إيجابيات وسلبيات العام ٢٠٢٣ والتوقعات للعام ٢٠٢٤
بعد أربع سنوات من الأزمة ربما لم يتغير المشهد الاقتصادي في لبنان إلا لناحية التأقلم أو التعايش مع الأزمة فللبناني قدرة كبيرة على التكيف مع الأوضاع، ولولا هذه الميزة لما استطاع الصمود بوجه الضربات التي تلقاها على مر السنين، حتى في أوقات الحرب استطاع هذا الشعب الجبار أن يجد نافذة يستنشق منها الحياة والأمل والمستقبل.
وأهم ما يسجل للعام ٢٠٢٣ أنه شهد بعض التحسن الاقتصادي لجهة استقرار سعر الصرف منذ آذار الماضي، وارتفاع الاستثمارات بين ١٥ و ٢٠% وهذه الاستثمارات توزعت على عدة قطاعات منها صناعية وسياحية وتجارية وزراعية، إضافةً إلى أن الموسم السياحي في فصل الصيف كان ناجحاً حيث دخل إلى البلد حوالى ٥ مليار دولار مما أدى إلى انتعاش اقتصادي ونقدي ومالي .
والامر اللافت والذي يجمع عليه الخبراء الاقتصاديون هو تأقلم القطاع الخاص مع الأزمة الذي قام معظمه بتحسين الرواتب، كما استطاع أن يحسن الوضع الاقتصادي الخاص به من خلال التنسيق بين التكاليف والمبيعات، كما نجح القطاع الخاص في تحقيق أرباح وهذا الأمر كان عاملاً مساعداً للاقتصاد الوطني وللاستثمارات في البلد.
بعد مرور أربع سنوات على الأزمة الاقتصادية والمالية، لا يزال إطار الاقتصاد الكلي في لبنان يعاني ضعفًا شديداً، وفقاً لأحدث تقرير للمرصد الاقتصادي للبنان الصادر عن البنك الدولي ، الذي أشار إلى أن آثار وانعكاسات الصراع الدائر المتمركز في غزة تُمثّل صدمة إضافية كبيرة لنموذج النمو الاقتصادي اللبناني غير المستقر. وما لم يتم تنفيذ خطة شاملة لحل الأزمة، فلن تكون هناك استثمارات طويلة الأجل ومجدية، وسيعاني لبنان مزيدًا من التآكل في رأسماله المادي والبشري والاجتماعي والطبيعي.
يقدّم تقرير المرصد الاقتصادي للبنان الصادر تحت عنوان: “في قبضة أزمة جديدة” تحديثًا للتطورات الاقتصادية الرئيسية ويُقيّم انعكاساتها على الآفاق المستقبلية للبلاد. أما القسم الخاص من التقرير والذي جاء بعنوان “تأثير الصراع في الشرق الأوسط في الاقتصاد اللبناني” فيُقيّم تأثير الصراع الحالي وانعكاساته على الاقتصاد اللبناني وآفاق نموه وسط فراغ سياسي ومؤسسي طال أمده.
ووفق التقرير قبل نشوب الصراع الحالي، كان من المتوقع أن يحقق الاقتصاد – لأول مرة منذ عام 2018 – نمواً بنسبة 0.2% في عام 2023. وبدا أن الاقتصاد اللبناني قد بلغ قاعاً مؤقتاً بعد سنوات من الانكماش الحاد. وأتى هذا النمو الهامشي مدفوعًا في الغالب بعوامل شديدة التقلّب: نمو الاستهلاك الناجم عن موسم سياحي صيفي قوي، وتدفق كبير للتحويلات المالية، وزيادة دولرة الرواتب، بالإضافة إلى علاماتٍ على استقرار (مؤقت) في نشاط القطاع الخاص. وفي ظل الصراع الحالي وغياب الاستقرار الاقتصادي على النطاق الأوسع، من المتوقع أن يعود الاقتصاد اللبناني إلى حالة الركود في عام 2023. ووفقًا للتقرير، لا تزال اختلالات الاقتصاد الكلي قائمة، حيث لا يزال الحساب الجاري يعاني عجزًا كبيرًا يصل إلى 12.8% من إجمالي الناتج المحلي.
ومن المتوقع أن يتسارع معدل التضخم – الذي فاق الـ100% منذ عام 2021 – إلى 231.3% في عام 2023، مدفوعًا بانخفاض سعر الصرف (خلال النصف الأول من عام 2023) والدولرة السريعة للمعاملات الاقتصادية. علاوة على ذلك، تصدّر لبنان قائمة البلدان الأكثر تأثراً بالتضخم الاسمي لأسعار المواد الغذائية في الربع الأول من عام 2023 (بنسبة 350% على أساس سنوي في نيسان 2023)، مما أدى إلى تفاقم هشاشة الظروف المعيشية للفئات الأشد فقرًا والأكثر احتياجاً من السكان. ولا يزال الدين السيادي الذي بلغ 179.2% من إجمالي الناتج المحلي في عام 2022 غير مستدام وسط انخفاضٍ حاد في قيمة العملة وانكماشٍ اقتصادي، وفي ظل غياب إعادة هيكلة شاملة للديون.
إذاً بالمختصر المفيد الذي أوصل لبنان إلى الحضيض هو عدم تطبيق الإصلاحات والذي سيخرجه من الأزمة هو تطبيق الإصلاحات.
في السياق رأى عميد كلية إدارة الأعمال في الجامعة الأميركية للتكنولوجيا الدكتور بيار الخوري في حديث للديار، أن عام ٢٠٢٣ في العموم كان عاماً سيئاً لبنانياً وإقليمياً وعالمياً، وعلى الصعيد اللبناني هي سنة سيئة كونها لم تسجل أي خطوة إلى الأمام للخروج من المأزق الذي نعاني منه منذ خريف ٢٠١٩،” لا بل بالعكس ما زالت السياسات تتخبط في مسار لا يمكننا من الخروج من النفق المظلم”.
وشدد الخوري على أنه كان المطلوب على مدى الأربع السنوات من الأزمة مسؤولية جدية من قبل صانعي السياسات تجاه ثروات اللبنانيين المتمثلة بالودائع المحتجزة في المصارف، وتجاه الثروة الأكبر وهي تنمية الناتج الوطني، لافتاً إلى أننا لم نلحظ أي تقدم في هاتين المسألتين .
ورأى الخوري أن حل هاتين المسألتين يتطلب مجموعة من السياسات والإصلاحات، التي يبدو أن مراكز القوى في السلطة ليس لها مصلحة باتخاذها وتنفيذها، مشيراً أنه منذ توقيع اتفاق الترسيم ازداد التشنج تجاه الإصلاحات، “لأن الطبقة السياسية تراهن على وجود الغاز لإنقاذهم من الأزمة دون الاضطرار الى تقديم تنازلات تؤدي إلى زعزعة أسس السيطرة السياسية “.
ووفق الخوري الإصلاح له عناوين وكي نصل للحفاظ على ثروة اللبنانيين وتنميتها المطلوب اليوم أن نصل إلى قطاع عام ناشط ومحوكم بشكل جيد وشفاف، معتبراً أن ما حصل خلال سنوات الأزمة هو المزيد من غموض آليات عمل القطاع العام والمزيد من الشلل في المؤسسة العامة، التي لها دور أساسي مهما كان حجمها في المستقبل، في أن تكون ناظماً للعمل الاقتصادي .
ورأى الخوري أننا أصبحنا أمام مؤسسة عامة فاشلة وقانون لا يعمل بأي شكل من الأشكال إذ ان المحاكم متوقفة والملاحقات مشلولة وكل ميزات القطاع العام فقدناها في لبنان، إضافةً إلى أننا عاجزون عن إعادة تشكيل السلطة السياسية التي هي المدخل إلى كل الحلول.
أما بالنسبة للايجابيات التي شهدها العام ٢٠٢٣ فاعتبر الخوري ان هناك إيجابيتين لا يمكن التغاضي عنهما الأولى هي مسألة تعويم التسعير بالدولار والتي بالرغم من كونها دليل أزمة كبيرة لجهة الثقة بالبلد وبعملته الوطنية، لكنها ساهمت في أن تعيد تعويم القيمة الحقيقية للأسعار وأزالت جزءًا كبيراً من التشوهات السعرية الموجودة في السوق اللبناني، كما دفعت الناس الى التداول والإحتفاظ أكثر بالقيم على قاعدة حقيقية، مذكّراً أن قبل التسعير بالدولار لم يكن هناك سعر للدين ولا سعر للتداول، و “حُلت مسألة التشوه السعري من خلال الدولرة مع أنها ليست الحل المثالي لكنها قامت بتنشيط الحركة الإقتصادية” .
أما المسألة الثانية الإيجابية في العام ٢٠٢٣ وفق الخوري فهي التحول الذي حصل في حاكمية مصرف لبنان الذي كان عاملاً إيجابياً ليس فقط لخروج حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة، الذي كان يمعن في تشويه نظام القيم ونظام الأسعار من خلال سياسات الضخ الواسع لليرة اللبنانية من دون مقابل اقتصادي، والذي أدى إلى ارتفاع سعر صرف الدولار إلى ١٤٢ ألف ليرة في أوائل العام ٢٠٢٣، لافتاً إلى أن الحاكمية الجديدة برئاسة الحاكم بالإنابة وسيم منصوري عملت على خطين الأول هو وقف ضخ الليرة اللبنانية في السوق، والخط الثاني هو وقف تمويل الحكومة”، وهذان الخطان دليل على أن وقف ضخ قيم وهمية في السوق يجعل الإقتصاد متجاوباً بشكل سريع وفعال، “وهذا ما شهدناه في الربع الثاني من السنة حيث نشطت الحركة الاقتصادية في البلد وتحسنت الأجور كما تحسنت القدرة على الاستهلاك بسبب إرتفاع الأجور”.
لكن لا يرى الخوري أن كل هذه الأمور والإيجابيات كافية للنهوض بالاقتصاد بل هي نوع من تأخير لعوامل المرض اللبناني، لكن لا يمكن أن تحل بأي شكل من الأشكال محل الضرورة للإصلاحات التي باتت ضرورة قصوى، لأن البلد لا يمكنه أن يقوم من دون دولة أو أن يقوم مع دولة مترهلة، مؤكداً أننا لو حصلنا على كل غاز العالم في ظل استمرار الدولة على طريقتها في الإدارة، فهذه الثروات ستكون مهدورة مشيراً أننا خلال ثلاثين سنة التي سبقت الأزمة أهدرنا من المال ما هو أضعاف القيمة المتوقعة من إكتشاف الغاز، مشدداً على ضرورة عدم المراهنة على الغاز من دون إصلاحات جدية وحوكمة القطاع العام وشفافيته وإنفاذ حكم القانون في البلد.
وحول نظرته وتوقعاته للعام ٢٠٢٤ قال الخوري أنا من المتفائلين بالعام ٢٠٢٤ ليس لأسباب لبنانية، بل لأن مشكلة المنطقة ستذهب إلى حل كبير، الذي سيؤدي إلى حل ما في لبنان يُعيد دمجه باستراتيجية المنطقة، مؤكداً أنه سيكون للبنان مكان في التركيبة الجديدة للمنطقة، متأملاً ان حرب غزة ستضع أوزارها بحيث استنفدت القيمة السياسية لها وأصبح لا بد من الذهاب إلى تسوية التي لن تكون في حدود غزة فقط بل تسوية شاملة في المنطقة التي هي بحر محتمل من الاستثمارات والتي من الممكن أن تعيد تشكيل الاقتصاد العالمي من خلال منطقة الشرق الأوسط، ” وهذا رهان كبير للبنانيبن كي نجد مكاننا في اقتصاد المنطقة بعد كل الضياع الاقتصادي الذي نعيشه”.
اميمة شمس الدين- الديار