أبو عبيدة: سنّة لبنان وجدوا زعيمهم… و”أمينهم العام”؟

في خضمّ حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل على أبناء غزة والشعب الفلسطيني، تحوّل الناطق العسكري لحركة حماس أبو عبيدة، إلى ظاهرة شعبية في لبنان والعالمين العربي والإسلامي، وحديث الشارع ومنصّات التواصل الاجتماعي. بيد أنّ أبا عبيدة ليس مجرّد ناطق عسكري، بقدر ما هو نموذج أعدّ بعناية لتقديمه للجماهير، حيث تجتمع فيه عدّة رمزيات بشكل مكثّف: فلسطينية وإسلامية وعربية ووطنية وحمساوية… وسنيّة بالطبع”.

رمز الإعلام المقاوم

على الرغم من أنّ هذا النموذج ليس حديث العهد، حيث أطلّ أبو عبيدة للمرّة الأولى على الجماهير عام 2006 للإعلان عن أسر الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط. إلا أنّ مراكمة الخبرات، واختلاف هذه الحرب عن سابقاتها، وطبيعة المواجهات، مهّدت الطريق لأبي عبيدة كي يتحوّل إلى ظاهرة.

هذه الظاهرة صار العرب والمسلمون يترقّبون ظهورها، ويتناقلون ما يقوله بكثافة غير مسبوقة عبر مجموعات الواتساب ومنصات التواصل الأخرى، نظراً لبلاغته الخطابية، وما أثبته ووثّقه من صدقية المعلومات التي يخبر عنها. حتى إنّ بعض الأوساط الإعلامية الإسرائيلية أشارت إلى أنّ الجماهير الإسرائيلية باتت تصدّق كلامه أكثر من تصريحات ساستها وقادتها العسكريين. وهو ما يذكّر بالأمين العام للحزب، الذي جعلت منه حرب تموز 2006 ذا مصداقية في الشارع الإسرائيلي.

يقول الخبير في الجماعات الإسلامية حسن أبو هنية إنّ “أبا عبيدة أصبح رمزاً للخطاب الإعلامي المقاوم. وهو يسعى دائماً إلى تقديم خطب مدروسة، وأسلوب مبتكر يجذب المتابعين العرب والمسلمين، الذين اعتادوا سماع الخطب السياسية التقليدية، وبيانات الشجب الكلاسيكية، التي لا تشفي غليلهم”. يضيف أبو هنية في حديث للقناة الرسمية التركية أنّ “أبا عبيدة بارع في استخدام لغة الجسد، ويستخدم إصبع السبّابة لتوجيه التهديدات للمسؤولين الإسرائيليين”.

ثمّة صراع بين أبي عبيدة وحسن نصر الله. يبدو أنّ الأخير شعر للمرّة الأولى أنّ هناك من ينافسه في ملعبه، وأبدع في استخدام أدواته نفسها، حتى تفوّق عليه في استقطاب العواطف الجماهيرية المشحونة. وأبعد من ذلك، فقد نجح في كسب العاطفة السنّية اللبنانية المكبوتة، التي كانت تبحث عن أيّ انتصار سنّي ولو كان في آخر المعمورة. فكيف الحال بما يعدّ في الميزان الشعبي انتصاراً هائلاً في القضية الأمّ؟

السنّة وجدوا “أمينهم العام”؟

يلعب الخطاب الإعلامي دوراً كبيراً في الحرب النفسية، التي تسبق حروب الميدان وتمضي معها جنباً إلى جنب وتستمرّ بعد توقّفها. ومن التعريفات العالمية للحرب النفسية أنّها “حملة شاملة تُستعمل فيها كلّ الأدوات وكلّ الأجهزة للتأثير في عقول جماعة محدّدة، بهدف تهديم قناعات معيّنة، وإحلال أخرى مكانها تتماشى مع مصالح الطرف الذي يشنّ الحملة”. وتحتلّ الصورة أو الهالة المعنوية أهميّة كبرى ضمن هذه البروباغندا التي يُراد من خلالها إعادة تشكيل الوعي الجماهيري واستثماره سياسياً.

لذا أنفق الحزب جهداً هائلاً لتحويل أمينه العام إلى أسطورة، ولا سيما إبّان حرب تموز 2006 حينما زامن إحدى خطبه مع استهدافه للبارجة الحربية الإسرائيلية قبالة شواطئ بيروت، فبقيت الذاكرة الشعبية محتفظة بجملته الشهيرة “انظروا إليها في عرض البحر، إنّها تحترق”، كدلالة على كونه نموذجاً ثورياً يقرن القول بالفعل، ويقطع مع الخطب السياسية الكلاسيكية ومصطلحاتها الدبلوماسية. لكنّ هذه الأسطورة فقدت الكثير من وهجها لدى أهل السنّة في لبنان والعالم العربي، غداة دخول الحزب سوريا لمساندة نظام الأسد في جرائمه ضدّ الثورة السورية.

وها قد برزت ظاهرة أبي عبيدة في حين كان الحزب يسعى جاهداً إلى إجراء مصالحة معنوية مع سنّة لبنان والعالم العربي، من بوابة القضية الفلسطينية بالذات، عبر شعار “وحدة الساحات” الذي أطلقه نصر الله إبّان عملية “سيف القدس”.

استشعار الحزب بأنّ هذه الظاهرة بدأت تسحب البساط الشعبي من تحته، دفعه للقيام بحملة إعلامية ترويجية هائلة لخطاب نصر الله الأوّل، استخدم فيها للمرّة الأولى الأسلوب الدعائي التشويقي “Teasers” على طريقة نجوم الفنّ والسينما، وأسلوب الرسائل الخطّية المفعمة بالعواطف والرومانسية الثورية، في زمن باتت فيه الرسائل بخطّ اليد نسياً منسيّاً.

وبالفعل، نجحت الحملة في جعل اللبنانيين يعيشون في حالة ترقّب وكان لبنان كلّه ينتظر الخطاب كما لو أنّه سيشهد “إعلان الحرب الكبرى”. لكنّ هذا النجاح عاد وارتدّ على الحزب ومحور الممانعة كلّه بالسالب، حينما جاء الخطاب الطويل أدنى بكثير من مستوى توقّعات الجماهير، وهو ما اضطرّ الحزب إلى النزول بكتالوغات تبريرية وتفسيرية، تاهت جميعها في ظلال أبي عبيدة الذي حرص على الظهور الإعلامي بعد خطابَي نصر الله مباشرة.

مع تطوّر سير المعارك، والضربات التي ينزلها المقاومون بالجيش الإسرائيلي، ازدادت شعبية أبي عبيدة أكثر فأكثر. وانتشرت صوره في أكثر المناطق تعبيراً عن الوجدان السنّي، في عمق طرابلس الشعبية، وفي الطريق الجديدة، وفي العمق الصيداوي والبقاعي. والمراد من هذه الصور خلق توازن مع صور نصر الله وقاسم سليماني، وأبعد منها إقامة توازن معنوي سنّي – شيعي، له بُعدٌ مُقاوم لإسرائيل بالطبع، لكنّه يتّخذ في لبنان بُعداً آخر، سنيّاً، يقول إنّ السنّة، الباحثين عن زعيم من طينة نصر الله، وجدوا المقاوم “الأصلي”، الفلسطيني، والأهمّ: الزعيم العسكري، قبالة صورة الزعيم الشيعي المسلّح حتّى الأسنان.

رمزيّات إسلاميّة وعربيّة

يتناسب نموذج أبي عبيدة مع الإرث الثقافي والديني للسنّة ببعدهما العربي والإسلامي:

– فهو سنّي ليس بحاجة إلى توريات وطنية أو تبريرات إسلامية مثلما كان الحال دائماً وأبداً مع نصر الله.

– لقبه عائد إلى الصحابي أبي عبيدة بن الجراح، أحد كبار رجالات الإسلام، ومن العشرة الذين بشّرهم الرسول بالجنّة.

– وهو أحد الاثنين اللذين رشّحهما أبو بكر الصدّيق يوم سقيفة بني ساعدة لولاية أمر المسلمين بعد وفاة النبي.

– وهو قائد الحملة على القدس التي فتحت سلماً نزولاً عند رغبة أهلها المسيحيين الأروام، الذين اشترطوا حضور الخليفة عمر بن الخطاب بنفسه لتسلّم مفاتيح المدينة، ولكتابة وثيقة الصلح المعروفة تاريخياً بـ”العهدة العمرية”، والتي تعتبر من أهمّ الوثائق في تاريخ القدس، ومنحت الأمان لأهل إيلياء (القدس)، ونصّت على أن لا يسكنها اليهود.

– وإلى اليوم يتنسّم ضريح أبي عبيدة بن الجراح عبق تراب فلسطين وزيتونها من قرية “عمتا” بغور الأردن.

– لقّبه الرسول بـ”أمين الأمّة” كما ورد في الحديث الشريف الذي رواه أنس بن مالك وأخرجه البخاري في صحيحه: “لكلّ أمّة أمين، وأمين أمّتي أبو عبيدة بن الجراح”. لذلك ذُيّلت الكثير من صور الناطق العسكري للقسام بـ”أمين الأمّة”. لكنّ كلّ هذه السيرة من الملفات الإشكالية في الفقه الشيعي الذي يتّهم أبا عبيدة بالتآمر على عليّ بن أبي طالب لحرمانه من الخلافة.

– ويختم أبو عبيدة كلامه دائماً بجملة “وإنّه لجهاد، نصر أو استشهاد”، وهي الجملة التي قالها الشيخ عزّ الدين القسام حينما حاصرته القوات البريطانية، فأبى الاستسلام واختار الشهادة. ومن المعروف أنّ الفصائل الفلسطينية تختار لنفسها ولأذرعها العسكرية أسماء ترتبط بفلسطين والقدس والمسجد الأقصى، إلا أنّ حماس تمايزت عنهم باختيارها اسم الشيخ السوري عزّ الدين القسام لذراعها العسكري بهدف منحه طابعاً قومياً عربياً وإسلامياً.

– لا يخفى على أحد رمزية الكوفية ومدى ارتباطها بالقضية الفلسطينية. لكنّ أبا عبيدة اختار الكوفية الحمراء على حساب البيضاء الأكثر شهرة، في رمزية تشير إلى السير على درب عماد حسن عقل الذي وصفه رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين بـ”الأسطورة”. وعقل من مؤسّسي كتائب القسّام، وكان يرتدي الكوفية الحمراء أثناء مواجهاته الجريئة والنوعية مع الجيش الإسرائيلي “من مسافة صفر”، وهي الجملة التي يكثر من استخدامها أبو عبيدة في خطابه الإعلامي.

– وأخيراً: تغيب أيّ معلومات عن شخصية أبي عبيدة الحقيقية، وحتّى لو استشهد أو كُشفت شخصيته الحقيقية، فبإمكان النموذج أن يستمرّ مع أشخاص آخرين. ذلك أن لا أهمية للأشخاص أو لهويّاتهم، بل المهمّ هو القضية، أيّاً كان من تلبسه ويلبسها، من خلف القناع.

سامر زريق- اساس

مقالات ذات صلة