التحقق من طوفان الفيديوهات على الإنترنت … في حرب غزة
بينما يبقى وصول الصحافيين إلى صور الحرب في غزة محدودا، إلا أن سيلا من مقاطع الفيديو من جميع أنواع المصادر يوثق ما يحدث.
وتعمل المؤسسات الإخبارية على غربلة المواد الموجودة على الإنترنت لتحديد ما هو حقيقي، والكشف عن الأدلة غير المتوقعة في بعض الأحيان والتي يمكن استخدامها لربط القصص. وتعدّ العملية ذات أهمية متزايدة، وغالبا ما تسبب إرهاقا عاطفيا. وقالت كاتي بولغيلاز المنتجة الاستقصائية في شبكة “سي.إن.إن” بلندن إن “هذا الجزء من العمل الصحفي أصبح أساسيا في المهنة بشكلها الحديث”.
وأعلنت شبكة “سي.بي.إس” الأسبوع الماضي عن إطلاق برنامج “سي.بي.إس نيوز كونفيرمد”، وتشكيل فريق يدقق البيانات والتكنولوجيا لتتبع الأدلة عبر الإنترنت. وقررت “بي.بي.سي” خلال السنة الحالية تشكيل وحدة التحقق “فيريفاي” لاعتماد أساليب إعداد التقارير مفتوحة المصدر في وسائل الإعلام العالمية.
وبرز تطور في التحليلات المتعمقة لأدلة الفيديو المنشورة على صحف نيويورك تايمز، واشنطن بوست، وول ستريت جورنال، سي.إن.إن وأسوشيتد برس. ولم يكن هناك إجماع على النتائج الحذرة مع غياب القدرة على فحص الأدلة على أرض الواقع.
ولم يكن المشاهدون في الماضي يرون آثار حدث إخباري إذا لم تكن كاميرات التلفزيون موجودة في مكان وقوعه. ويحمل اليوم الملايين من الأشخاص هواتف مزودة بكاميرات فيديو. ولم تعد المشاهد تقتصر على ما بعد الحادثة، بل تصورها خلال حدوثها. وقالت ويندي ماكماهون الرئيسة والمديرة التنفيذية لشبكة “سي.بي.إس نيوز” إن الجماهير تتوقع المشاركة في تجربة مشاهدة مشتركة تشهد خلالها ما يجري مع المذيعين والمراسلين.
ويعني ذلك وجوب فرز عدد هائل من مقاطع الفيديو المنشورة على مصادر مثل إكس (تويتر سابقا)، ويوتيوب، وإنستغرام، وتليغرام وفيسبوك. وتنتشر عبر المنصات العديد من المشاهد المروعة، وتشمل صور الجثث المشوهة، وفيديوهات انتشال الأطفال الملطخين بالدماء من تحت الأنقاض، ومشاهد لأشخاص في حالة صدمة بسبب فقدان أحبائهم. ويسبّب ذلك للذين يدرسون المقاطع ما يعرف بالصدمة غير المباشرة.
ويدرك المقاتلون قوة مثل هذه الصور، وهو ما يفسر سبب ارتداء بعض أعضاء حماس للكاميرات لتوثيق ما حدث خلال 7 أكتوبر وسبب تجميع إسرائيل للصور من ذلك اليوم وعرضها على الصحافيين. وقالت رونا تارانت كبيرة المحررين في موقع ستوريفول الاستقصائي، إن درجة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي متطورة جدا، وتوفر سيلا من المعلومات والمحتوى.
وتحاول المؤسسات الإخبارية أداء وظيفتها المتمثلة في نقل الواقع بينما تنتابها مخاوف من أن تكون الصور العنيفة مؤلمة للغاية بحيث لا يستطيع المشاهدون رؤيتها. ويمكن أن يؤدي الكثير منها إلى إضعاف حساسية المشاهدين. لكن التكرار قد يكون نفسه قصة تؤكد وحشية الحرب المستمرة.
وزعمت صور انتشرت على الإنترنت خلال الأسابيع الأخيرة أن عارضة الأزياء من أصل فلسطيني بيلا حديد أدانت هجوم حماس في إسرائيل، وزيّفت مصادر صفّا من جثث لفلسطينيين مغطاة بأكفان بيضاء قبل أن يتحرك أحدهم، وقيل إن “ممثلا” فلسطينيا أصيب بجروح خطيرة وصُوّر على سرير المستشفى قبل أن يخرج سليما في اليوم التالي. لم يحدث شيء من ذلك. وكانت جميع البيانات مفبركة.
وأمكن التلاعب بفيديو بيلا حديد وهي تقبل جائزة مرتبطة بنشاطها لمكافحة مرض لايم، وتغيّر خطابها ليرتبط بالحرب الحالية. وكان فيديو “الجثة المتحركة” من مسيرة احتجاجية خلال 2013 في مصر. وصوّرت قصة “الممثل” شخصين مختلفين، وكان الموجود على سرير المستشفى من حادثة سبقت الحرب.
وبرزت هنا مهارات الاستقصاء لدى الصحافيين الذين يدرسون الفيديوهات. وفهموا أن الكثير مما هو متاح على الإنترنت الآن مُصوّر من صراعات سابقة، بما في ذلك في غزة نفسها. وتساعد محركات البحث على تحديد الحقيقة، حتى أن بعض الخبراء اكتشفوا أن صورا كانت من ألعاب الفيديو. وقالت ماكماهون “أكدت هذه الحرب افتراضنا بأن المؤسسات الإخبارية تشهد تدفقا للمعلومات المضللة على نطاق غير مسبوق”.
ويثير تطور الذكاء الاصطناعي قلقا كبيرا. لكن الخبراء يقولون إن استخدامه في الحرب كان محدودا مقارنة بسبل التضليل الأخرى كنشر مقاطع الفيديو القديمة التي يُزعم أنها جديدة. وقال جيمس لو رئيس تحرير ستوريفول، إن الكثيرين يتصورون أن تطور الذكاء الاصطناعي يتجاوز ما هو عليه اليوم. وبينما يشكل فضح الأكاذيب جزءا كبيرا من عمل الصحافيين، أصبحت مقاطع الفيديو وغيرها من المواد المتاحة للجمهور (التقارير مفتوحة المصدر) مُعتمدة خلال الأسابيع الأخيرة.
وتأسست ستوريفول في 2009 لمساعدة المؤسسات الإخبارية على الإبحار عبر البيانات المتوفرة على الإنترنت. وتعتبر لذلك مختصة في الشكل الجديد من العمل الاستقصائي. ويعتمد محققوها على العديد من الأدوات، بما في ذلك برامج رسم الخرائط وتتبع الرحلات الجوية والكاميرات الأمنية ومقاطع فيديو وكالات الأنباء.
وقالت بولغيلاز إن الناس يصوّرون في كثير من الأحيان لقطات للحادث الذي يشهدونه. ويصبح كل شيء آخر يظهر في المقطع (مثل شظايا القنابل) من الأدلة التي يمكن أن تدعم قصة أخرى. ويمكن تجميع الخرائط ومقاطع الفيديو والصوت من مصادر مختلفة لتشكيل قصص تبرز كيفية تطور الأحداث.
ونقلت صحيفة نيويورك تايمز منشورات عبر الفيديو وتليغرام لإظهار تأثير الادعاءات الكاذبة بأن الإسرائيليين سيستقرون في منطقة إسلامية في روسيا، حيث هاجم حشد الطائرة ورفضوا نزول ركابها على أراضيهم.
وساعدت صور الأقمار الصناعية ومقاطع الفيديو والصور صحيفة واشنطن بوست على تتبع القوات الإسرائيلية أثناء توغلها الأوّلي في غزة. ومكّنت الأدلة المرئية والتقارير شبكة “بي.بي.سي” من الإبلاغ عن قصف أربعة مواقع في جنوب غزة ومعرفة نوع التحذير الذي قدمته إسرائيل للمدنيين بخصوصها.
ويشمل جزء من برنامج “سي.بي.إس نيوز كونفيرمد” توظيف صحافيين مختصين في هذا النوع من التقارير. كما تعمل وكالات مثل أسوشيتد برس و”بي.بي.سي” على تدريب الصحافيين في جميع أنحاء العالم على بعض التقنيات.
لكن ثمن هذا العمل قد يكون باهظا. ولطالما شعرت وسائل الإعلام بالقلق من الأذى الجسدي الذي يمكن أن يصيب الصحافيين المتمركزين في مناطق الحرب، وأصبحت الآن تدرك أن قضاء ساعات في مشاهدة مقاطع الفيديو الدموية قد يسبّب إرهاقا عاطفيا.
العرب