تغيّر الوضع بعد “الطوفان”: حماس و”ترتيب البيت”… الانضمام إلى “المنظمة”؟

فيما يشيع الحديث عن “اليوم التالي” للحرب في غزّة لدى واشنطن والعواصم الأوروبية، يبدو الجانب الفلسطيني غائباً عن هذا النقاش، عاجزاً عن اجتراح أفكار خلّاقة تكون بمستوى الحدث الدراماتيكي التاريخي الحاصل منذ 7 تشرين الأول الماضي. فإذا كانت قيادات سياسية في حركة حماس قد فوجئت بشنّ “كتائب القسام” لعملية “طوفان الأقصى”، فإنّ قيادة السلطة الفلسطينية وبقيّة الفصائل بدت مرتبكة ترتجل التعامل مع مفصل تاريخي داهم صعُب استشرافه.

من راقب أداء السلطة في رام الله، وخصوصاً في الأيام الأولى للحدث وما تلاه من شنّ إسرائيل هجومها المدمّر ضدّ قطاع غزة، لاحظ أنّ “المقاطعة”، أي مقرّ الرئيس والقيادة الفلسطينيين، تتعامل مع أمر لا ناقة لها به ولا جمل، وتطلق مواقف مبدئية بشأن حالة بعيدة عن سياق يوميّاتها المعتادة. بالمقابل فإنّ المتحدّثين باسم حركة فتح (أو بعضهم حتى لا نعمّم) تناولوا الحدث كمحلّلين سياسيين أو كمدافعين عن “الفصيل” الذي ينتمون إليه من دون أيّ أخذ بعين الاعتبار لتاريخ حركة فتح في رسم مسار الحركة الوطنية الفلسطينية برمّتها وتصدّر الدفاع عن أيّ “حالة” فلسطينية أيّاً كان التيار السياسي والفصائلي الفلسطيني المسبّب لها.

على الرغم من التباعد والخلاف بين حركة حماس والقيادة الفلسطينية في عهد الرئيس ياسر عرفات، بقي الراحل يتصرّف بصفته قائداً لكلّ الشعب الفلسطيني، ولطالما اتّهمته إسرائيل بأنّه وراء الدعم الذي يصل للحركة بقيادة الشيخ أحمد ياسين آنذاك. وحين قامت إسرائيل بإبعاد أكثر من 400 من قيادات حركتَي حماس والجهاد صوب منطقة مرج الزهور في جنوب لبنان في كانون الأول 1992، استنكر “أبو عمّار” السلوك الإسرائيلي مدافعاً عن قضية المبعدين وحريصاً من خلال ما كان يملكه من نفوذ في لبنان على التواصل مع المبعدين وإيصال المساعدات لهم.

زمان أبي عمّار… وزمان كوشنير

اختلف الزمن، وبدا أنّ الخلاف بين حماس وفتح الذي انفجر دمويّاً عام 2007 وأخرج فتح والسلطة من قطاع غزة، راكم حقيقة لا يمكن تجاوزها بالمشاعر والعواطف. كما أنّ الفشل المتراكم والمتكرّر لإصلاح ذات البين بين الطرفين وإخفاق كلّ الوساطات الإقليمية في هذا الشأن جعلا من الانقسام حالة شبه نهائية، أو أُريد لها أن تكون كذلك، بحيث بات العالم يتعامل مع الضفة والقطاع بصفتهما حالتين منفصلتين مستقلّتين.

ليس صدفة في هذا السياق أن يتركّز خطاب الرئيس الفلسطيني محمود عباس في كلّ مرّة يستقبل فيها مسؤولاً غربياً هذه الأيام على أنّ “غزة جزء لا يتجزّأ من الدولة الفلسطينية” وعلى رفض التعامل الدولي مع حالة غزّيّة تختلف عن بقيّة الحالة الفلسطينية. ويقوم هذا الخطاب على معطيات حقيقية يمتلكها “أبو مازن” بشأن ما كان يُحاك إسرائيلياً وأميركياً ودولياً في هذا الصدد. حتى إنّ جاريد كوشنر، مستشار الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب وصهره، رأس في آذار 2018 مؤتمراً لقطاع غزة وسوّق لمشروع في حزيران 2019 لتحويل غزة إلى “مدينة أحلام” ملمّحاً إلى ضمّ سيناء إلى “صفقة القرن”.

وفق هذا الواقع وهذا الانقسام بدا أنّ حركة حماس تموضعت بناء على “نهائية” هذا الحال. وكان واضحاً أنّ الحركة غير مستعدّة للتخلّي عن “إنجازها” الغزّيّ بحكم القطاع كرمى لـ”مصالحة وطنية” تعيد الشراكة إلى داخل ميدان نفوذها. وكان واضحاً أيضاً أنّ الامتدادات الإقليمية للحركة كانت متصالحة مع الأمر الواقع وربّما مشجّعة له غير مكترثة ببذل أيّ جهود لإعادة اللحمة إلى الجسم الفلسطيني المتصدّع.

تغيّر الوضع بعد “الطوفان”. أغرت الحرب العدميّة ضدّ غزة الإسرائيليين بإعادة تعويم أحلام “الترانسفير” صوب سيناء والأردن. بدا أنّ موقف مصر والأردن كان حازماً وحاسماً في رفض هذا الاحتمال، وهو ما استدعى موقفاً أميركياً رادعاً في هذا الصدد من دون أن تبدّد المواقف هذا الاحتمال. وبدا أيضاً أنّ “ترتيب البيت” الفلسطيني بات مطلبا ملحّاً فلسطينياً، لكنّه بات أيضاً مطلباً عاجلاً إقليمياً ودولياً، خصوصاً أنّ الولايات المتحدة برئيسها وموفديها إلى المنطقة أعادوا اكتشاف “حلّ الدولتين”.

ليس هناك ورشة فلسطينية مستجدّة وجدّيّة لترتيب البيت الفلسطيني. وإذا ما قال إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إنّ حركته منفتحة “على نقاش أيّ أفكار أو مبادرات تفضي إلى وقف العدوان وتفتح الباب على ترتيب البيت الفلسطيني على مستوى الضفة وقطاع غزة”، فإنّه في إغفاله مسؤولية “حماس” عن العبث بهذا البيت والإعراض عن ترتيبه، يُقَابَل من جهة السلطة بوصفة جاهزة لها وجاهتها تقوم على أنّ منظمة التحرير هي المظلّة السياسية الممثّلة لفلسطين وأنّ البيت يُرتّب داخل كنفها ووفق برنامجها الذي يعترف به العالم.

بدء مسار “المصالحة”؟

لم تستطع جولات الحوار بين فتح وحماس منذ عام 2008 إقناع الأخيرة بالانضمام إلى صفوف المنظمة. قبلت وثائق حماس بهدنة طويلة الأمد مع إسرائيل من دون أن تذهب إلى ما ذهبت إليه وثائق منظمة التحرير من اعتراف بدولة إسرائيل وإقامة دولة على جزء من فلسطين. كان هنية منذ عام 2017 قد أعلن أنّ حركته لا تعارض “مرحليّاً” قيام دولة على حدود عام 1967، لكنّها متمسّكة بعدم الاعتراف بالاحتلال الإسرائيلي على الأراضي الفلسطينية. وقبل أيام، وفي حديث لموقع المونيتور الأميركي، أبدى القيادي في حماس موسى أبو مرزوق استعداد الحركة لأن تصبح جزءاً من “منظمة التحرير الفلسطينية”، كخطوة نحو إنهاء الانقسامات بين الفصائل الفلسطينية، مضيفاً أنّه “سوف نحترم التزامات المنظمة”.

راجع الرجل لاحقاً عن تصريحه معتبراً أنّه “أسيء فهمه”. بمعنى آخر تراجعت حماس عن التخلّي عن محرّم ما زال ثابتاً في نصوصها. فالالتزام بالتزامات المنظمة، وفق موقف أبو مرزوق، يشمل اعتراف منظمة التحرير الفلسطينية بإسرائيل منذ عام 1993. وإذا ما صدر عن الرجل وهنية وغيره ما يُعبّر وسيعبّر عن تحوّلات الضرورة، فإنّ الحركة التي يخوض جناحها العسكري معركة غزّة لا تريد رمي أوراقها في وقت تردّدُ العواصم الكبرى أن لا مكان لحماس في أيّ تسويات سياسية مقبلة.

قد يكون صحيحاً أن “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”. وقد يكون مفهوماً أن لا تسقط حماس في السياسة ما لم تستطع إسرائيل حتى الآن حسمه عسكرياً. وقد يكون منطقياً أن لا تفتح الحركة بازاراً سياسياً في ظلّ غياب أيّ ورشة فلسطينية إقليمية دولية كبرى ذات مصداقية، لكنّ الشجاعة تقتضي أن تستخلص الحركة أمثولات الحرب التي سبق أن استخلصتها فتح وفصائل فلسطينية أخرى وأن تستثمر بالممكن وأن تتخلّى عن المستحيل، وأن لا تغرّد خارج السربين الفلسطيني والعربي وأن تكون جزءاً من دينامية ما بعد الحرب.

لئن تطلق حماس مواقف “تجريبية”، فإنّ على فتح والسلطة الفلسطينية أن تنتهزا اللحظة التاريخية لتشجيع حماس وكلّ الفصائل الفلسطينية على الالتحاق باستحقاقات تتطلّب وحدة لمواجهة مشهد دولي بدا أنّه ينظر إلى “الحلّ الفلسطيني” بعين أكثر جدّيّة. وإذا ما كانت التجارب السابقة لا تشجّع على الثقة بالمجتمع الدولي والإيمان به، فإنّ الأمر يستحقّ العبور إلى الوحدة الفلسطينية كخيار حتمي حتى لو كان في الأمر إكراه لا بطولة.

تحظى السلطة الفلسطينية بلحظة تاريخية نادرة يعود فيها المجتمع الدولي للاعتراف بها حلّاً لحكم غزة وتوحيدها مع الضفة الغربية. تشترط واشنطن لذلك “إصلاحاً وتنشيطاً” للسلطة. وإذا ما كان التعبيران مستجدّين في نصوص الدبلوماسية الأميركية، فإنّهما ضرورة يطالب بها الفلسطينيون منذ سنين من خلال الانتخابات.

فهل العالم يسمح بهذه الانتخابات؟ وهل إسرائيل وهذا العالم يقبلان بنتائج هذه الانتخابات؟ وإذا ما كان الاقتراع متعذّراً، فكيف يتمّ هذا الإصلاح وذلك التنشيط؟

هذا سؤال آخر.

محمد قواص- اساس

مقالات ذات صلة