صرف موظفة من “تاتش” على خلفية اتّهامها بتسريب ملفّات..
تُسنّ القوانين في لبنان وتُنشأ مؤسسات للتوظيف والمنافع التحاصصية، ولكن ليس لإرساء منطق المؤسسات في عمل الدولة.
فبعد مخاض قانوني وصراع خاضته القوى السياسية والمجتمع المدني لفرض آلية محاسبة، وُلدت من رحم مرسوم أصدره مجلس الوزراء “الهيئة العامة لمكافحة الفساد” في عام 2022، لتكون “المظلة والإطار القانوني في سلة التشريعات لمكافحة الفساد”.
هذه الهيئة ابتغى المطالبون بها وضع حدّ لفلتان الفساد والرشوة وصرف النفوذ في وزارات الدولة والمؤسسات التابعة لها، للمحافظة على المال العام والانخراط في السياق العالمي المشترط على الدول ومؤسساتها ترسيخ قاعدة الشفافية والحوكمة الرشيدة في أداء المؤسسات الرسمية والخدماتية وخصوصاً تلك المدرة لإيرادات كبيرة للخزينة العامة. ولكن في لبنان حدّث ولا حرج… وهو ما آل إليه مصير الهيئة التي يرتبط دورها باستكمال تطبيق عدة قوانين مثل حق الوصول الى المعلومات وحماية كاشفي الفساد والإثراء غير المشروع، وقانون الشراء العام. فقد شلّ أهل السلطة قدراتها وحرموها العصا الغليظة الواجب توافرها لدى كل جهاز رقابي لفرض هيبته وحماية مهماته.
فالهيئة لا تعمل بالطموح المبتغى لدورها ووظيفتها بسبب النقص الكبير في عديد موظفيها، وفقدان المؤازرة الأمنية اللازمة والضرورية لأمرين، الأول، القدرة على حماية الموظفين أثناء مهماتهم الفائقة الحساسية، وثانياً لحفظ أمان الموظفين والمواطنين الذين يفيدون عن ممارسات غير قانونية في دوائر الدولة أو تفوح منها شبهات فساد وإثراء غير مشروع وانتهاك للقوانين والمال العام.
لماذا اليوم؟ بالرغم من عجقة أزمات البلاد والشغور المتزايد لفت ما قام به المدير العام لشركة #”تاتش” للاتصالات من “اقتصاص” وعقاب لموظفة متهمة بتسريب ملفات ومعلومات تكشف فيها عن تفاصيل مزايدة تشوبها بعض مخالفات قانونية، علماً بأن الموظفة المعاقبة لم يصدر بحقها أي حكم أو قرار قضائي أو مسلكي من الجهات المختصة.
الأسبوع الماضي انشغلت وزارة الاتصالات والنيابة العامة المالية بمعرفة من موظفي شركة “تاتش” سرّب بريداً إلكترونياً يقال إنه كان السبب في فضح تفاصيل إجراء المزايدة التي رست على شركة InMobiles المتعلقة بخدمة الرسائل القصيرة والتي وصلت أصداؤها الى ديوان المحاسبة الذي يفترض أن يصدر تقريره حولها قريباً، علماً بأن المستندات التي سُرّبت سبق للنائب ياسين ياسين أن حصل عليها من وزير الاتصالات جوني القرم بناءً على سؤال وجهه الأول عن المزايدة. بعدما شكك في الصفقة على خلفية مقارنته بين المبلغ الإجمالي الذي سيدخل الخزينة نتيجة العقد الموقّع بين شركة ألفا وشركة VOX Solutions والذي قارب 18 مليون يورو خلال فترة 3 سنوات (كما هو وارد على موقع هيئة الشراء العام)، مع المبلغ في عقد تاتش مع شركة InMobile الذي هو بحدود 7.4 ملايين يورو خلال 3 سنوات، أي إن فارق العقود بين الشركتين المملوكتين من الدولة اللبنانية هو أكثر من 10 ملايين يورو!
وكانت النيابة العامة المالية قد استدعت عدداً من الموظفين من بينهم موظفة من آل عون (يُزعم أنها سرّبت البريد الإلكتروني) للتحقيق معهم، كما صودر كمبيوتر عون، للتأكد ممّا إن كانت هي التي سرّبت البريد الإلكتروني.
فهل من حماية قانونية فعلية للموظفين لدى إفشائهم أفعال الفساد الحاصلة في إطار عملهم؟ وما مداها؟
تفيد مصادر قانونية أنه وفقاً للقانون رقم 83 تاريخ 10/10/2018 “حماية كاشفي الفساد” وتعديله الصادر سنة 2020 بموجب القانون رقم 182 تاريخ 12/6/2020، يستفيد من الحماية والحوافز المنصوص عليها في هذا القانون الشخص الذي يكشف معلومات عن عمل أو امتناع عن عمل حصل أو يحصل أو قد يحصل ويعتقد بأنها تساعد في إثبات الفساد أو تتعلق به أو تدل عليه، على أن يقدم كشفه أمام الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد أو النيابة العامة المختصة وفقاً للأصول التي حدّدها هذا القانون وتعديله.
إذن، لا بد من أن يحصل الكشف عن المعلومات التي تتعلق بالفساد والذي يستتبع إفادة الكاشف من الحماية بشكل حصري الى المراجع التي حدّدها القانون 83/2018 وتعديله، لا أن يتم في مكان آخر أو عبر وسائل أخرى بحيث لا يفيد الكاشف من الحماية القانونية. والحماية القانونية تعني بصورة أولى عدم اعتبار كشف الموظف للفساد خرقاً لموجب السرّية المهنية، وتالياً حمايته من أي صرف تعسّفي أو ملاحقة قانونية على فعله هذا. أما أصول تقديم الكشف فحدّدتها المادتان 4 و5 من القانون المذكور.
أما عن إمكانية تقديم الكشف الى الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، فقد أنشئت هذه الهيئة بالمرسوم رقم 8742 الصادر عن مجلس الوزراء بتاريخ 28/1/2022 وقد رصد لها اعتماد في موازنة 2022. وولايتها تدوم لـ6 سنوات غير قابلة للتجديد. غير أن الهيئة اليوم لا تزال تنتظر منذ أشهر عدة موافقة مجلس شورى الدولة على نظامها الداخلي لكي تتمكن من العمل بصورة فاعلة، فالقانون 175 تاريخ 8/5/2020 “مكافحة الفساد في القطاع العام وإنشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد” ينص على ضرورة موافقة مجلس شورى الدولة على الأنظمة الداخلية للهيئة بعد أن تضعها وتقرّها وتحيلها إليه. وهذا يعني أن عمل الهيئة حالياً معلق، مع الإشارة الى أن غالبية قوانين مكافحة الفساد التي أُقرت في الأعوام الماضية يدور تطبيقها في فلك الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد وهي القوانين: 83/2018، 175/2020، 189/2020، 214/2021، 306/2022.
ما دور هيئة مكافحة الفساد؟
رئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد القاضي كلود كرم لم ينف في اتصال مع “النهار” أن ثمة عوائق تعترض عمل الهيئة خصوصاً حيال موافقة مجلس شورى الدولة على نظامها الداخلي بما يحد كثيراً من مهماتها خصوصاً حيال توظيف العدد الكافي من الموظفين، ولكن “ما هو مسموح لنا وفق القانون نقوم به، إذ على الرغم من محدودية إمكانياتنا نحاول قدر الإمكان التحقيق في الشكاوى والإخبارات التي تردنا، ونبتّ في كل الشكاوى التي تتعلق بحق الوصول الى المعلومات، والقضايا التي تتعلق بتصاريح الذمّة المالية، إضافة الى ما نقوم به من مبادرات لنشر ثقافة النزاهة”. أما بالنسبة لتطبيق قانون حماية كاشفي الفساد، فيؤكد كرم عدم قدرة الهيئة على السير فيه للأخير، على اعتبار أنه لا تتوافر لدينا الأجهزة المناسبة لحماية الأشخاص الذين يدلون بمعلومات عن قضايا فساد. وفي هذا الإطار يُفترض أن تؤمن وزارة الداخلية هذه الأجهزة، ولكن حتى الآن لا جواب من الوزارة في هذا الموضوع”.
وهذا يعني أنه في حالة تسريب المستندات في قضيّة “تاتش” لا يمكن للهيئة الوطنية لمكافحة الفساد حماية مسرّب المعلومات، لعدم وجود أيّ جهاز أمني لتأمين الحماية للشخص المعنيّ. وهو ما يؤكده كرم “لا يمكننا حماية أي شخص يكشف معلومات عن الفساد، لأنه ليس لدينا أي أجهزة أمنية، ولكن كان في الإمكان المباشرة بالتحقيقات ضمن حدود معيّنة”.
وبعد قرار شركة “تاتش” وقف الموظفة عون عن عملها، سارعت نقابة موظفي الخلوي الى التأكيد للموظفين “وقوفها دائماً إلى جانب حقوقهم وحمايتهم في كل الظروف، تحت سقف القانون، انطلاقاً من مبدأ أن المتهم بريء حتى إثبات إدانته”. وأعلنت أنها سوف يكون لها الحق في اتخاذ الإجراءات المناسبة.
ونفّذ موظفو “تاتش” أول من أمس تحرّكاً احتجاجياً أمام مبنى الشركة في الباشورة، تلبية لدعوة من نقابة موظفي الخلوي “اعتراضاً على تصرفات رئيس مجلس إدارة “تاتش” وقراراته التعسفية بحق الموظفين”.
لا شك في أن شركات الاتصالات اليوم تدير مرفقاً عاماً ولوزارة الاتصالات نوع من الوصاية عليها. ولا بد من الشروع في تطبيق قوانين مكافحة الفساد المقرة في السنوات الاخيرة كي لا تبقى حبراً على ورق وكي يتبيّن من خلال هذا التطبيق مداها وفعاليتها وثغراتها وما تشمل وما لا تشمل فيُبنى على الشيء مقتضاه، وللهيئة الوطنية لمكافحة الفساد دور في بلورة تطبيق هذه القوانين وتحديد نطاقها.
سلوى بعلبكي- النهار