ماذا يعني إقفال المحكمة الدولية الخاصة بلبنان: من وضع أختام النهاية عليها… وهل يمكن إعادة نبش أرشيفها؟

كما تقفل السياسة محكمة فإن السياسة نفسها قد تفتحها من جديد

قرارٌ أممي أصدره الأمين العام للأمم المتحدة أنتونيو غوتيريش بإقفال المحكمة الدولية الخاصة في قضية اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية الأسبق رفيق الحريري في لبنان، يثير أسئلة بشأن ما إذا كانت المحكمة قد قامت فعلاً بالمهمة التي كلّفها بها مجلس الأمن الدولي التابع لمنظمة الأمم المتحدة؛ المفترض أنها الواجهة الرسمية والقانونية للمجتمع الدولي.

أُنشئت المحكمة عام 2007 في لحظة دولية سياسية مكّنت الدول الـ 15 التي يتشكّل منها مجلس الأمن، ولا سيما الدول الخمس الكبرى حاملة حقّ النقض، من تمرير قرار قيام هذه المحكمة من دون “فيتو”. ثبت لاحقاً أن تلك اللحظة النادرة هي نتاج “صدمة” انفعالية شكّلها هول الجريمة التي ارتكبت في 14 شباط (فبراير) 2005، وأن حسابات المصالح وتغيّر المزاج الدولي العام، سحب تلك اللحظة – أو أوهنها – وترك أعمال المحكمة عرضة لسيل من الضغوط والتشكيك في الدوائر الإقليمية والدولية.

ولئن اتّهمت دمشق وطهران وحزب الله و”محور المقاومة” المحكمة بأنها “مسيّسة” و”قامت لأغراض تتجاوز حدث الاغتيال”، فإن المحكمة قامت فعلاً بقرار سياسي صادر عن المؤسسة التي تمثّل إرادة سياسية دولية، من أجل إماطة اللثام عن ظروف مقتل رجل سياسي بحجم رئيس سابق لحكومة لبنان وبقدر رفيق الحريري وما كان يمتلكه من علاقات مع بلدان العالم وزعمائه. وإذا ما أراد المشكّكون جعل السياسة تهمة في أعمال تلك المحكمة، فإن من كان ينتظر من المحكمة معجزات “الحقيقة” استنتج أن ما انتهت إليه يمكن أيضاً أن يكون مسيساً.

كان واضحاً أن التسريبات التي كانت تكشف كثيراً من أسرار التحقيق الدولي ومداولات المحكمة الخاصة هي نتاج أصابع دولية عملت على العبث بصدقية المحكمة وتضليل أعمالها وتشويه ما يصدر عنها. ولم يكن صعباً الاستنتاج أن “فضائح” المحكمة وغرضيتها، وفق اتهامات “حزب الله” وحلفائه، تُنشر لدى منابر الإعلام التابعة للحزب ومحوره، وأن مسألة اختراق المحكمة والحصول على معلومات سريّة من ملفاتها تجري بتواطؤ أجهزة دولية تابعة لبلدان صديقة أو قريبة أو حليفة لدمشق وطهران.

واللافت أن الجهد الدؤوب في لبنان والمنطقة والعالم على التشوية المنهجي لعمل المحكمة، كان يكشف في الوقت عينه أهمية هذه المحكمة وخطورة ما سيصدر عنها وما يمكن أن يغيّره في المشهد السياسي في لبنان والمنطقة. فإذا ما كيلت للمحكمة اتهامات “بالتصهين والعمالة للامبريالية وإعدادها مؤامرة للنيل من المقاومة”، فإن أحكامها كانت ستكون موجعة تحظى بغطاء وفّره لها مجلس الأمن والذي يُفترض، وهنا بيت القصيد، أن يتّخذ بناء على تلك الأحكام قرارات سياسية قانونية ضد المتهمين والمحرضين والمتواطئين والعواصم الضالعة في هذه الجريمة.

لكن ذلك كله لم يحصل. أولاً لأن اللحظة السياسية الدولية النادرة قد سقطت. ثانياً لأن الظروف التي قامت عليها المحكمة وفق المشهد الدولي عام 2007 قد تقادمت وانقلبت خلال الفترة التي انتهت بإصدار المحكمة أحكامها عام 2020. وثالثاً لأن حقيقة أن المحكمة نتاج مزاج سياسي يؤدي إلى أن يفرض هذا المزاج، بظروفه ومتطلباته ووفق الموازين الدولية، نتائج تخرج من المحكمة تفوح منها رائحة السياسة.

والواقع أن المحكمة الدولية الخاصة خرجت بروايتها معتمدة على عوامل تقنية من أجل تخليص العالم، وربما لبنان أيضاً، من وزر أي تفسير سياسي لما يصدر عنها من أحكام. تغافلت المحكمة بخبث بارد عن الدوافع السياسية لعملية الاغتيال، وهي أساس الجريمة ومصدرها، وراحت تفيض على الرأي العام الدولي بتفاصيل إجرائية تارة وموضوعية تارة أخرى بشأن الأدلة والبراهين والوقائع التي تتعقّب متّهمين مفترضين. وحين أظهرت الأدلة اتّهاماً قدّمته المحكمة أساساً لاتهام أفراد وتبرئة آخرين من دون أي اكتراث بمن يقف وراء المتهمين والمبرئين.

وبيان أحكام المحكمة، سواء بتوجيه الاتهامات أم التبرئة أم العودة عن التبرئة، يفيد بأن أشخاصاً ارتكبوا الجريمة وأن المسؤولية الجنائية تقع عليهم دون غيرهم. ولئن ينتمي كافة الأفراد المدانين إلى “حزب الله”، فإن المحكمة اعتبرت نفسها غير معنيّة بهذا الانتماء وكأنه تفصيل شخصي يشبه الحالة الاجتماعية للمدانين من زواج وطلاق وما شابه ذلك. وحين انطلقت أعمال المحكمة في الأول من آذار (مارس) 2009 قال رئيس الحكومة الأسبق سعد الحريري بصفته نجل الضحية، إن “علم العدالة في لبنان رفع في لاهاي”، واصفاً افتتاح المحكمة باليوم التاريخي. وحين أصدرت المحكمة حكمها في 18 آب (أغسطس) 2020 تقبّل باسم العائلة الحكم قائلاً: “عرفنا الحقيقة اليوم جميعاً وتبقى العدالة التي نريد أن تنفّذ مهما طال الزمن”.

قدمت المحكمة للحريري وعائلته ولبنان والمجتمع الدولي مطالعة وأحكاماً خالية تماماً من أي دسم سياسي. أدانت عناصر من “حزب الله”، وفي ذلك اتّهام ضمني واضح للحزب ومن خلفه بالضلوع بارتكاب جريمة سياسية بوزن اغتيال رفيق الحريري. أبلغت المحكمة مرجعيتها الأممية السياسية بما انتهت إليه. وكان بمقدور مجلس الأمن لو كان يمتلك اللحظة السياسية الدولية الأولى النادرة أن يفهم تماماً ما رمت أحكام المحكمة الدولية الخاصة إليه ويقطف ثمارها في السياسة، لكنه لم يفعل. وفي هذا فـ”ليس صحيحاً أن المحكمة لم تقم بعملها” كما رأى حينها السياسي النائب الأسبق فارس سعيد، “لكننا لم نحسن استثمار الأمر سياسياً”، وفق قوله.

أقفلت المحكمة قبل أيام بقرار أممي. تركت خلفها 3 قضايا أخرى: اغتيال الأمين العام السابق للحزب الشيوعي اللبناني جورج حاوي، ومحاولتا اغتيال الوزير السابق إلياس المر، والنائب الحالي مروان حمادة. يتحدث حمادة إلى إحدى الصحف عن أسماء وردت في القرار الاتهامي “من العيار الثقيل” هي في الوقت الحالي من “المحرمات”. وربما وفق قوانين المحرمات تقرر دفن محكمة لم تعد من ضرورات الراهن.

يقفل الأمين العام للأمم المتحدة المحكمة الدولية الخاصة بلبنان وكأنه يقفل مرحلة تاريخية وجب وضع أختام النهاية عليها. ومن يتأمل هذا العالم هذه الأيام بتصدّعاته وانقساماته التي باتت دراماتيكية لطالما أنذرت بحروب كبرى قد تصبح عالمية، يتفهّم مسألة أن هذه المحكمة لا تشبه عالم اليوم ولا يمكن أن يكون لها حياة في مشهد باتت اصطفافات الصين وروسيا وإيران والعرب والغرب متداخلة متنافرة متضادة يصعب فيه الاهتداء إلى خرائط وتوازنات تكون فيه المحكمة أداة عدل وعدالة. يبقى أن أرشيف المحكمة نُقل إلى مقرّ الأمم المتحدة في نيويورك. وكما تقفل السياسة محكمة فإن السياسة نفسها قد تفتحها من جديد وتعيد نبش أرشيفها إذا ما كان مزاج دولي آخر يريد ذلك.

محمد قواص – النهار العربي

مقالات ذات صلة