إسرائيل تريد غزة… و”حماس” تريد الضفة الغربية… و”حزب الله” لا يعرف ماذا يريد

لعلّ الإنجاز الذي يمكن لإدارة الرئيس الأميركي جو بايدن أن تزعمه في علاقاتها المعقّدة مع إسرائيل وحكومة الحرب بقيادة بنيامين نتنياهو، هو أنّها نجحت هذا الأسبوع في صدّ خطّة الهجوم على لبنان التي اعتمدتها إسرائيل، وتوعّدت بأنّها ستجعل من لبنان ساحة مسطّحة من الدمار، كما فعلت في غزة.

أصرّ فريق بايدن على أن لا لزوم الآن في هذه المرحلة للدمج بين “حزب الله” في لبنان و”حماس” في غزة ضمن مشاريع إسرائيل للقضاء على الخطر الذي يشكّله كلاهما على وجودها، حسب تقديرها. نتنياهو وأركان الحرب قبلوا على مضض، شرط لجم استفزازات “حزب الله” وتطبيق الإلتزامات اللبنانية بموجب القرار 1701، وذلك ضمن فترة استراحة المحارب في المعركة السياسية والاستراتيجية النادرة الدائرة بين الولايات المتحدة وإسرائيل.

كل التفاهمات مشروطة في المرحلة الانتقالية وكل الهدن موقتة. ذلك أنّ الخلافات على تصوّر الحلول الدائمة عميقة جداً، وليس هناك بوادر اختراق في الأفق القريب، بل إنّ المقايضات على “اليوم التالي” محفوفة بالتعنّت والغضب. فماذا على طاولات رسم السياسات الدولية والإقليمية والفلسطينية والإسرائيلية بالذات؟.

بنيامين نتنياهو وفريقه العسكري وبدعم شعبي إسرائيلي، أوضحوا ماذا تريد إسرائيل، بالرغم من أنّ هناك انقسامات وتفاوت في المواقف بالذات في كيفية تناول مسألة الرهائن لدى “حماس”.

شكراً لنتنياهو لأنّه كشف القناع أخيراً عن خدعة المفهوم الإسرائيلي لاتفاق “أوسلو” الذي كان سبقاً صحافياً عالمياً لي شخصياً عام 1993، كشفتُ عنه عندما كنت مديرة مكتب جريدة “الحياة” في نيويورك.

الرئيس الفلسطيني محمود عباس لعب دوراً محوريّاً في إقناع الرئيس حينذاك ياسر عرفات بالموافقة على اعتراف منظمة التحرير الفلسطينية بإسرائيل ضمن مسعاها لإقامة دولة فلسطينية على حدود 1967.

في أعقاب جلسة مغلقة تحدّث فيها مسؤول إسرائيلي أمام أحد المجالس المهمّة في نيويورك، تجمّع عدد قليل من المهتمين بالحديث المطروح للأخذ والعطاء مع المسؤول لتعميق فهم السياسات شرط عدم نسبها إليه. كان مدهشاً ما قاله وبمنتهى البساطة والخلاصة.

قال: “المشكلة مع “أوسلو” هو أنّ الطرف الفلسطيني أخذها ببالغ الجديّة فيما نحن لم نتوقع ذلك ولم يكن في بالنا أخذها بجديّة”.

إسرائيل لم تكن أبداً جديّة في وعد “أوسلو” بقيام دولة فلسطينية. تملّصت دائماً من “حل الدولتين” ووضعت في جيبها الجوانب المتعلقة بالالتزامات الأمنية التي نفّذتها السلطة الفلسطينية نحوها. قالت دائماً إنّ موقفها من الدولة الفلسطينية هو أنّ الأردن هو الوطن البديل للفلسطينيين، ضاربةً بعرض الحائط السيادة الأردنية كما المواقف الأميركية والدولية التي تعتبر الأردن دولة مستقلة وليس وطناً بديلاً للفلسطينيين.

وعندما أتى إلى الحكم في إسرائيل قائدٌ رأى أنّ قيام دولة فلسطينية بجانب دولة إسرائيل يقع في المصلحة الإسرائيلية، تمّ اغتيال رجل السلام والتعايش وحل الدولتين إسحق رابين على أيادي إسرائيليين، ومنذ ذلك الحين استمر التحايل الإسرائيلي على حلّ الدولتين من دون رفضه القاطع علناً، الى أن تفضّل نتنياهو بإيضاح معارضته لاتفاق “أوسلو” جملةً وتفصيلاً بتصريحاته الخالية من الغموض الأسبوع الماضي، إذ قال إنّ أوسلو كانت “خطأً” لن يسمح بتكراره.

القاسم المشترك بين نتنياهو وجماعته من المتطرّفين وبين حركة “حماس” وقياداتها، هو أنّ كليهما رفض ويرفض حل الدولتين، ولذلك كانا دائماً شريكين أساسيين منذ أن ساهمت إسرائيل في إنشاء “حماس”، وعبر تسهيل تمويلها لسنوات كي تستمر في محاربة السلطة الفلسطينية برئاسة محمود عباس رجل أوسلو ورجل حل الدولتين ورجل قيام الدولة الفلسطينية بجانب إسرائيل.

ما أنجزه اتفاق أوسلو للفلسطينيين هو أنّه سمح بوجود سلطة فلسطينية على أراضٍ فلسطينية قاومت الاحتلال محلياً وفي المحافل الدولية، حيث أصبح معترفاً بها وبفلسطين لدى دول العالم وفي كل المنظمات الدولية.

اليوم، ونظراً لعمق ورطة “حماس” في أعقاب عملياتها في 7 تشرين الأول (أكتوبر) والانتقام الإسرائيلي من غزة برمتها نتيجة مغامرات “حماس” “المدروسة” حسب قول أحد قادتها، تسعى قيادات “حماس” السياسية إلى تقديم نفسها بأنّها جاهزة للتغيير جذرياً، بنوع من الانقلاب على نفسها transformation. هدفها أوسع وأعمق من إنقاذ نفسها واعتماد النموذج الإيراني للتأقلم التكتيكي الذي قد يكون مرحلياً وموقتاً وقد يكون انقلاباً جديّاً على الذات وعلى العقيدة. فالغموض الاستراتيجي جزء من فكر الاثنين.

تقول مصادر مطلِّعة على تفكير قيادات “حماس” إنّ ما تقوم به اليوم هو تهيئة خطوات عملية للإيحاء بأنّ هناك حقاً عملية تغيير جذري وانتقال من “حماس” الراديكالية إلى “حماس” السلمية. ولذلك الحديث، أو زلّة اللسان، عن قبول بحل الدولتين وعن استعداد للالتحاق بمنظمة التحرير الفلسطينية. رسائل “حماس” لإسرائيل وللولايات المتحدة وللعالم هي أنّها جاهزة لإعادة اختراع نفسها ولتبنّي الاعتدال بدل التطرّف- إنما كل ذلك لغاية في نفس يعقوب.

حقيقة الأمر هي أنّ ما تريده “حماس” هو إعادة بناء نفسها بهدف التوصّل إلى السيطرة على الضفة الغربية، وليس على غزة. في ذهن قياداتها وضع استراتيجية لإعادة إعمار reconstruct نفسها بما يؤهّلها لتولّي القيادة وبما يمكّنها من فرض نفسها بديلاً عن منظمة التحرير الفلسطينية.

اليوم تتحدّث “حماس” بلغة الانخراط والشراكة مع منظمة التحرير، إنما ما في بالها هو أن تحلّ مكان المنظمة وعدوها اللدود فتح، لا سيّما وأنّها تعتقد أنّ القاعدة الشعبية الفلسطينية تريدها هي وليس السلطة الفلسطينية الحالية.

هذا أمر خطير جداً نظراً للعلاقة المريبة بين إسرائيل و”حماس”، والتي بموجبها لطالما أدّت تصرفات “حماس” الى توفير الذريعة لإسرائيل لتفرض أجندتها كأمر واقع. التهجير الذي يتمّ اليوم لفلسطينيي غزة إنما هو سياسة إسرائيلية قديمة، اقتناعاً منها أنّ سيناء هي البديل عن غزة، ولذلك التهجير الذي يتمّ باسم الانتقام من المغامرات المدروسة لـ”حماس” في 7 تشرين الأول (أكتوبر) بات أمراً واقعاً.

فإذا استطاعت “حماس” السيطرة على الضفة الغربية، ستتوفر الذريعة عاجلاً أم آجلاً لإسرائيل لتفرض التهجير القسري لفلسطينيي الضفة الغربية الى الأردن، باعتباره “الوطن البديل”. بالطبع ليست “حماس” وحدها الذريعة وإنما الذخيرة الكبرى هي السياسة المتطرّفة الإسرائيلية، وتطاول المستوطنين الإسرائيليين وحكومة فاجرة لا تأبه إلاّ ببقائها في السلطة مهما كانت الكلفة لإسرائيل، وليس فقط مهما فتكت بالمدنيين الفلسطينيين.

كلام بنيامين نتنياهو كما نقله الرئيس جو بايدن مبرّراً قيامه بالإبادة والفتك بالفلسطينيين بمقارنة ما قامت به الولايات المتحدة في حروبها، إنما فيه وقاحة مدهشة. صحيحٌ أنّ الحروب الأميركية لم تكن نظيفة لكن إسرائيل تقوم بحروبها بأسلحة وأموال الضرائب الأميركية، وهناك تداعيات قانونية تترتب على استخدامها الأسلحة الأميركية، في انتهاك صارخ لقواعد الحرب والمعاهدات الدولية لحماية المدنيين.

ردّ بايدن كان دقيقاً عندما أشار إلى الخطأ الأميركي الفادح في أعقاب أحداث إرهاب 2001، عندما أسرع الرئيس حينذاك جورج دبليو بوش الى غزو واحتلال العراق، وإلى الحرب الفاشلة في أفغانستان انتقاماً من 2001. لكن نتنياهو لا يبالي بنصائح بايدن، لا سيّما دعوته الى تغيير في حكومته المتطرّفة، وذلك لأنّ نتنياهو يلعب بحسابات الانتخابات الرئاسية الأميركية التي تبدأ عملياً منتصف الشهر المقبل. لا يهمّه أن يكسب الديموقراطيون أو الجمهوريون طالما تبقى حكومته في السلطة.

فريق بايدن يدرك أنّ نتنياهو يفضّل أن يفوز الرئيس السابق دونالد ترامب بالرئاسة، نظراً لمواقفه الحازمة والحاسمة مع إيران وأذرعها، وإزاء عدم تردّده بالدعم الكامل لإسرائيل مهما كان. لكن دونالد ترامب يتبنّى مبدأً أساسياً هو ألاّ تتورط الولايات المتحدة الأميركية بالحروب إطلاقاً.

سياسات حكومة الحرب الإسرائيلية تتبنّى كاستراتيجية لها جرّ الولايات المتحدة الى حربٍ مباشرة مع إيران، ولذلك تريد توسيع رقعة الحرب الى لبنان. وهنا المعضلة التي يواجهها دونالد ترامب- كيف يجمع بين وعده لشعبه بعدم التورط بالحروب وبين دعمه لحكومة حرب تعتزم جرّ بلاده إلى حرب مباشرة؟.

ما زال الحديث عن سياسة ترامب الخارجية مبكراً، لكن الكلام الذي يتردّد عن إمكان ترشيح نيكي هايلي إلى منصب نائب الرئيس كلام مخيف، لأنّ المرأة نفسها خطيرة بتطرّفها.
لعلّه تكون لدى فريق ترامب استراتيجية متكاملة للتعامل مع التعنّت والتطرّف الإسرائيليين ورفض نتنياهو حل الدولتين. استراتيجية تتعدّى مجرد اعتبار “حماس” منظمة ارهابية كما “داعش”. استراتيجية تأخذ في حسابها ما تتطلّبه منطقة الشرق الأوسط والمصالح الأميركية من تعديل في العلاقة الأميركية- الإسرائيلية. ترامب يفتخر بأنّه بارع في الصفقات، فلنرى إن كان سيتمكن من أن يتقدّم اليوم أو الشهر المقبل بصفقة حل دائم أو بتلك “الصفقة الكبرى” بعد الحدث الكبير.

أما اليوم، فإننا بين فكيّ حرب اقليمية وعالمية إذا سُمِح لإسرائيل بتوسيع الحرب. نجاح فريق بايدن بإيقاف إسرائيل عن تنفيذ خطة ضرب لبنان يعني وضع العصا في عجلة حرب إقليمية ستدخلها إيران مباشرة إذا غامرت إسرائيل بتوجيه ضربة عسكرية الى لبنان. ردع إسرائيل يعني ردع إيران، والعكس بالعكس. أما “حزب الله”، فإنّه سيأخذ تعليماته من طهران، وقد حان له أن يتوقف عن الإدعاء أنّه يساعد “حماس” و”كتائب القسام” في مقاومة إسرائيل من خلال حربه الخجولة على الحدود اللبنانية- الإسرائيلية القائمة على ما تُسمّى بقواعد الاشتباك.

فلينفّذ “حزب الله” التزاماته وتعهداته بموجب القرار 1701 كما بموجب اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل. ليكف عن استفزازات لا معنى لها سوى رفع العتب بمجازفة خطِرة عليه هو، وسيذهب لبنان واللبنانيون ضحيةً لها.

بعض اللبنانيين لا يمانع حرباً إسرائيلية تدمّر “حزب الله” وتقضي على تسلّطه على بلدهم باسم المقاومة ونيابةً عن المصالح الإيرانية وبسلاح موجّه ضدّ اللبنانيين بالدرجة الأولى. الأفضل لو يراجع “حزب الله” نفسه ويقوم بتعديل عقيدته وولاءاته ويصبح كياناً لبنانياً معتدلاً، يضع مصلحة اللبنانيين فوق أيّة مصلحة. هكذا ينقذ نفسه ويعيد اختراع مهامه ويقدّم الى قاعدته الشعبية العيش بسلام بدلاً من التدمير والدمار.

راغدة درغام- النهار العربي

مقالات ذات صلة