المقاومة تستعدّ لقطف ثمار “التحرير الرابع” سياسياً: هل من انفراج رئاسي مطلع العام… أم “جعجعة” من دون “طحين”؟
مرة جديدة “يثرثر” بعض الساسة في لبنان، ويتحدثون عن حراك رئاسي جدي مطلع العام الجديد، ويشيرون الى انسحاب الاجواء المفعمة بروح “المسؤولية الوطنية”، التي ادت الى تفاهمات من فوق الطاولة ومن تحتها للتمديد لقائد الجيش العماد جوزاف عون على الملف الرئاسي. لكن وبعيدا عن الاوهام، كل هذا الكلام مجرد تعبئة فراغ، ومحاولة لايهام الرأي العام بان ثمة مَن هو “مشغول باله” على البلد، ولا ينام بسبب حالة الفراغ والاهتراء من رأس الدولة حتى اخمص قدميها. مع العلم ان العكس هو الصحيح ولا يوجد في الاجواء الداخلية والاقليمية والدولية، ما يشير الى وجود ثغرة يمكن استغلالها لفصل الملف اللبناني ، عما يدور من اعادة رسم لمعادلات القوى في منطقة تشهد حربا حقيقية، لا يرغب البعض في التصديق ان احدى ساحاتها الفاعلة الجبهة الجنوبية، التي لا يمكن اعتبارها تفصيلا هامشيا بانعكاساتها على الشأن الداخلي في مرحلة ما بعد وقف النار في غزة.
وامام هذه المعطيات، ترى اوساط سياسية بارزة ان كل الاجواء الايجابية، حيال رهان على تحرك يقوده رئيس مجلس النواب نبيه بري تحت عنوان “المشاورات” بدل الحوار، لا يبدو جديا بل امر مبالغ فيه، لان التفاهم الذي حصل وانضمت اليه قوى المعارضة، وفي مقدمتها “القوات اللبنانية” للتمديد لقائد الجيش، جزء منه “نكاية” بالتيار الوطني الحر ورئيسه، حيث خاضت معراب معركة “كسر” جبران، وجزء منه تلبية لتفاهم اقليمي – دولي تقاطع على ضرورة منع الشغور في المؤسسة العسكرية، والقاسم المشترك بين كافة الاطراف التي شاركت او سمحت بتمرير التمديد، وضمنا حزب الله، انها لا تعاني من مشكلة شخصية او عملانية مع قائد الجيش.
ولهذا، فان مسألة بقائه لسنة واحدة لا تقدم او تؤخر، بل هي على العكس ساهمت في تنفيس بعض من “الغضب” المفتعل لبكركي في معركة غير ذات جدوى، ولهذا فان مسألة الاستقرار في الجيش منفصلة عن الملف الرئاسي بالنسبة لفريق محور المقاومة، الذي لم يراع الحساسية الشخصية لرئيس كتلة “لبنان القوي” جبران باسيل، الذي ارادا ازاحة قائد الجيش من السباق الرئاسي، ومعاقبته على ما يصنفه في “قاموسه” قلة وفاء، باعتبار ان ملف ترشيح عون من عدمه لا يرتبط بوجوده في وظيفته العسكرية، والمعايير التي ستحكم اسم الرئيس لا تمت بصلة الى الأداء الوظيفي خلال العام الممدد، فما “كتب قد كتب” ازاء اداء قائد الجيش في سنواته المنصرمة، وليس بحاجة الى فترة اختبار جديدة كي يثبت اهليته الرئاسية من عدمها. ولهذا فان كلا الملفين منفصلان تماما، والخلط بين الرئاسة والتفاهم على التمديد مجرد وَهم، يبيعه اصحابه لقلة من اللبنانيين ما تزال “تشتري” تلك البضاعة الفاسدة.
ووفقا لتلك الاوساط، فان الكلام الجاد الذي يعول عليه يجري في مكان آخر، حيث يرتفع نسق التصعيد في الميدان على كافة الجبهات المفتوحة من غزة مرورا بلبنان وسوريا والعراق، وصولا الى اليمن والبحر الاحمر، تزامنا مع بدء صياغة التسويات الصعبة للخروج بصيغ تناسب الجميع، لوقف الحرب والذهاب الى قواعد اشتباك جديدة، يحاول فيها كل طرف ان يحسن شروطه قبل وقف النار.
وعلى وقع ما يدور من اتصالات في القاهرة، يصل وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن مرة جديدة الى المنطقة، في زيارة ستشمل “إسرائيل” والأردن والإمارات والسعودية وقطر، في محاولة للدفع قدما في تسوية تنقذ الموقف المتدحرج نحو انفجار اقليمي لا تريده واشنطن، وباتت مقتنعة انه لا بد من دفع “اثمان” معينة ومحددة، لمنع وقوعه على بعد اشهر قليلة من الدخول في معمعة الانتخابات الرئاسية الاميركية، ولهذا التركيز راهنا على الوصول الى وقف لاطلاق النار، تمهيدا لمرحلة ما بعد حرب غزة والجبهات المساندة، وحينها يمكن البدء في الحديث عن تسوية داخلية بنكهة دولية – اقليمية تأخذ في الحسبان موازين القوى التي افرزتها هذه المواجهة المتعدة الجبهات.
ولهذا، فان اي تسوية للملف اللبناني لن تحصل قبل ان تتبلور مخرجات التسوية، وحتى لو عقدت مجموعة الدول الخماسية اجتماعا في النصف الثاني من الشهر المقبل، فانها لن تقدم اي جديد يذكر، فواشنطن تبدو اكثر واقعية من غيرها، وخصوصا الفرنسيين الذين يحاولون اللعب في الوقت الضائع لايجاد دور مفقود، وهي باتت على قناعة بان الكلام مع حزب الله غير مجدي في خضم المعركة، بعدما تلقوا اجوبة حاسمة على رسائل “العصا والجزرة”، دفعت كبير مستشاري الرئيس للأمن والطاقة عاموس هوكشتاين الى تأجيل زياراته الى بيروت، وربطها بحصول الاتفاق على وقف اطلاق النار في غزة، ومعها كل الجبهات، وثمة جديد على “الطاولة” هذه المرة، الاميركيون يسعون الى حل مستدام لاراحة “اسرائيل” استراتيجيا ولو بتكلفة باهظة تكتيكيا، من خلال اعادة طرح اقفال ملف الحدود البرية، وايجاد حل لمعضلة مزارع شبعا والنقاط المتحفظ عليها لبنانيا.
جدول الاعمال الاميركي يراه خصوم حزب الله فرصة قد تكون استثنائية لاضعافه، عبر سحب ما يرونه ذريعة للاحتفاظ بسلاحه، وهم يمّنون النفس بجوائز ترضية لصالحهم، وفي طليعتها الاتيان برئيس جمهورية لا ينتمي بخطه السياسي لمحور المقاومة، وهم لا يغالون ايضا في طموحاتهم ، لهذا يرضون بايصال قائد الجيش الى بعبدا باعتباره لا يشكل استفزازا للطرف الآخر، لكنه في الوقت نفسه “يكسر شوكة” الحزب، من خلال منعه من تكرار تجربة الرئيس السابق ميشال عون مع رئيس “تيار المردة” سليمان فرنجية.
في المقابل، تبدو القراءة مختلفة عند المحور الآخر، الذي يرى ان الرغبة الاميركية في ايجاد تسوية ستدفع واشنطن الى تقديم تنازلات في اكثر من ملف ومنها لبنان، وحينها سينتهي النقاش الى نتائج تأخذ في عين الاعتبار موازين القوى، التي نجح حزب الله في فرضها ميدانيا في الجنوب، وهو ليس في موقف ضعيف لتقديم التنازلات، واي جهد اميركي جدي لاعادة حقوق لبنان في ارضه، سيعتبره تحريرا رابعا لم يكن ليحصل لولا المقاومة، وبالتالي ليس منطقيا ان الطرف الاقوى الذي حقق انجازا جديدا هو من سيدفع الثمن في السياسة الداخلية.
في الخلاصة، لكل طرف مقاربته، والجميع ينتظر تبلور الموقف في المنطقة، اما الكلام عن تفاهمات مرتقبة داخليا على الصعيد الرئاسي مع بداية العام الجديد، بمعزل عن النتائج العسكرية و السياسية للحرب، مجرد “ترهات” لا يمكن صرفها، “وجعجعة” من دون “طحين”.!
ابراهيم ناصر الدين- الديار