تمديد ثانٍ للبلديات…مجالس تصريف أعمال: هل نصل إلى هذا السيناريو في سنة 2024؟
بينما تستعدّ المجالس البلدية لطي صفحة العام 2023، تبقى العين شاخصة على العام 2024، وتحديداً 31 أيار منه، حيث الحدّ الأقصى لإنتهاء مهلة ولاية المجالس الممدّد لها، وقد بات واضحاً أن السلطة متّجهة لإستهلاكه حتى آخر «نفس».
إتّخذ النقاش الذي استحوذه إجراء الإنتخابات البلدية التي كانت مقرّرة في أيار 2023 بعدما تأجّلت منذ سنة 2022 لتزامنها مع الإنتخابات النيابية، بعداً تخطّى الذرائع التي استند إليها مجلس النواب في إقراره قانون التمديد. فاجتماع الهيئة العامة بأغلبية 73 نائباً بتاريخ 18 نيسان، كان الأوّل تشريعياً منذ إنتهاء ولاية رئيس الجمهورية، وبالتالي أثار انعقاد مجلس النواب لإقرار قانون التمديد بظل الفراغ الرئاسي جدلاً مطولاً، إستمرّ لما بعد سريان قانون التمديد الذي طعن به أمام المجلس الدستوري نواب «القوات اللبنانية» و»الكتائب» ومستقلّون.
كان لافتاً تقاذف التمديد كتهمة بين الحكومة والكتل السياسية التي صوّتت عليه. إلا أن «طبخة» التمديد في المقابل لم تنضج إلا بتواطؤ الطرفين. فما إن أقرّ مجلس النواب القانون، حتى تلقّفته الحكومة واعتبرت نفسها في حلّ من إجراء الإنتخابات، بصرف النظر عن بعض الإعتراضات الخجولة.
سرى التمديد قانونياً في المقابل، بعدما صدر قرار المجلس الدستوري في 30 أيار 2023 بردّ الطعون الثلاثة المقدّمة «حفاظاً على الانتظام العام ومنعاً لتفاقم الفراغات، ولأجل تأمين استمرارية عمل المرافق العامة»، علماً أنّ المجلس إعتبر حينها أنّ «دخول البلاد في وضع شاذ وغير مألوف، كما هي الحال في الوقت الحاضر، يملي عليه أن يوازي بين الضرر الناجم عن المخالفة الدستورية وبين الضرر الناجم عن الإبطال الذي يمسّ مبدأ استمرارية المرفق العام ذي القيمة الدستورية، حفاظاً على مصلحة البلاد العليا التي وضع الدستور من أجلها».
شبه شلل
إلا أنّ التمديد لم يؤمّن عملياً سوى «استمرارية المرفق»، أما إنتاجية هذا المرفق فبدت في العام 2023 شبه معدومة، وذلك بعدما تسلّلت الأزمات اللبنانية بكافة أشكالها إلى البلديات أيضاً، ولم تعد ميزانياتها تكفي سوى لتسديد رواتب الموظفين، فيما ضرب بعضها إفلاس كلّي، بحيث «ولّدت القلّة النقار» بين أعضائها. وهذا ما شكّل واحداً من أبرز دوافع إستقالات المجالس البلدية المنهكة بالأساس، بحيث إرتفع عدد البلديات المحلولة وفقاً لأرقام وزارة الداخلية من 104 بلديات قبل التمديد، إلى 119 بلدية مع نهاية العام 2023، في وقت طغى الإحباط على باقي المجالس، ولم يعد معظمها يجتمع دورياً لغياب جداول الاعمال الواضحة.
إذاً، في 45 دقيقة إستهلكتها جلسة التمديد، وضعت البلديات ومجالسها أمام معضلة إدارة واقعها المتهالك. والدولة التي إكتشفت انها لم تكن تملك نفقات إجراء هذه الإنتخابات المقدّرة حينها بتسعة ملايين دولار، عبّرت من خلال التمديد عن رغبتها السياسية بالتعايش مع بلديات مشلولة، على تحمّل مسؤوليتها في تطبيق القوانين والأنظمة التي تؤمّن تداول السلطة، فاختارت الإستمرار بمسلسل تعطيل الحياة الديمقراطية ومنع اللبنانيين من ممارسة حقوقهم القانونية والدستورية بالإنتخابات، وبالتالي تكريس الفراغ بأشكال مختلفة.
تحوّلت معظم المجالس البلدية خلال مرحلة التمديد الثانية إلى مجالس لتصريف الأعمال فقط، ليكرّس هذا التمديد المقرون بضعف الإمكانيات، الفراغ المقنع في البلديات، بمقابل تفاقم مسؤولياتها، وقد زاد من أعبائها ملف النزوح السوري، وهذا ما خلّف انطباعاً بتحميل البلديات مسؤوليات أكبر من طاقاتها، خصوصاً بظل التحلل الذي ضرب مؤسسات الدولة الأخرى وجعل البلديات بحكم احتكاكها المباشر بالناس مطالبة حتى بالأمور التي يفترض أن توفرها الإدارة المركزية.
إستنسابية تأمين المداخيل
وهكذا إذاً صارت الفترة الممدّدة عبئاً على رؤساء البلديات والأعضاء المنتخبين. في مقابل إختيار السلطة المركزية إخفاء المشكلة بـ»قبة باط» من هنا أو هناك، أطلقت يد بعض البلديات لإستنسابية في تأمين المداخيل، فتوفر جزء منها عبر جهات دولية مانحة، مقابل محاولات توفير جزء آخر عبر تشكيل لجان دعم محلية، نجحت بعض تجاربها في القرى الصغرى، فيما بدت المدن الكبرى محكومة بالبيروقراطية التي تكبّل إستقلاليتها المالية والإدارية.
أضاءت الأزمة في المقابل على الواقع غير السويّ للبلديات التي كانت تشكو من مالياتها غير الكافية وإداراتها الخاوية منذ ما قبل الأزمة. فواقع البلديات حينها لم يكن أفضل حالاً كما يؤكد عدد كبير من رؤساء البلديات، إلا أنّ الأزمة عرّت المجالس كلياً، وأبرزت العراقيل الموجودة في بنية القانون الذي يرعى عملها ويمنع تقدم المدن وازدهارها لمصلحة رهن هذه البلديات للقوى السياسية التي دعمت معارك مجالسها الإنتخابية، وبالتالي تعزيز زبائنيتها للقوى النافذة في الإدارة المركزية. الأمر الذي يترجم بشكل واضح في المدن والقرى التي تخضع مباشرة لسلطة الاحزاب، حيث الحزب ممسك بمفاصل الإدارة ولديه هيئات أقوى بنفوذها من البلديات وبالتالي لا تمر الخدمات إلا عبرها.
نفض القانون
واقع خلصت إليه أيضاً الدراسات التي أجرتها جمعية «نحن» تمهيداً للتقدّم من مجلس النواب بإقتراح قانون جديد للبلديات، عملت على وضعه بالتعاون مع القاضي في ديوان المحاسبة إيلي معلوف.
من موقع مَن عمل على «نفض» القانون الحالي من أساسه بعد ملامسته لعقباته، يؤكد معلوف لـ»نداء الوطن» أن العراقيل التي واجهتها البلديات سابقة للأزمة ولكنها كانت مخفية، والأزمة جعلتها تظهر بشكل أوضح. ويرى حاجة لتحصين البلديات مالياً وادارياً وتجاه السلطة المركزية، لتصبح فعلاً مستقلة وغير تابعة لأي سلطة أعلى منها. وإذ يؤكد ضرورة مأسسة البلديات، والعمل على وصول مجالس قادرة على الحياة، يأمل في إقرار التعديلات على القانون قبل الإنتخابات، مع التمسّك بإجراء الإنتخابات في مواعيدها التي حدّدت.
في المقابل، يلفت رئيس جمعية «نحن» محمد ايوب إلى استنتاجات عدّة خلصت إليها الدراسة التي سبقت وضع القانون، تعيد سبب عجز البلديات الى عدم وجود إرادة سياسية تعزّز دور مؤسسات الدولة بصرف النظر عن الزعيم الذي ترتبط به، وبالتالي النزعة هي لإستخدام البلديات كمنصة لتعزيز الواقع الإنتخابي، وهذا ما يكرّس في قانون البلديات الذي يجرد البلديات من إستقلاليتها المالية والإدارية، وبالتالي يعرقل الكثير من المشاريع الإنمائية التي تصبح خاضعة لمزاجية سلطات تتحكّم بها الإرادة السياسية.
كما يرى أيوب أنّ العرقلة مقصودة وهدفها خنق الزعامات المحلية الجديدة التي يمكن أن يولّدها العمل البلدي الناجح، وحماية الزعامات المبنية على الزبائنية الخدماتية. ويلفت أيضاً إلى عرقلة تتسبّب بها السلطة نفسها التي تصادر أموال الصندوق البلدي المستقل ولا تفرج عنها في معظم الأحيان سوى بالتزامن مع المواسم الإنتخابية.
ثمّة أمر آخر تسبّب أيضاً بالواقع غير السويّ لهذه البلديات في الأزمة، وهو العقلية التي تدار بها الإنتخابات البلدية التي يراد منها مجالس للوجاهة في بعض القرى، ما يؤدّي إلى وصول أشخاص غير راغبين بالعمل أو لا يملكون الرؤية بالأساس، وهؤلاء كانوا أول من تساقطوا في الأزمة.
ولكن برغم كل ما ذكر، فإنّ تجديد المجالس يبقى افضل من التمديد لها، أقلّه حفاظاً على مبدأ تداول السلطة والمحاسبة. إلا أنّ الناخبين كما يتبين يتحمّلون أيضاً مسؤولية نجاح السلطة المحلية، بالإضافة إلى تعديل القوانين وتحديثها بما يحرّر البلديات وقراراتها من السلطة المركزية.
إنطلاقاً من هنا، ستكون الأشهر الأولى من السنة حاسمة في إظهار النيات الفعلية للحكومة ومجلس النواب على حدّ سواء. والمؤشر الأول لرغبة السلطة في إجراء الإنتخابات أولاً سيظهر من خلال الإعتمادات التي ستقرّ لها، حتى لا تنتهي الولاية الممددة بتمديد جديد تحت ذرائع عدم توفر هذه الإعتمادات. فهل نصل إلى هذا السيناريو في سنة 2024؟
الأسابيع الأولى من السنة الجديدة يفترض أن تحمل الإجابات الشافية.
لوسي بارسخيان- نداء الوطن