المضادات الحيوية “صديق ليس وفيا دائما” للإنسان
بنظرة علمية مستقبلية لم يتردد الحائز جائزة نوبل لعمله الرائد في مجال علم وراثة الميكروبات، جوشوا ليدربيرغ في طرحه احتمالية أن يتكشف مستقبل البشرية والميكروبات على هيئة حلقات من مسلسل تشويق وإثارة يمكن أن يكون عنوانه “ذكاؤنا في مواجهة جيناتهم”.
الصراع على البقاء والازدهار بين البشر والميكروبات (التي تشمل الفيروسات والطفيليات والفطريات والبكتيريا)، وغيرها من الكائنات الأخرى، ليس بالأمر الجديد، لكن ما يجعل هذا التنافس المعروف بالتفاعل البيولوجي أكثر تعقيداً هو أنه حرب مع أعداء لا نراهم بالعين المجردة.
لطالما مثلت العضويات الدقيقة، تحديات مستمرة للبشرية إذ تمتلك هذه الكائنات القدرة على الاستحواذ على الجسم البشري والتكاثر فيه، مما قد يؤدي إلى الإصابة بالأمراض والأوبئة الخطرة، ومع تطور التكنولوجيا وزيادة التنقل والتفاعل الاجتماعي في العصر الحديث، أصبحت هذه الأمراض أكثر تعقيداً وانتشاراً من أي وقت مضى.
من هنا تبرز أهمية التوصل إلى سلاح فعال وضروري لبقاء البشر في هذه الحرب التي لا تتوقف أبداً وإنما يختلف فيها العدو بين معركة وأخرى ولا ينفع فيها الدفاع الصاروخي ولا المدفعي ولا حتى النووي، بل مجموعة من العقاقير تسمى المضادات الحيوية.
ولطالما ارتبطت قصة المضادات الحيوية ونصائح حول استخدامها بفضائح شهيرة، وذلك تزامناً مع الأسبوع العالمي للتوعية بالمضادات الحيوية، الذي يحتفى به سنوياً خلال الفترة ما بين 18 و24 نوفمبر (تشرين الثاني) من كل عام، منذ أقرته منظمة الصحة العالمية في عام 2015.
اكتشاف المضادات الحيوية
يعد اكتشاف المضادات الحيوية من أهم الإنجازات الطبية والعملية عبر التاريخ، وكان نتيجة لأبحاث واكتشافات أحدثت تحولاً جذرياً في مجال الطب والصحة العامة.
ففي العصور القديمة والوسطى، كان البشر يستخدمون مواد طبيعية كالعسل والزيوت والأعشاب لمكافحة العدوى، لكن هذه الأساليب لم تكن معروفة ومتوفرة على نطاق واسع في جميع الحضارات.
ثم في أوائل القرن العشرين، بدأ علماء الجراثيم (البكتريولوجي) مثل الفرنسي لويس باستور والألماني روبرت كوخ في دراسة البكتيريا وتأثيرها في الصحة، وتزامن ذلك مع بداية استخدام أسس النظافة في المستشفيات والمختبرات الطبية.
تذكر البروفيسورة المساعدة في قسم الصحة العالمية والسكان بجامعة هارفرد، ماري إليزابيث ويلسون، في كتابها “المضادات الحيوية: ما يحتاج الجميع إلى معرفته”، قصة اكتشاف المضادات الحيوية من طريق الصدفة عام 1929، على يد العالم البريطاني ألكسندر فليمنغ أثناء دراسته للبكتيريا، حين لاحظ وجود عفن أخضر ينمو في إحدى صحائف مزرعة الجراثيم، كما لفت نظره أن المستعمرات الجرثومية الملاصقة للعفن قد توقف نموها واندثرت، فأخذ يبحث عن تفسير لتلك الملاحظات حتى تأكد أخيراً من أن هذا العفن يفرز مادة تبيد الجراثيم، بعدها اتجهت محاولاته إلى فصل تلك المادة وفعلاً استطاع استخلاصها وأطلق عليها اسم “البنسلين” نسبة إلى نوع العفن الذي يفرزها المسمى البنسليوم.
إلا أن فليمنغ لم يكن كيماوياً فلم يستطع استخلاص البنسلين بشكل نقي ولم تستفد البشرية منه كعلاج إلا بعد 11 سنة، أي عام 1940 عندما تمكن الدكتور ألبرت فلوري وزميله إرنست شاين بعد تجارب عديدة من استخلاص البنسلين النقي وتجربته على الحيوانات لاختبار مفعوله.
أما أول تجربة للبنسلين على الإنسان فكانت عام 1941، عندما حقن شرطي كان مصاباً بالتهاب وفي حالة احتضار، بالمادة فتحسنت حالته. بعدها أخذت صناعة البنسلين تنتشر على نطاق واسع، مما أسهم في إنقاذ حياة مئات الآلاف من الجرحى خلال الحرب العالمية الثانية.
وبالفعل، بدأت المضادات الحيوية الأخرى بالظهور تباعاً مثل الستريبتومايسين والتتراسيكلين، التي أسهمت في تحسين العلاج الطبي ومكافحة الأمراض المعدية. وبفضل المضادات الحيوية، تطورت معالجة عديد من الأمراض الخطرة مثل التهاب الحلق وعدوى الجروح والسل وغيرها، وأثرت هذه الاكتشافات بشكل جذري على مجال الطب والجراحة، وأسهمت في زيادة أمل البشر في الشفاء من الأمراض.
مضادات حيوية أم بكتيرية أم فيروسية؟
تشير العالمة الرئيسة في الطب الحيوي والمتخصصة في علم الأحياء الدقيقة، نجد العبود، إلى أنه يشيع استخدام مصطلحي المضادات الحيوية ومضادات البكتيريا بشكل مترادف، لكن هناك اختلافاً في استعمالهما تبعاً للسياق.
وتوضح أن مصطلح “مضاد حيوي” يشير بشكل عام إلى مجموعة واسعة من المواد الكيماوية التي تستخدم لمكافحة البكتيريا بعد وصولها إلى الجسد والأمراض البكتيرية، أي بشكل أكثر تحديداً، يشير إلى الأدوية المضادة للبكتيريا التي تستخدم في العلاج الطبي، إذ تقضي المضادات الحيوية على البكتيريا الضارة في الجسم من دون التسبب في أضرار كبيرة للجسم البشري، وتعمل على استهداف العمليات الحيوية الخاصة بالبكتيريا من دون أن تؤثر في الخلايا البشرية، وتعد فعالة في علاج عديد من الأمراض البكتيرية.
أما مضادات البكتيريا فتشير إلى أي مادة أو تقنية أو وسيلة تستخدم لمكافحة البكتيريا بشكل مباشر أو لمنع نموها ووصولها إلى الجسم، وتشمل هذه المضادات مجموعة متنوعة من المواد مثل المطهرات والصابون والمنظفات والكحول والأدوية المصممة للقضاء على البكتيريا أو منع تكاثرها، وفق العبود.
لكن ماذا عن الفيروسات والالتهابات الفيروسية؟، تقول المتخصصة في علم الأحياء الدقيقة، إن المضادات الحيوية ليست فعالة في مواجهة الفيروسات، فهي مصممة لمكافحة البكتريا فقط، فالفيروسات والبكتيريا هما نوعان مختلفان من الكائنات الدقيقة ولديهما خصائص مختلفة.
وتوضح العبود أن المضادات الحيوية تستهدف البكتيريا من طريق منع نموها أو تدميرها بواسطة التداخل مع العمليات الحيوية الخاصة بالبكتيريا، بينما لا تمتلك الفيروسات هذه العمليات الحيوية المستهدفة بالطريقة عينها، ما يجعل المضادات الحيوية عديمة الفائدة في وجه الفيروسات.
ولعلاج الأمراض التي تسببها الفيروسات، يجب استخدام أدوية مضادة مخصصة لهذا الغرض، تعمل على تثبيط نمو الفيروسات ومكافحتها في الجسم، وتستخدم في علاج عديد من الأمراض الفيروسية مثل نزلات البرد والإنفلونزا وفيروس نقص المناعة البشرية والتهاب الكبد الوبائي وغيرها.
من أين تأتي المضادات الحيوية؟
تذكر البروفيسورة ويلسون في فصل “الأصل والوظيفة” في كتابها، أن المضادات الحيوية تأتي من مصادر متنوعة يمكن اللجوء إليها للحصول على هذه المركبات القادرة على مكافحة البكتيريا والميكروبات، وأهمها البكتيريا نفسها، التي تنتج بعض المضادات الحيوية مثل الاستربتومايسين والكلورامفينيكول.
وهناك أنواع مشتقة من الفطريات، ويعد البنسلين المثال الكلاسيكي وأشهر مضاد حيوي يستخلص من فطر، وهو البنسليوم في هذه الحالة، إذ تمتص بعض النباتات مضادات حيوية من التربة وتراكمها في أنسجتها، ما يجعل النباتات مفيدة في الطب التقليدي.
في بعض الأحيان يمكن تصنيع المضادات الحيوية بواسطة البكتيريا المعدلة وراثياً في المختبر، وتستخدم هذه البكتيريا لإنتاج مضادات حيوية صناعية، أو قد يتم اللجوء إلى ما يعرف بالتوليف الكيماوي لإنتاج عديد من المضادات الحيوية بشكل صناعي من طريق تفاعلات كيماوية، كما في حالة مضادي سلفوناميدات وكوينولونات الحيويين الاصطناعيين.
أما اليوم فإن غالبية المضادات الحيوية مصنعة مخبرياً، إذ يتيح لنا التصنيع المخبري إنتاج مضادات حيوية بكميات كبيرة وبتراكيب معينة، ويعد هذا عاملاً مهماً في تلبية حاجات الرعاية الصحية ومكافحة العدوى البكتيرية بفعالية، إضافة إلى ذلك يمكن أن يتم التحكم بشكل دقيق في معايير الجودة والنقاء عند تصنيع المضادات الحيوية بالطرق الصناعية.
ومع ذلك لا تزال هناك أمثلة على مضادات حيوية تستخرج من مصادر طبيعية، وفي بعض الحالات يمكن تحسين المضادات الحيوية الطبيعية أو تعديلها بشكل جزئي لزيادة فعاليتها أو تخفيض آثارها الجانبية.
سلاح ذو حدين
يلعب استخدام المضادات الحيوية بشكل صحيح ومسؤول دوراً مهماً في الحفاظ على فعاليتها وتقليل المقاومة الحيوية والآثار الجانبية لها، وتشير العبود إلى ضرورة اتباع تعليمات الطبيب في شأن كيفية استخدام المضادات الحيوية، إذ لا تزد أو تنقص الجرعة ولا تتوقف عن تناولها قبل انتهاء العلاج حتى إذا شعرت بتحسن في الحالة كي تضمن القضاء على البكتيريا بشكل كامل، إذ إن عدم الالتزام بالجرعة يمكن أن يسهم في تطوير مقاومة البكتيريا.
وتتمسك بأن المضادات الحيوية يجب ألا تستخدم إلا عند الضرورة، ويجب تجنب اللجوء إليها لعلاج الأمراض التي ليس لها أصل بكتيري، مثل الأمراض الفيروسية كنزلات البرد والإنفلونزا، وهذه ممارسة شائعة في الدول التي يمكن فيها الحصول على المضادات الحيوية من دون وصفة طبية.
ومن الأهمية بمكان عدم مشاركة المضادات الحيوية ونصح الآخرين بها أو أخذها من شخص آخر من دون استشارة الطبيب (وفق العبود) التي طالبت أيضاً بالامتناع عن استعمال المضادات الحيوية لأغراض غير علاجية مثل زيادة الوزن أو توظيفها في الزراعة أو التدجين أو مزارع الحيوانات، مشيرة إلى أهمية الاتصال بالطبيب فوراً في حال ملاحظة أي آثار جانبية أو تفاقم الحالة بعد بدء العلاج بالمضادات الحيوية.
وفي فصل “عواقب الاستخدام”، تشير البروفيسورة ويلسون إلى أن تناول المضادات الحيوية، قد يؤثر في البكتيريا النافعة في الجهاز الهضمي، لذا قد يكون من الضروري اتخاذ بعض الإجراءات للمساعدة في الحفاظ على التوازن البكتيري الطبيعي في الجهاز الهضمي. من بين هذه الإجراءات تناول البروبيوتيك وهي مكملات تحتوي عادة على بكتيريا حية مفيدة تساعد في تعزيز التوازن البكتيري في الجهاز الهضمي، يمكن الحصول عليها كمكملات مصنعة أو من خلال الطعام مثل اللبن الزبادي والمخللات وبعض أنواع الأجبان والخمور.
كما يمكن اللجوء إلى البريبايوتيك، وهي مركبات غذائية تعد مصدر طعام للبكتيريا النافعة في الجهاز الهضمي. وتوجد البريبايوتيك بشكل طبيعي في الأطعمة مثل البصل والثوم والحبوب الكاملة، وينصح بتجنب السكريات المكررة أثناء فترة العلاج بالمضادات الحيوية لأن البكتيريا الضارة في الجهاز الهضمي تفضل السكريات كغذاء لها، وهكذا يعد اتباع نظام غذائي صحي ومتوازن عاملاً مساعداً في دعم الصحة العامة للجهاز الهضمي.
أنتي بيوتيك غيت
بشكل متكرر تظهر المضادات الحيوية كعنصر متورط في إحدى الفضائح التجارية الضخمة، مثل التجارة غير الشرعية للمضادات الحيوية المزيفة والمنتجات غير المعتمدة، مما يؤدي إلى استخدام مضادات حيوية غير فعالة أو ملوثة، معرضة الصحة العامة للمخاطر.
في عام 2017، أخبرت هيئة تنظيم الأدوية ومنتجات الرعاية الصحية “اندبندنت عربية”، أن هذه المشكلة آخذة في التفاقم وباتت السيطرة مستحيلة في ظل وجود 4760 موقعاً إلكترونياً آنذاك يبيع الأدوية من دون ترخيص.
لكن الإشكال الأكبر يكمن في زيادة استخدام المضادات الحيوية في الزراعة على نطاق واسع لتعزيز نمو الحيوانات والحد من أمراضها.
في يونيو (حزيران) الماضي، كشفت صحيفة “ذا غارديان” عن شراء شركة “سوبر دروب”، إحدى أكبر شركات إنتاج الدجاج في بولندا، التي تورد منتجات الدجاج المجمدة إلى أكبر محلات السوبرماركت في المملكة المتحدة مثل “ليدل وآزدا وآيسلاند”، طيورها من مزارع تستخدم فيها مضادات فلوروكينولون الحيوية التي تصفنها منظمة الصحة العالمية بـ”الحرجة بالنسبة إلى صحة الإنسان”.
تستخدم هذه المضادات الحيوية عادة في علاج العدوى بالسالمونيلا الخطرة على الإنسان، وينبع الخوف من هذه الممارسة من أن استخدام المضادات الحيوية في الحيوانات قد يؤدي إلى تطوير مقاومة حيوية، مما يعني أن هذه الأدوية قد تصبح غير فعالة لعلاج العدوى البكتيرية عند البشر، وتشكل الميكروبات المقاومة للمضادات الحيوية، التي تعرف باسم “الجراثيم المتفوقة”، تهديداً متزايداً لصحتنا.
بالطبع كان دفاع شركة “سوبر دروب” بأنها تستخدم المضادات الحيوية فقط عندما يكون ذلك مبرراً من الناحية البيطرية وتحت إشراف الأطباء البيطريين، وأعلنت عن نيتها تقليل استخدام مضادات الفلوروكينولون والتخلي عنها تماماً بحلول عام 2025.
وفي صيف سنة 2020، جرى تسجيل حالات إصابة متزايدة بالسالمونيلا المقاومة للمضادات الحيوية في بريطانيا، وتبين أنها ناجمة عن تلوث الدجاج بالسالمونيلا المقاومة للمضادات الحيوية، وسلطت الفضيحة الضوء على أهمية ضرورة تنظيم استخدام المضادات الحيوية في صناعة الدواجن والالتزام بالإجراءات الصحية والبيئية الجيدة، وأدت إلى دعوات لتشديد الرقابة وتحسين الممارسات في صناعة الدواجن بهدف الحفاظ على فعالية المضادات الحيوية وحماية صحة الإنسان.
وفي عام 2018، وقعت فضيحة مشابهة في الهند أثارت قلقاً كبيراً حيال الاستخدام غير المسؤول وتأثيرها في المقاومة الحيوية، سميت بـ”فضيحة مومباي”. في تلك السنة أجرى مركز العلوم والبيئة في الهند دراسة تحليلية للدجاج المستورد إلى مدينة مومباي، اكتشف المركز وجود مستويات مرتفعة جداً من المضادات الحيوية في عينات الدجاج، وبعض هذه المضادات الحيوية كانت مخصصة للاستخدام البشري ومعترف بها على أنها حرجة لصحة الإنسان.
بهذا نفهم أن الصراع بيننا وبين هذه الكائنات التي تعجز أعيننا عن تحديد هيئتها ومكانها وإدراك وجودها هو صراع غير ثابت، بل متغير وديناميكي، فاستخدام المضادات الحيوية بشكل غير صحيح أو مفرط يمكن أن يؤدي إلى مشكلة أكبر من السبب الأساسي الذي دفعنا إلى اللجوء إليها كعلاج، بالتالي الوصول إلى حالة تكون فيها مكافحة الأمراض عصية ويواجه صمود البشر أمام الأمراض تحدياً أكثر صعوبة.
تعتمد مواجهة تلك التحديات وضمان بقاء البشر في هذا الصراع البيولوجي على فهم عميق للبكتريا والميكروبات واستخدام المضادات الحيوية بحذر وحكمة، لكن قبل ذلك، لا بد للبشر من تحسين الوعي بأهمية الوقاية والنظافة الشخصية، والبحث عن طرق جديدة للتعامل مع هذه التحديات المستمرة، فوجودنا في هذا الكوكب يتطلب التعايش السلمي مع هذه الكائنات الدقيقة والعمل المشترك لمكافحتها والحفاظ على صحتنا وبقائنا على وجه الأرض.
اندبندنت