إسرائيل تعرض المال لمن يهاجر: “مَن سيحكم غزة في حال رحل الجيش الإسرائيلي عنه؟”

شكّل العدوان الإسرائيلي الأعنف على غزة متغيراً من ناحية انكشاف مخططات الاحتلال لمحاربة الوجود الفلسطيني في الأرض المحتلة، فلم تعد على نار هادئة كما سبق، وهو ما يُستنتج من تقريرين مطولين على شاشة تلفزيون “مكان” العبري على مدار يومين، مدة كل منهما نحو 12 دقيقة، بعنوان تساؤلي بنكهة البازار: “مَن سيحكم غزة في حال رحل الجيش الإسرائيلي عنه؟”

ثأر قديم
في سياق الإجابة على السؤال الكبير، تحدث جنرالات وساسة إسرائيليون عما أسموها السيناريوهات “المتفائلة” و”المتشائمة” بشأن واقع غزة بعد عشرة سنوات.

في الواقع، لا يُعرف لماذا حدد التقرير رقم 10 معياراً زمنياً لتقييم شكل “غزة المستقبلية”؟ لكن، ما يُمكن إدراكه مما تكلم به المتحدثون في التقرير أنّ المشكلة الإسرائيلية أصلاً مع غزة، تتعدى حركة “حماس”، وهي “ثأر” إسرائيل مع القطاع، وهو ما يستدعي استذكار جملة نطق بها رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحق رابين إبان انتفاضة الثمانينيات، حينما تمنى أن يستيقظ من نومه ذات يوم ويرى “غزة قد ابتلعها البحر”، علّه “يستريح منها”!

شيطنة غزة
وبتقريب المجهر من تقرير “مكان”، فإنه سوّق دعاية مفادها أن “غزة عبء على العرب والعالم وليس فقط على إسرائيل”، وبدأ التقرير باستعراض تاريخ انتقال غزة إلى الحكم المصري ثم الاحتلال الإسرائيلي وبعدها سيطرة السلطة الفلسطينية، وصولاً إلى حركة “حماس”، وانتهاء بالحرب المدمرة على غزة الآن. وعرض التقرير لقطات للقطاع تعود إلى ستينيات وسبعينات وثمانينات القرن الماضي، وكيف أن الاحتلال واجه تعقيدات في حكم غزة.

وبدأ التقرير بمقدمة لـ”شيطنة غزة”، بقوله إنها “حملٌ تاريخيٌ منذ قرون، بلا هوية ولا انتماء ولا رحمة، ولا أحد يريدها”. ثم يدعو معد التقرير إلى “حل خلّاق” لغزة “المُركّبة”، معتبراً أن تجربة حكم السلطة الفلسطينية لها “فاشلة”، وأن السياسة الإسرائيلية لاستيعاب “حماس” كانت “كارثية”.

المال.. مقابل الترحيل!
واستطلع التقرير آراء الساسة والجنرالات بشأن الحلول لغزة، فقال الليكودي داني دانون من لجنة الخارجية والأمن في الكنيست إن “غزة مكان غير مريح للسكن قبل الحرب، فما بالك بعد تدميرها”. وهنا، يكشف دانون عن مقترحه بإقامة نظام لتشجيع من يريد مغادرة غزة، بحيث “تُمنح كل عائلة فلسطينية مبلغ يتراوح بين 15 و20 ألف دولار في حال قبلت أن تترك غزة باتجاه مكان آخر في العالم. ووصل الأمر بدانون إلى نشر عرضه في صحيفة “وول ستريت جورنال”، مما دفع معد التقرير إلى التساؤل عن سياق العرض وماهيته. وزعم دانون أنه تحدث عن فكرته مع “أناس من دول الخليج العربي، وقد وصفوا فكرته بالمثيرة للاهتمام”.

ولعلّ انتماء دانون إلى حزب “الليكود” بزعامة نتنياهو إلى جانب عضويته بلجنة الكنيست للخارجية والأمن، يستدعيان توقفاً عند الطرح الخطير، وما إذا كان مدفوعاً من جهات رسمية لجسّ نبض العالم وتهيئته لتحقيق أمنية إسرائيلية!

خطة قديمة- جديدة
اللافت أن الوزير الإسرائيلي الأسبق وأحد مؤسسي أوسلو يوسي بيلين، كشف أن فكرة دانون قديمة تندرج ضمن”خطة الترحيل غير الإكراهي” التي وُضعت منذ عام 1976، ونصت على منح كل عائلة فلسطينية في الضفة الغربية مبلغا قدره 15 ألف دولار مقابل الانتقال إلى أميركا الجنوبية، لكنّها فشلت؛ لأنه لا يوجد فلسطيني يقبل بذلك. واستذكر بيلين المخطط التاريخي في سياق وصفه لمقترح دانون بـ”الغبي”؛ لأن مقاربة بيلين تعتقد أن هكذا أفكار خطيرة على “الدولة اليهودية”.

أما الجنرال احتياط غيورا إيلاند فقد بدا مدركا نتيجة الحرب عسكريا أكثر من تنبؤه بسيناريوهات الحلول السياسية والديمغرافية، إذ اعتبر أن انتشار فوضى كبيرة في غزة بسبب الحرب ليس بالضرورة سيناريو “سيئاً لإسرائيل”. وردّ إيلاند الذي شغل رئيساً سابقاً للأمن القومي على سؤال بشأن احتمالية مطالبة المجتمع الدولي لإسرائيل بتحمل مسؤولية إعادة بناء غزة لكونها مَن دمرتها، قائلاً: “لسنا مَن فعلنا ذلك، بل دمرنا من هاجمنا، ولسنا مسؤولين عما بعد ذلك”.

وايلاند يعبر عن عقلية إسرائيل التي تتهرب من دفع ثمن احتلالها، وتريد دوماً العالم الغربي والعربي أن يدفع تكاليف أفعالها التدميرية. وهذا ما يُستشف مما قاله غيورا ايلاند، إذ اعتبر أنه “لا شيء أسوأ من العودة إلى حكم غزة؛ لأنه يعني إلزام إسرائيل بالمسؤولية عن السكان”.

الحال أن ما قصده إيلاند هو تحقيق واقع ترنو إليه المؤسسة الرسمية في اليوم التالي لانتهاء الحرب على غزة، حيث يُبنى على صيغة يضمن لإسرائيل السيطرة الأمنية على غزة، ولكن دون أن تتحمل مسؤولية تجاه السكان. وطرح إيلاند سؤالاً استنكارياً: “هل بوسع إسرائيل أن تدفع مليارات الدولارات للمساعدة في بناء غزة من جيبنا؟!”.

صورة لآخر دبابة إسرائيلية في لبنان
الحال أن تقرير “مكان” العبري قد استعرض صورة لآخر دبابة إسرائيلية أثناء خروجها من مرجعيون اللبنانية عام 2000، كي يقول إن درس اجتياح لبنان ماثل أمام العيون، من ناحية أنه لا فراغ في الشرق الأوسط وأن هناك “من يحل محل من يغادر”. وقال أحد مؤسسي أوسلو يوسي بيلين إن الجيش الإسرائيلي يمكن أن يبقى في غزة أكثر بكثير مما يخطط للبقاء، وتابع: “الله أعلم كم سنة.. بقينا في لبنان 18 سنة”.

من جانبه، أدلى جنرال الاحتياط عاموس غلعاد بدلوه أيضاً بشأن مستقبل غزة ومن يحكمها، فيرى أن السلطة الفلسطينية لا تساعد إسرائيل، وأنّ خيار القوات الدولية غير عملي، متسائلاً: “هل تأتي لمواجهة الإرهاب؟، وهل تأتي لتتجول بين أطلال غزة المدمرة؟، هل تبني غزة من جديد؟”. بيد أن غلعاد ظهر متحمساً أكثر للخيار العربي لإعادة بناء غزة وحكمها، بقوله إن “دول الخليج العربي بإمكانها أن تقوم بذلك، لكنها تشترط العملية السلمية”.

في المحصلة، لم يجد تقرير “مكان” إجابة حاسمة لسؤاله عن هوية الحاكم القادم لغزة، أو مصيرها المجهول بعد الحرب التدميرية، غير أنه كان أكثر حسماً بأن “غزة المُدمّرة..مردوعة لسنين طويلة”، والخطير هنا أن التقرير تنبأ بأن الجيش الإسرائيلي سيرفض التنازل عن سيطرته الأمنية على غزة في أي حل قادم. وانتهى التقرير ببث أغنية “عائدون إلى غوش قطيف”، في إشارة إلى دعوات إسرائيلية لإعادة إقامة المستوطنات في قطاع غزة.

ادهم مناصرة- المدن

مقالات ذات صلة