«حزب الله» يُشغِل «الجبهة الشمالية»: هل من حسابات خاطئة؟

تحوَّلتِ المناطق الحدودية في جنوب لبنان إلى ساحات مفتوحة على أعمال القصف وإطلاق الصواريخ وعمليات التسلّل إلى شمال إسرائيل. بالطبع يقودُ «حزب الله» العمليات على طول الجبهة، وقد فتح المنطقة للتنظيمات الفلسطينية المسلحة مِن حركتَيْ «حماس» و«الجهاد الإسلامي» للانخراط في الحرب. لا يحتاج «الحزب» لأن تُسانده صواريخ «كتائب القسَّام» و«سرايا القدس» من جبهة لبنان. فهي في الأساس صواريخه أو صواريخ تحت أَعينه. يريد أن يقول لقادة إسرائيل إن «الساحة مفتوحة لأذرع عسكرية فلسطينية وحتى غير فلسطينية». فلا غرابة إن أعلنت فصائل من «الحشد الشعبي» العراقي أو من «جماعة الحوثي» أو من الفصائل الأفغانية المقاتلة في سوريا أنها قامت بعمليات من الجنوب. سيكون مشهداً سوريالياً للبنانيين لكنه ليس كذلك لـ«محور المقاومة» الذي يُرسل الرسائل بالنار من جنوب لبنان إلى شرق سوريا والعراق واليمن عن وحدة تلك الساحات في وجه الولايات المتحدة الأمريكية تحت إمرة إيران.

حتى الساعة، ما زالت العمليات العسكرية على جانبَيْ الحدود مضبوطة وتخضع لقواعد الاشتباك. استهدافات عسكرية ومَدنيّة متبادلة، سقوط قتلى على الجانبين وإخلاء مناطق سكنيّة على الضفتين. إسرائيل تُعلن أنها أَخلَتْ وتُخلي مستوطناتها عند حدودها الشمالية. أما في لبنان، فهناك صمت القبور أو الضياع القاتل لدولة معدومة بلا قرار. لا دولة ولا مؤسسات لتُعلن أنَّ إجلاءً للسكان قد حصل، وإلى أين؟ يومياً تُسجَّل حركة نزوح عن القرى الجنوبية. جريدة «الأخبار» الناطقة بلسان «محور إيران» تتحدث عن نزوح أكثر من ثلثَيْ سكان المناطق الحدودية عن قراهم. معلومات من أبناء القرى تُفيد بأن «حزب الله» يُخلي المنطقة حيث يمكنه الطلب وسط بيئته السياسية والطائفية. في المناطق المسيحية، خرج بالأمس خوري بلدة القليلة ليَدِينَ تحويل الناس إلى دروع بشريّة، حيث يتمُّ إطلاق الصواريخ من بين المنازل.

ترتيبات أمنية

القرار الدولي 1701 والذي نصَّ على ترتيبات أمنية جنوب الليطاني بحيث لا وجودَ لسلاح غير شرعي بعد حرب 2006 هو حبرٌ على ورق. فمنذ أن انتهت الحرب، كان «حزب الله» يُعيد بناء ترسانته العسكرية تحت أعين الجيش اللبناني والقوات الدولية التي زاد عديدها لتطبيق القرار الأمميّ جنوب خط الليطاني الذي يفترض أن تكون مناطقه خالية من السلاح، حتى إنه ينظر إلى تلك القوات الدولية على أنها «رهائن بشريّة» إذا اقتضى الأمر، ولا حراجة لمنظّريه من سياسيين أو إعلاميين في قول ذلك عبر شاشات التلفزة. راهنَ المجتمعُ الدوليّ على أنَّ صدور القرار 1701 الذي يُعزِّز القوات الدولية على الحدود اللبنانية الإسرائيلية ويُنشئ منطقة ترتيبات أَمنية يمكنه أن يُقفل نهائياً الجبهة اللبنانية – الإسرائيلية، واعتبر أن إعادة بناء الجنوب بعد «حرب تموز 2006» والقيام بمشاريع تنموية متعددة وتوفير حياة أفضل للجنوبيين من شأنها أن تدفع نحو ديمومة استدامة الهدوء بعدما أضحى هناك الكثير ليخسره الجنوبيون، لكنها رهانات خاسرة في مجتمعات عقائدية من جهة، ومجتمعات لا تحظى بحماية الدولة وأجهزتها ومؤسساتها من جهة ثانية، بما يجعلها عاجزة عن مواجهة قوى الأمر الواقع في مختلف سلوكياتها. اليوم، ليس الجنوب في هذا الموقع، بل لبنان بأكمله هو تحت رحمة «حزب الله» صاحب قرار السِّلم والحرب.

سينكشف لبنان أكثر فأكثر، ولا سيما في ظل انشغال العالم بالحرب في غزة. هي الأصل اليوم، وعليها ينصبُّ الاهتمام. وحتى لو تحوَّلت جبهة لبنان من «جبهة إشْغال» للجيش الإسرائيلي، كما حالها اليوم، إلى جبهة حرب فعلية، فإنه مصيره لن يتقدم في سلّم الأولويات لكيفية إنقاذ أبنائه والنازحين على أرضه.

احتمال أن تتدحرج العمليات العسكرية ضد إسرائيل من جنوب لبنان إلى حرب مدمرة هو احتمال كبير وكبير جداً، على الرغم من الكلام المُعلن هنا وهناك عن عدم النيّة في توسيع الحرب. ولكن مَن قال إن الحرب تقفُ عند النوايا أو تُحسب وفق هذا المعيار؟ عينُ إسرائيل على الجبهة الشمالية، وتنصبُّ الضغوط الأمريكية الرئيسية على منع فتح هذه الجبهة وترك الأمر محصوراً بين إسرائيل وقطاع غزة. لكن «حزب الله»، وفق لصيقين به، لا يستندُ في حساباته إلى فتح «محور إيران» جبهة جنوب لبنان، بل إلى الانخراط في حرب إقليمية عبر «وحدة الساحات». وهي الرسالة التي أرسلتها إيران بالنار، بحيث تزامنتْ سلسلة من العمليات: إطلاق الحوثي في اليمن صواريخ اعترضتها سفينة أمريكية في البحر الأحمر، مع عمليات استهداف قاعدة «عين الأسد» في العراق، واستهداف قاعدة «التنف» في شرق الفرات، وإشغال الإسرائيلي في جبهة لبنان. أرادها «المحور» أن تكون نموذجاً مصغراً عن الحرب الإقليمية إنْ وقعت.

ما يؤكده «منظّرو المحور» أن حسابات فتح جبهة لبنان والانخراط الكليّ لـ«حزب الله» في الحرب تتخطى «الهيجان العاطفي» و«الاندفاعات الصبيانية» للشعوب إلى الحسابات الاستراتيجية لـ«المحور» الذي يُشكِّل جزءاً منه. ما تريده إيران اليوم هو إعادة التأكيد قولاً وفعلاً أنَّها لاعب في المنطقة، والأهم أنها لاعب في القضية الفلسطينية أو ما تبقّى منها. هي تُمسك بجزء كبير من ورقتَيْ «حماس» و«الجهاد»، وبورقة «حزب الله» والميليشيات التابعة لها في سوريا والعراق وبورقة الحوثي، وقادرة اليوم على أن تُشعل الجبهات وأن تُخمدها، وبالتالي لا بدَّ من الحديث معها.

الحرب لا تزال في أوّلها

في معلومات أوردها الصحافي حسن فحص، أثارت الانتباه، أن توقيت معركة «طوفان الأقصى» لم يكن توقيتاً إيرانياً. يقول فحص موضحاً ما عناه إن إيران هي المخطِّط والمدرِّب والمموِّل للعملية، لكنها ليست المُوقِّت لها. لم تحصل العملية على ساعة إيران، كان لدى طهران وقتاً تُريد أن تستنفده قبل أن تُقدِم على استخدام أي من أوراقها في المنطقة لو تيقّنت أنها أضحت خارج المعادلة في حل قضية الشرق الأوسط، ولا سيما مع تقدُّم مسار التطبيع الذي كشف ولي العهد السعوي الأمير محمد بن سلمان في مقابلته مع «فوكس نيوز» أنه يسير بشكل جيّد بين المملكة وإسرائيل ويُشكِّل حلُّ الملف الفلسطيني جزءاً منه، وإن كان كلام بن سلمان حينها لم يأتِ على حل الدولتين بل على تأمين حياة أفضل للفلسطينيين. ورغم أن إيران ليست صاحبة التوقيت، برأي فحص، فهي بالطبع مستفيدة من عملية «طوفان الأقصى» وقادرة بواقعيتها السياسية على تحقيق مكاسب جديدة، وتعزيز موقعها على طاولة المفاوضات حيث حجزت مكاناً لها في ما خص «القضية الفلسطينية».

على أن الحرب لا تزال في أوّلها. الأكيد أن أمريكا والغرب يُحيِّدان إيران بقولهما إنَّ «لا أدلّة على تورّطها» لتفادي توسُّع الجبهات. ويتولى «حزب الله» استنزاف الجيش الإسرائيلي على جبهته الشمالية لتخفيف الضغط عن غزة، وسيجد نفسه مضطراً إلى تصعيد عملياته حين يبدأ الهجوم البريّ، وإذا اشتد الخناق على «حماس». فالتضحية بـ«حماس» ليست مطروحة في حسابات «المحور»، أقلّه في المدى المنظور، لأنه يعني هزيمة أحد أذرع «المحور» وخسارة طهران الورقة الفلسطينية التي من خلالها مدّدت نفوذها في ساحات عربية عدّة، غير أن السؤال يبقى: مَن يضمن أن جبهة الجنوب لن تتدحرج وأن «حزب الله» لن يجد نفسه مضطراً إلى الانخراط الكليّ وحيداً إلى جانب غزة، فيما تُشكِّل الساحات الأخرى ساحات إشغال ومساندة وليس توحّد ساحات؟ المصلحة الإيرانية بالتأكيد لا تقتضي فتح حرب إقليمية، لكنها قد تقتضي فتح جبهة ثانية، وأكثر الجبهات القادرة على التأثير هي جبهة لبنان!.

رلى موفق- القدس العربي

مقالات ذات صلة