياء الصناعية هنا وهناك، أما الرأي العام فعلى تماسّ مع الآخر عن قرب أكثر، يستطلع ويقرأ ويشاهد ويحلّل ويفهم. ولا يمكن لهذا الرأي العام أن يجاري هؤلاء بعد كل ما تكبّده المجتمع نتيجة رهاناتهم الخاطئة المتواصلة والمتكررة. ورغم غياب من يمكن وصفهم بالمؤثرين والنخب والأصوات الحرّة داخل الأحزاب، لا بدّ من أن يخرج من يسأل هؤلاء بلباقة أن يهدأوا قليلاً، ويحكّموا العقل ومصلحة الجماعة، ويلتفتوا إلى أهمية المشروع الذي لا يمكن من دونه الاستمرار، تماماً كما لا يمكن أن يكون المشروع عام 2024 هو نفسه المشروع عام 2004 أو 1990 أو 1982 أو 1975، من دون الأخذ في الاعتبار كل ما يحصل من تطورات قريبة وبعيدة.

عندما يتحوّل التكتيك إلى استراتيجيا
يمكن للخيارات الاستراتيجية أن تكون مبدئية ثابتة جامدة لا تتزحزح أو تلين، أما التكتيك السياسي فوُجد لتدوير الزوايا ومواكبة التطورات وضمان تحقيق الأهداف المتوسطة والقريبة. تعامل بعض السياسيين مع التكتيك بوصفه استراتيجيا، وكبّلوا أنفسهم بمواقف تشكل انتحارهم السياسيّ. التكتيك جعل العماد ميشال عون يقول إنه ضد توزير الخاسرين في الانتخابات النيابية حين كانت أولويته إخراج مسيحيي 14 آذار من المشهد بعيد انتخابات 2005، لكنه خاض معركة توزير الخاسرين عام 2008. وقف عون ضد ميشال المر «للموت»، قبل دقائق قليلة من تركيب التفاهم الانتخابي معه. انتظر فؤاد السنيورة أن يستقبله عون بكتاب «الإبراء المستحيل» بعد طول عداء، فاستقبله بوردة الغاردينيا. قطع «وان واي تيكت» لسعد الحريري قبل الظهر وكان في استقباله في مطار بيروت بعد الظهر. المهم الهدف، لا التكتيك المعتمد لتحقيقه. يفترض بالتكتيك السياسي أن يؤدي الغاية المرجوة منه؛ إذا لم تحقق مقاطعة جلسات مجلس الوزراء غايتها، لا نغيّر الهدف أو الغاية إنما نغيّر التكتيك. إذا لم تحقق مقاطعة جلسات المجلس النيابي غايتها، وباتت مصدر خسارة سياسية لا ربح، يتغير التكتيك لا الهدف ولا الغاية. المهم الهدف لا التكتيك المستخدم لتحقيقه. لم يحاسب أحد رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع أو يعاتبه أو يغيّر نظرته إليه لمشاركته في جلسة المجلس النيابي الأخيرة، رغم كل مواقفه السابقة بهذا الشأن. غيّر التكتيك فخرج منتصراً، فيما تمسك التيار بتكتيكه وخرج منهزماً؛ تغيير التكتيك لا يعني تغيير المبدأ بدليل كل ما سبق ذكره من تجارب عونية؛ الهدف أو الغاية تحدّد المبدئي أو الوطني لا التكتيك. التكتيك وسيلة؛ لا يمكن للوسيلة أن تصبح هي الهدف.

المكابرة والوهم
بعد نزاع لسنوات، أنهت استقالة الرئيس سعد الحريري في 29 تشرين الأول 2019 مرحلة السنية السياسية، رغم أن العمل عليها بدأ مطلع ثمانينيات القرن الماضي، قبل أن تبصر النور في التسعينيات. ويتوهم كثيرون أن الشيعية السياسية قد بدأت فعلاً قبل سنوات، لكن الوقائع تؤكد أن كل ما يحصل منذ سنوات هو أن المساحة الانتقالية من «السنية» إلى «الشيعية» على غرار المخاض الطويل الذي مرّت به كل من المارونية السياسية والسنية السياسية قبل أن تتشكلا فعلاً. الشيعية السياسية لم تبدأ رسمياً بعد، لكنها ستبدأ حتماً، أبى من أبى في الداخل والخارج. والسؤال العقلاني الذي يفترض بالموارنة سؤاله اليوم هو: هل يكرّرون ما تصفه مرجعياتهم بخطيئة المقاطعة التي أوقعوا أنفسهم في شركها، حين أخرجوا أنفسهم طوعاً من الدولة والنظام والإدارة، أم يلجأون الى بحث هادئ وعاقل عمّا يضمن لهم البقاء السياسي والاستمرار الإداري والحفاظ على المكتسبات التي استعيدت في السنوات القليلة الماضية؟ بوضوح أكبر: هذه لحظة مكابرة وحرد وتهديد ووعيد للخروج أكثر، أم لحظة استعداد وتحضير وتفكير للدخول أكثر؟

الفراغ الثقيل في النخب
رحل ميشال إده عام 2019، تبعه جان عبيد ثم سجعان قزي. الفرق في المكانة والثقافة بين كل منهم شاسع طبعاً، لكنهم – برغم هذا التفاوت – كانوا آخر الموارنة الذين يقرأون ويكتبون، ويحاولون لعب أدوار مهمة في الظل. خلفهم حبيب افرام؛ محبط كسّره التكرار المتواصل لـ«سيفو» منذ مئة عام. عبد الله بو حبيب – طبعة الظهر غير طبعة الصباح غير طبعة المساء. كريم بقرادوني يدور مجدداً في متاهة الثنائيات المارونية دون مصارحة نفسه والآخرين بالنتائج الكارثية المتكررة التي تلت كل ما أنتجه من «مبادرات». جورج غانم الذي ميّز نفسه بين جيل الصحافيين، محبط ويعبّر عن المأساة بسخرية دائمة. فارس بويز نزل من عليائه لمصارعة من وصفهم بالصيصان فصرعوه. زياد بارود يختبئ خلف «حكمة الانشغال بمكتبه». السفير سيمون كرم تقاعد هو الآخر من النقاش السياسي. صديقه فريد الياس الخازن أخرج نفسه بنفسه من المشهد. من لم يكن يسعهم العالم في زمن قرنة شهوان والبطريرك نصر الله صفير استقالوا جماعياً من هذا العالم. التجدد الديموقراطي توفّي مع نسيب لحود. حزب الكتلة الوطنية بيع من دون مزاد علني حتى. قدامى الأحزاب خاضوا بالمفرق تجارب فاشلة بالجملة. في الرهبانيات ولّى زمن الآباء العامين – القامات. تحضر ندوة نقاشية في جامعة الكسليك، فلا تجد سوى سبعة أشخاص رسميين من دون طالب واحد يتطلّع إلى «نقاش». في الندوات السياسية، لا أحد يريد الإصغاء أو النقاش: ينتظر المشاركون الدور ليطرحوا السؤال ثم يجيبوا عنه ويمضوا في طريقهم. في الجامعات، لم يعد ثمة نشطاء سياسيون يناقشون ويتنافسون ضمن أحزابهم أولاً، ثم مع الآخرين على إعداد النشرات المطبوعة وتوزيعها وتوطيد العلاقات مع الطلاب والتعرف على الآخر كما كان يحصل قبل 2005، وانتهى الأمر بتسجيل الطلاب وطباعة الدروس وتأمين العلامات. إدمون رزق حلّ مكانه في جزين سعيد الأسمر الذي لا يعلم هو نفسه أنه نائب. «لا أحد» محلّ إميل رحمة في الهرمل. «لا أحد» آخر محل جان عبيد في طرابلس. فيما احتل غياث يزبك مقعد جورج سعادة في البترون!

أما المطارنة الموارنة فلا شيء يشغل المؤثرين وسطهم أو يهمّهم غير لعبة «البوانتاجات» الخاصة بخلافة البطريرك بشارة الراعي، حيث يواجه هؤلاء في المؤسسة الكنسية ما يواجهه كل موظف ماروني من الفئة الأولى لا يكاد يعيّن في وظيفته حتى ينشغل عنها بأحلام الرئاسة الأولى. ثمة حشد هائل من رجال الأعمال الذين لا يعرفون ماذا يفعلون أو أين يذهبون خارج الدوران العبثيّ في لجان الاستنزاف المالي التي تنتجها لهم الأحزاب والبطريركيات هنا وهناك. قضاة وضباط ومديرون عامون يقفون في الصف عند مدير المكتب في عين التينة، لا عند صاحب الدار حتى. حشد الأساتذة الجامعيين والمهندسين والمحامين والأطباء منكفئ بالكامل. تمرّ الأعياد على بكركي دون أية معايدات جدية تذكر، حتى من أبناء الطائفة. رئيس لجنة المال العوني إبراهيم كنعان يواصل التدقيق في الموازنة، فيما تكتله غير مشارك في جلسة إقرار كل هذه الإصلاحات المفترضة. «التيار» ضدّ التشريع من دون رئيس، فيما بكركي والأحزاب المسيحية الأخرى والرأي العام المسيحي مع التشريع من دون رئيس، ومع اجتماع الحكومة ومع مخالفة القوانين للتمديد لشخص واحد أوحد. وهو ما يدفع إلى القول إن الفراغ الماروني الحاصل أخطر بكثير من مجرد الفراغ في رئاسة الجمهورية، ونصح البطريرك أو الإحاطة به أو توقّع تقديره للحالة بوعيٍ استراتيجيٍ كبير أمر مفروغ منه في ظل حالة الضمور هذه. مع ذلك، لا بدّ من مواصلة محاولات مخاطبة العقل الماروني لا غرائزه ولا جماهيره لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.

غسان سعود- الاخبار

مقالات ذات صلة