من المؤكد أن الإنسان المعاصر استلهم فكرة أزياء رجال الفضاء من ملابس الأطفال، فرحلة ذهاب الإنسان في مهمة إلى الفضاء الخارجي تشبه كثيراً خروج الجنين من رحم أمه إلى الحياة، وانتقاله من محيط مألوف وآمن تماماً إلى آخر في غاية الخطورة. فالظروف الخارجية الطبيعية في الفضاء الخارجي التي يدخلها رائد الفضاء تعد شديدة الخطورة على جسده، لذلك هو يحتاج إلى ملابس خاصة واقية تشبه في تصاميمها ملابس الأطفال حديثي الولادة، التي تقوم على تجهيزات دقيقة تكفل حماية كل أعضاء جسم الإنسان أثناء رحلته وحتى العودة سالماً لمجتمعه ومنزله. وتشبه تلك التجهيزات التي تقوم بها وكالات الفضاء العالمية، ومنها “ناسا” المتعلقة تحديداً بتجهيز وتطوير بدلة رائد الفضاء التي سيرتديها أبطالها أثناء تلك المهمة، تجهيزات عائلة معاصرة تتحضر باهتمام مبالغ فيه أحياناً، لقدوم أول طفل رضيع لها. وفي وقتنا هذا تقوم وكالات الفضاء العالمية بدراسة وفحص كل التفاصيل المتعلقة ببدلة رائد الفضاء الحديثة، لتكون ملائمة لأحوال جوية ونفسية غير متوقعة أحياناً.
بدلة ذات مهمتين
وتقسم البدلات الفضائية إلى قسمين رئيسين، وهما بدلات تناسب المشي على القمر (مهمات خارج محطة الفضاء) ونوع ثان مناسب لمهمات داخل محطة الفضاء الدولية. ومنذ استعمال أول بدلة روسية وهي “سوكول” عام 1973 وحتى بدلة “سبيس إكس” المطورة والملونة بعد 2022، حافظ تصميم بدلة رائد الفضاء على وظيفة أساسية وهي حماية جسد رائد الفضاء من الأخطار الخارجية، لذلك تغطي البدلة كل أجزاء الجسم، بما في ذلك الرأس بكل أعضائه، والكفين وحتى أخمص القدمين. ومهما اختلفت التصاميم والألوان تظل مهمة البدلة أن توفر الأكسجين والماء والشراب لرائد الفضاء، ومن شروط تصميمها أن تكون مرنة وخفيفة الوزن. إذ لا يستطيع رائد الفضاء البقاء في ذلك الفراغ المميت لأكثر من 15 ثانية من دون بدلته. كما أنها مصممة لحماية رائد الفضاء من إشعاعات كونية ذات طاقة مرتفعة ودرجات حرارة تتراوح بين 250 إلى 250 فهرنهايت، وذلك وفق موقع شركة (ILC dover) التي صنعت بدلة “أبولو” الخاصة بالهبوط على القمر، وبدلة (EMU) الخاصة بمهمات (EVA) الداخلية.
ولادة جديدة للإنسان
وعلى مدار قرن كامل من الزمن منذ انطلاق عصر الفضاء، احتاج رواد الفضاء إلى أزياء وتجهيزات تفوق ما يحتاج إليه الرضيع في ساعاته الأولى على الأرض. وعلى رغم تطابق كثير من المعدات بين إنسان الأرض المولود حديثاً في أجواء غير ملائمة وإنسان الفضاء، فإن الطفل الرضيع يتميز عن رائد الفضاء بأنه يستطيع الحصول على الأوكسجين مباشرة من الأرض بمجرد مغادرته الرحم، بمعنى أن لا يحتاج إلى قناع يغطي كامل وجهه بما في ذلك أنفه وعيونه. وأسهمت بدلة رائد الفضاء في جذب انتباه مليارات البشر إلى هذه التجربة التي جسدت ولادة جديدة للإنسان المعاصر. ومن بين هؤلاء حلم ملايين الأطفال بأن يصبحوا رواداً للفضاء الخارجي. لذلك تزخر مواقع البيع الإلكتروني العالمية مثل “أمازون” و”علي بابا” بمختلف العروض لأشكال وتصاميم جذابة لبدلة رائد الفضاء، لمختلف المناسبات والفئات العمرية من الجنسين، مثل تلك المضيئة لأعياد الميلاد، والمخيفة لحفلات الهالوين، وغيرها من التصاميم الأنثوية والصبيانية وحتى بدلات للرجال والنساء البالغين.
رمزية ارتداء البدلة الخيالية
ويعبر ارتداء البدلة لهؤلاء المعجبين من الفئات العمرية كافة عن لذة الشعور بالولادة ضمن ذلك العالم الخيالي، من جهتهم يشعر رواد الفضاء الحقيقيون بمثل هذه العواطف الجياشة أثناء ارتداء البدلات الحقيقية، إذ تعبر هذه البدلات عن مدى احتفاء الإنسان العاقل بولادة إنسان الفضاء، وانطلاق البشرية في رحلة استكشاف المجرات والنجوم منذ بداية مرحلة غزو الفضاء التي استمرت من خمسينيات القرن الماضي وحتى يومنا هذا.
ثبات المضمون
تحمل أسماء المهمات الفضائية في العادة رمزيات عدة، بعضها معقد مثل أسماء المهمات التي تعبر عن اختصارات لجمل وتركيبات لغوية طويلة، فيما تعبر أسماء المهمات الكبرى مثل “أبولو” و”أرتيمس” عن أسماء آلهة الإغريق قديماً. بدورها حافظت البدلات الفضائية على رمزيتها المهنية، وظلت بمثابة أيقونة محببة لدى جمهور هذه الصناعة، على رغم سذاجة تصاميمها. وبلغت هذه الصناعة ذروتها حديثاً لتشمل تغيير كل نواحي البدلة الميكانيكية التي اعتمدت منذ الستينيات على السحابات والكابلات المعدنية والمطاط، ومنها زيادة المرونة وخفض الوزن وإطالة عمر البدلة. مع ذلك انتقلت صناعة البدلة في زمن دخول الشركات الخاصة على صناعة الفضاء، من إطار عملي بحت يركز على تسهيل مهمة التعرف على رجال الفضاء، من خلال اعتماد الألوان الأولى الأساسية الواضحة التي تميزت بها بدلات حقبة الستينيات وهي الأبيض والبرتقالي، إلى بدلة جذابة كتلك المخصصة لمهمات “ناسا” في 2025، التي صممتها وطورتها شركة “سبيس إكس”، إذ تتميز بدلة المستقبل بكونها ذات لون أسود أنيق، مع ومضات من اللون البرتقالي والأزرق، بوزن أخف بما يقارب 20 رطلاً (9 كلغ) من تلك المستخدمة في مهمة “أبولو” في خمسينات القرن الماضي.
اندلندنت