عندما ينقلب “سحر” الاسلام السياسي على الساحر… والضحية هم البسطاء الذين يؤمنون بالسحر والتنجيم

“كذب المنجمون ولو صدقوا”، فكيف بالتنجيم والسحر السياسي؟

بإنتهاء الحرب العالمية الثانية وبداية الحرب الباردة بين ما يسمى “العالم الحر” بقيادة الولايات المتحدة الأميركية ودول المعسكر الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفياتي، بدأت دول الغرب محاولاتها لوضع الدول العربية والاسلامية في مواجهة المعسكر الاشتراكي إنطلاقاً من أن هذا المعسكر “ملحد” وكافر، وأن الاسلام بطبيعته يدعو الى محاربة الكفر والإلحاد، لذا على هذه الدول محاربة هذا المعسكر أو أقله منع تمدده إلى بلاد المسلمين، وكانت تلك من أولى المحاولات لاستغلال الدين الاسلامي وإستخدامه كسلاح سياسي في إستراتيجية الغرب ضمن الحرب الباردة. وقد تهيأت لهذه المحاولات قيادات عربية وإسلامية من النخب الحاكمة التي تأثرت بالفكر الغربي الليبرالي الرأسمالي سواء عن قناعة لدى البعض، أو عن “مصلحة” سياسية أو منفعة شخصية كي لا نقول عمالة لدى البعض الآخر في محاولة للامساك بالحكم والاحتفاظ به بعد الاستقلال، خصوصاً وأن “الدين” يُعتبَر شعاراً وسلاحاً فاعلاً في مواجهة الخصوم.

بدأت هذه المحاولات عام 1955 عبر طرح الولايات المتحدة الأميركية والغرب ما سمي يومها حلف المعاهدة المركزية CENTO أو “حلف بغداد” كما اشتهر في العالم العربي، والذي تأسس في 24 شباط بإتفاق بين تركيا والعراق بدايةً، وما لبثت أن إنضمت إليه كل من بريطانيا في شهر نيسان، وباكستان في شهر تموز، وإيران في شهر تشرين الثاني من العام نفسه، وعلى الرغم من أن الفكرة أميركية فإن الولايات المتحدة لم تنضم إليه بل دعمته بقوة وأوكلت مهمته إلى بريطانيا، فكان بالاضافة الى كونه محاولة لتطويق الاتحاد السوفياتي من الجنوب، وكأنه محاولة تعويض معنوي من أميركا لبريطانيا عن دورها المفقود في الشرق الأوسط لصالح واشنطن.

يمكن القول بأن هذا الحلف قد مات عملياً بعد ثورة تموز في العراق عام 1958 التي جاءت كنتيجة لجو الغليان في المنطقة التي شهدت تطورات كبيرة من قضية الأسلحة التشيكية لمصر، إلى أزمة تمويل السد العالي في مصر وتأميم قناة السويس، القرار الذي أعقبه العدوان الثلاثي على مصر وتداعياتها من إنسحاب بريطانيا وفرنسا من المنطقة إلى تطويب جمال عبد الناصر زعيماً عربياً، ما خلق وضعاً غير مستقر كذلك في كل من سوريا ولبنان والأردن. هكذا إنسحب العراق بعد ثورة 1958 من الحلف وهو أحد مؤسسيه على يد نوري السعيد الذي قتل في الانقلاب – الثورة، فكان موته ضربة قاسية للحلف إن لم تكن قاتلة، خصوصاً وأن هذا الحلف نأى بنفسه عن القضية الفلسطينية والصراع العربي – الصهيوني وتطوراته في الستينيات، وهو ما جعله غير ذي معنى في المنطقة، كذلك لم يكن داعماً لباكستان في حربها مع الهند بداية السبعينيات، وفي أعقاب الغزو التركي لشمال قبرص أوقفت الولايات المتحدة مساعداتها العسكرية لتركيا، كما لم يكن له أي دور في إيران مع إندلاع الثورة ضد الشاه التي إنتصرت عام 1979 ليكون إنتصارها رصاصة الرحمة التي أصابته. وبهذا يكون الحلف قد مات سريرياً – إذا صح التعبير – بفعل ثورة العراق عام 1958، ودُفن بفعل ثورة إيران في العام 1979، وهو العام الذي دخل فيه الاتحاد السوفياتي إلى أفغانستان غازياً بعد أن كان قد دخله عبر الانقلاب الشيوعي على الرئيس محمد داوود عام 1978، ليدخل بعدها الرفاق في صراع بين جناحين في الحزب الشيوعي، ما اضطر السوفيات الى التدخل المباشر الأمر الذي أتاح لأميركا إستعادة مخططها للافادة من العامل الديني في الصراع، وهذه المرة ليس عن طريق الأنظمة وحسب، بل أيضاً عن طريق الحركات والمنظمات الشعبية التي حوّلتها إلى “جهادية” خصوصاً في بلد كأفغانستان يلعب فيه الدين والقبلية دوراً مهماً في المجتمع والدولة.

نجحت أميركا مدعومة من بعض الدول الاسلامية خصوصاً المملكة العربية السعودية وباكستان في هزيمة الاتحاد السوفياتي في أفغانستان من خلال دعم “المجاهدين الأفغان” عسكرياً ومادياً ودعوياً وبشرياً عبر الآلاف من الذين أطلق عليهم بعدها “الأفغان العرب”، الهزيمة التي أدت – مع عوامل أخرى – إلى إنهيار النظام الشيوعي في موسكو ما تبعه إنهيار المعسكر الاشتراكي في العالم لتصبح أميركا بعدها القطب الوحيد في العالم وكانت بداية ما أطلق عليه النظام العالمي الجديد، الذي لم يرق لبعض مجموعات المجاهدين الأفغان الذين باتوا أهل سلطة وحكم في أفغانستان، وعلى عادة كل “الثورات” بعد نجاحها تبدأ بأكل أبنائها ويبدأ الصراع الذي حسمه “الأفغان العرب” بقيادة أسامة بن لادن وأعوانه لصالح حركة “طالبان”، الجناح الأكثر تشدداً بين المجاهدين، لينتهي الأمر بأحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) التي أدخلت العالم في طور جديد من الصراعات، كان للعالم العربي حصة الأسد من كوارثها وتداعياتها على قضاياه من فلسطين إلى العراق ولبنان، كما على الاستقرار الداخلي لبعض دوله التي طالتها يد الارهاب كالمملكة العربية السعودية ومصر، ما أعطى الفرصة لأعدائه وخصومه في المنطقة للتنمر والتمدد فيه وعلى حسابه.

وهكذا إنتهت تجربة الغرب والاسلام السياسي “الجهادي” في مرحلتها الأفغانية بالدم والدمار والدموع، وذلك حين إنقلب “السحر الاسلامي” على الساحر الأميركي، فكان الضحية كما قلنا العالم العربي بقضاياه المحقة وعلى رأسها قضية فلسطين التي تعاني اليوم من تجربة أخرى مع إختلاف الظروف والأحداث والشخصيات، بحيث لجأت إسرائيل بعد فشل محادثات الوضع النهائي بين ياسر عرفات وإيهود باراك تطبيقاً لاتفاقية أوسلو، ومع إندلاع إنتفاضة الأقصى في 28 أيلول 2000 نتيجة لذلك، لجأت الى التضييق على السلطة الفلسطينية بصورة تصاعدية خصوصاً مع عسكرة الانتفاضة وإنتهاج حركة “حماس” أسلوب العمليات الانتحارية ضد الاسرائيليين، ما زاد من الضغط على ياسر عرفات الذي وقع بين فكي كماشة التطرف الصهيوني والفلسطيني، وأدى في النهاية الى محاصرته في المقاطعة برام الله ومن ثم إغتياله بالسم عام 2004. تبع ذلك في العام 2005 خطة فك الارتباط مع غزة والانسحاب الكامل منها، ما بدا وكأنه رهان على حركة “حماس” نظراً الى قوتها هناك في محاولة لخلق منافس للسلطة الوطنية الفلسطينية القابعة منهكة في الضفة الغربية، ما أفسح المجال عملياً لـ “حماس” للتمدد ونجحت الخطة الاسرائيلية خصوصاً بعد إنتصار الحركة في إنتخابات 2006 وما تلاها من الاستيلاء عسكرياً على غزة وإنقسام الشارع الفلسطيني، الأمر الذي خلق سلطة موازية في القطاع تحت إمرة “حماس” بغض نظر صهيوني – في تقاطع مصالح بين المتشددين في الجانبين – وإعتقاد ربما بأن تسليم السلطة الى “حماس” قد يغريها أو يلهيها عن المطالبة بالحقوق الفلسطينية كاملة، كما قد يسمح لاسرائيل في ظل الانقسام الفلسطيني بالتفرغ للاستيطان في الضفة الغربية، وهو ما نجحت فيه فعلياً مع إستمرارها في التضييق على سلطة رام الله وغض النظر عن وصول التمويل إلى “حماس” من خلال وساطات قطرية على الرغم من الحروب التي نشبت بين الطرفين إلى أن وصل الوضع إلى ما وصل إليه اليوم، أيضاً بعد إنقلاب “السحر” الحمساوي على الساحر الصهيوني.

قبل هذا وذاك كانت هناك تجربة مماثلة للرئيس المصري الأسبق أنور السادات في بداية عهده بالسلطة عندما إستعان بالاسلاميين لمواجهة الناصريين واليساريين، فأخرجهم من السجون ودعمهم حد التزلف عندما أسبغت عليه وسائل إعلامه لقب “الرئيس المؤمن”، فكان أن إنتهى شهر العسل بين الجانبين عندما إنقلب “السحر الاسلامي” على الساحر السادات فقتله في ذكرى يوم إنتصاره في السادس من أكتوبر 1981.

هذه حكاية “سحر” الاسلام السياسي الذي حاول بعض السحرة من الدول والسياسيين إستعماله ضد الخصوم، فكان ينقلب على الساحر في ظروف وأوقات تشهد صراعات دامية فيزيدها دموية ودماراً وخراباً، والضحية دائماً هم البسطاء من الناس الذين يؤمنون بالسحر والتنجيم متناسين المقولة الشهيرة “كذب المنجمون ولو صدقوا”، فكيف بالتنجيم والسحر السياسي؟

ياسين شبلي- لبنان الكبير

مقالات ذات صلة