لبنان في قلب العاصفة: نصر الله يكرّس نفسه مقرراً بالتّفاوض والميدان!

كل الترجيحات تشير إلى أن رد “حزب الله” على اغتيال القيادي الحمساوي صالح العاروري في قلب معقله الضاحية الجنوبية لبيروت، لن يتعدى عملية تعيد الاعتبار لمعادلة الردع التي كان أعلنها أمينه العام حسن نصر الله سابقاً ومفادها أن أي عملية إسرائيلية في لبنان ستواجه برد مزلزل. لكن الرد الذي حدد سقوفه نصر الله نفسه في خطابه الأخير لا يعني فتح الجبهة الجنوبية على مصراعيها، فلذلك حسابات يأخذها الحزب بالاعتبار وهو لا يريد الآن أصلاً توسيع دائرتها، وإن كانت إسرائيل تحاول استدراجه لمعركة كبرى.

الواقع أن كل الاغتيالات التي حدثت لقياديين وكوادر من “حزب الله” أو لشخصيات فلسطينية وإيرانية، لم يكن الرد عليها متناسباً، ولذلك حسابات مرتبطة بطبيعة المواجهة التي يخوضها “حزب الله” وعلاقته بمرجعيته الإقليمية. فمنذ اغتيال عماد مغنية في دمشق ثم عدد من قياداته في منطقة القنيطرة السورية، وصولاً إلى اغتيالات حدثت بتفجيرات في الضاحية الجنوبية نفسها، كان الرد بتنفيذ عمليات عسكرية على خطوط الجبهة الجنوبية المترابطة مع مزارع شبعا والجولان المحتلين، ولم تنتقل إلى حالة حرب واسعة.

اليوم باتت الاغتيالات جزءاً من الحرب الإسرائيلية الجديدة في غزة، مع اغتيال العاروري، وسبقه مقتل القيادي في الحرس الثوري الإيراني رضي موسوي بغارة إسرائيلية قرب دمشق، لكن رد “حزب االله” يبدو أنه مرتبط بحرب غزة، وبالعلاقة مع حركة “حماس” انطلاقاً من وحدة الجبهات، إما بعملية نوعية تؤلم الاحتلال أو باستخدام أسلحة جديدة توسع من دائرة المواجهة المفتوحة على جبهة الجنوب، أو تكثيف العمليات، من دون أن تؤدي إلى حرب كبرى.

حين قرر “حزب الله” فتح المعركة في جبهة الجنوب تحت عنوان مساندة غزة أو نصرة لها، كان يريد أن يستنزف قوات الاحتلال ويشغل جيشها للتخفيف عن “حماس” في غزة، لكن في المقابل كان يستنزف أيضاً قدراته العسكرية والبشرية، ما دام يستنفر كل وحداته المقاتلة، في الوقت الذي هجر الأهالي بيوتهم في القرى المتاخمة للحدود، فيما سقط أكثر من 150 مقاتلاً من الحزب خلال 90 يوماً من المواجهات. وإذ يعتبر الحزب أنه يخوض معركته ومستعد لتقديم التضحيات، فإن رده على الاغتيالات والخسائر هو باستمرار فتح الجبهة، وتوسيعها إذا اقتضى الأمر في الميدان، وإن كانت شظاياها تطال كل البنية اللبنانية.

يُستنتج من ذلك كله أن “حزب الله” يسير ضمن معادلة وحدة الجبهات، إن كان في الرد على الاغتيالات أو في معارك الساحات، وبتفرّده في اتخاذ قرارات الحرب، لا يكون عندئذ للأمر صلة بالدولة أو بشبكة المصالح الوطنية اللبنانية، خاصة إذا كانت إسرائيل تريد حرباً وهي في الأساس تستهدف لبنان وتبحث عن ذرائع لتنفيذ إجرامها، وهذه المرة باستدراج “حزب الله” عبر القصف العنيف والاغتيالات والتدمير.

كان نصر الله واضحاً في خطابه الأخير الذي بعث من خلاله رسائل للإسرائيليين والأميركيين، بكلمات مفتاحية، تؤشر إلى أن المعركة ستبقى مفتوحة وأي نقاش ومفاوضات بشأن ترسيم الحدود مؤجلان إلى ما بعد وقف إطلاق النار في غزة، وهو شرط رفعه في كل الأوقات منذ بدء الحرب الإسرائيلية على القطاع. وعلى ذلك، فإن استمرار العمليات الضاغطة نصرة لـ”حماس” بقدر ما هي بمثابة رد على الاغتيالات ومنها اغتيال العاروري، في الميدان، فإنها في الوقت نفسه رهان من نصر الله على أن تكون مفتاحاً للتفاوض بعد غزة حول النقاط الحدودية المحتلة ووقف الاختراقات الإسرائيلية، وصولاً إلى ما يتجاوز القرار 1701.

وبمعزل عما حققه فتح الجبهة اللبنانية نصرة لغزة منذ 8 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، وتعداد نصر الله للإنجازات والعمليات، وما اعتبره أنه “إذلال لإسرائيل”، إلا أن ما يعانيه لبنان جراء العدوان الإسرائيلي المستمر على الحدود، يجعله عرضة للاستنزاف المستمر، فإذا طالت الحرب وهو الأمر المتوقع، فسترتب مزيداً من الأعباء والخسائر في ضوء الفراغ الرئاسي اللبناني والانهيار الذي يلف مختلف المؤسسات اللبنانية.

وعلى الرغم من استمرار الحرب الإسرائيلية على غزة، والتهديدات بالحرب على لبنان تحت عنوان إبعاد الخطر عن الحدود الشمالية وإعادة المستوطنين، وتوسع دائرة الاغتيالات، إلا أن “حزب الله” ليس بوارد نقل معركة الميدان إلى حرب كبرى، وهو يتماهى في ذلك مع مرجعيته الإيرانية التي تخوض مناوشات مع الأميركيين في ساحات أخرى، منها العراق وسوريا واليمن. وقد كان واضحاً أن إيران لن ترد أو تثأر لمقتل رضي موسوي قرب دمشق، على طريقة ما فعلته مطلع عام 2020 بعد اغتيال قاسم سليماني عبر قصفها قاعدة عين الأسد الأميركية في العراق بصواريخ سكود، بل هي الآن تقاتل بأذرعها وليس بطريق مباشرة. لذا يركز الحزب كحليف لطهران على التفاوض ما بعد غزة ومعادلاتها، وإن كانت إسرائيل بقيادة بنيامين نتنياهو تسعى لجر الإدارة الأميركية إلى حرب لتدمير لبنان.

في ضوء هذا الواقع ستبقى المعارك مفتوحة على الحدود اللبنانية مع إسرائيل، تتوسع حيناً وتتراجع أحياناً أخرى، لكن تحت سقف منضبط، إلا إذا قررت إسرائيل خوض مغامرة قادتها المتطرفين مستغلة تخبط الإدارة الأميركية وشن حرب على لبنان غير مضمونة النتائج، وذلك على الرغم من استمرار المفاوضات الأميركية التي يقودها الموفد الأميركي آموس هوكشتاين لتجنب الحرب وإنجاز اتفاق للحدود البرية في الجنوب اللبناني شبيه باتفاق ترسيم الحدود البحرية. لكن أمام ذلك صعوبات ما دامت حرب غزة مستمرة وهو ما يرفع من احتمالات الحرب الإسرائيلية على لبنان، خصوصاً بعدما أبلغ وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت، هوكشتاين، أن بلاده تفضّل حل الصراع مع “حزب الله” بالطرق السياسية، لكن الوقت المتاح لهذا الاحتمال بات ضئيلاً.

التطورات تشير في ضوء الوقائع في الساحات من غزة إلى لبنان والعراق وسوريا واليمن، إلى أن المنطقة كلها أمام مرحلة انتقالية صعبة، وأن الأشهر الثلاثة المقبلة ستكون حاسمة في تحديد الوجهة التي سترسو عليها المعادلات الجديدة ما بعد غزة. فإذا استمرت المقاومة في القطاع قادرة على الصمود وإنزال الخسائر بالاحتلال، فستحدث تغيرات في إسرائيل بتغطية أميركية تسقط فيها حكومة نتنياهو، إلا إذا سبقت ذلك بمغامرة حرب على لبنان للهروب من أزمتها، فيما يبقى لبنان في قلب العاصفة حيث يسعى “حزب الله” أيضاً إلى جني ثمار مساندته لغزة، رغم أنه قد يتحول إلى جبهة حرب أو ساحة تجاذب للاغتيالات. أما ساحات سوريا والعراق واليمن، فيتوقع أن تشتعل في سياق الضغوط المتبادلة لتغيير المعادلات، وكوسيلة دفع للمفاوضات بين الولايات المتحدة وإيران التي تريد الحفاظ على مصالحها في المنطقة وتكريس نفوذها. بينما إسرائيل تريد تهجير الفلسطينيين وإنهاء قضيتهم… وتدمير لبنان.

ابرهيم حيدر- النهار العربي

مقالات ذات صلة