سياسة الأرض المحروقة: إلى أيّ حدّ يجب الذهاب بالمجزرة والإبادة حتى يقولوا كفى؟
لا تزال الدماء كما الأشلاء متناثرة في المستشفى المعمداني في غزة بعد الاتهامات بارتكاب إسرائيل المجزرة المروّعة، التي أدّت إلى استشهاد أكثر من 500 شخص من الفلسطينين، وإلى جرح مئات آخرين. ويحاول القطاع الصحي في غزة الصمود وسط الانتهاكات الإسرائيلية المستمرة، حيث بات واضحاً أن المنطق الإنساني لا ينطبق على ممارسات الجيش الإسرائيلي، إذ تتحول المستشفيات من ملاذ آمن إلى مقابر جماعيّة.
سبق لإسرائيل أن قامت قبل 3 أيام من المجزرة بإطلاق قديفتين على مبنى العيادات الخارجية ومركز تشخيص السرطان التابعين للمستشفى المعمداني، بهدف إخراجه عن الخدمة، في وقت أدى القصف الى حرمان الجرحى والمدنيين من العلاج والملجأ الآمن. وفي النهاية، تكون النتيجة قتل أكبر عدد من الأفراد.
وبعد قصف المستشفى، أعلنت وزارة الصحة الفلسطينيّة خروج 4 مستشفيات و14 مركزاً للرعاية الأولية عن الخدمة كليّاً، وتضرّر 25 مستشفى جزئيّاً، بسبب القصف الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة، فيما تواصل إسرائيل خطتها الممنهجة من خلال إنذار 24 مستشفى بالإخلاء في قطاع غزة.
وأمام تدهور القطاع الصحيّ بشكل دراماتيكي، قال المدير العام لمنظمة الصحة العالمية تيدروس أدهانوم غيبريسوس “إن وضع قطاع الصحة في غزة يخرج عن السيطرة، ويتمّ تسجيل خسائر بالأرواح في كلّ ثانية تأخير في إيصال المساعدات الطبية إلى غزة”، في الحين الذي اكتفت منظمة الصحة العالمية بإدانة أوامر إسرائيل المتكررة بالإخلاء عبر بيان لها، واعتبرت أن “الإجلاء القسرى للمرضى والعاملين في القطاع الصحي سوف يفاقم الكارثة الإنسانية والصحية الحالية”.
وجاء في بيان المنظمة على موقعها الإلكتروني أن حياة الكثير من المرضى تواجه وضعاً حرجاً، ممن هم في وحدات الرعاية المركّزة، والذين يعتمدون على أجهزة التنفس الاصطناعيّ، والنساء اللواتي يعانين من مضاعفات الحمل، والآخرين الذين يواجهون تدهوراً وشيكاً لحالاتهم الصحية أو الوفاة، إن تمّ إجبارهم على التحرّك وحرمانهم من الرعاية الطبية المنقذة للحياة أثناء إجلائهم.
في المقابل، وبالرغم من المجزرة التي ما زال الفلسطينيون والفِرق الطبيّة يلملمون ذيولها وأضرارها الفادحة، رفضت المستشفيات في قطاع غزة الخضوع لتهديدات جيش الاحتلال الإسرائيلي المتكرّرة بالإخلاء، علماً بأن الانتهاكات الإسرائيليّة أدّت إلى استشهاد 44 وإصابة 70 من أفراد الفِرق الطبية.
وأمام هذه الصورة التي تبدو معتمة، يبقى السؤال الأهمّ: لماذا يجري استهداف المستشفيات؟ وماذا عن تذرّع إسرائيل بأن حماس تملك أنفاقاً تحت المستشفيات، وهذا ما يدفعها إلى قصفها بهذا الإجرام؟ وماذا يعني عسكرياً قصف المستشفيات والمراكز الصحيّة في الحرب؟
ننطلق في البداية بقراءة أمنيّة لهذا القصف الممنهج والإنذارات المستمرة في إخلاء 24 مستشفى في غزة، فيؤكد الكاتب والباحث في شؤون الأمن والدفاع رياض قهوجي لـ”النهار” أنه “في حصار المدن، خاصّة في حالة الحرب وسعي الطرف المهاجم للاحتلال، نكون أمام حرب إخضاع بهدف كسر إرادة القاعدة الشعبية لحركة حماس من الداخل. ورأينا هذا السيناريو في حروب كثيرة… فعندما يكون الهجوم بهدف الاحتلال تُمارس سياسة الأرض المحروقة، حيث تُدمّر جميع مقوّمات الحياة كالمستشفيات والكهرباء والمياه لخلق حالة صعبة بغية الضغط على الطرف المقاوم”.
وعليه، يرى قهوجي أن ما يجري هو لتحطيم الإرادة والعزيمة عند الطرف الآخر للنيل من قدرته على الاستمرار في القتال. وانطلاقاً من ذلك، يكون استهداف المستشفيات، الذي يُعتبر جريمة حرب. وتسعى إسرائيل إعلاميّاً لتنظيف صورتها من خلال تصوير حماس حركةً تحتمي بالمستشفيات… وبات واضحاً أن إسرائيل لديها الضوء الأخضر للقيام بكلّ ما تريده في الوقت الراهن لتحقيق أهدافها”.
من التحليل العسكري إلى الواقع الطبيّ في غزة، يواصل مدير مستشفى العودة في غزة الدكتور أحمد مهنا الصمود والعمل باللحم الحيّ، وبما تيسّر لمواجهة إجرام الجيش الإسرائيلي بحق القطاع الصحيّ والمستشفيات في غزة.
يعرف مهنا تماماً أن لا مجال للانهزام والانكسار، فعزيمتهم أقوى من كلّ المجازر التي ترتكب. وبالرغم ممّا يشاهدونه من جرائم وأشلاء وإصابات بليغة، يصرّون على المضيّ برسالتهم الإنسانية، ويقول لـ”النهار”: “لن نتخلّى عن مرضانا وجرحانا حتى لو اضطر الأمر إلى علاجهم في الشوارع”.
برأيه “إن التهديدات المستمرّة للمستشفيات ليست غير تنفيذ للمشروع الصهيوني الأميركي الطامح إلى تهجير شعبنا وتنفيذ خطتهم. هم يُمعنون في استهداف المدنيين وزعزعة الجبهة الداخلية وإيقاع أكبر عدد من الشهداء وتدمير البنى التحتية. ومع ذلك أقول بكلّ فخر وعزة إن شعبنا لديه القدرة لتحليل هذه السياسات غير الناجعة”.
وعن التحذيرات الإسرائيلية لإخلاء 24 مستشفى في غزة، يشدّد مهنا بالقول “لن نغادر المستشفيات، ولن نخضع للتهديد. سنبقى هنا، وسنقدّم خدماتنا الصحيّة ونعزّز صمود شعبنا بوجه هذه الهمجيّة التي تستهدف الحجر والبشر”.
يعرف مهنا وغيره من الأطباء أن المستشفيات، وفق ما يقول “لم تعد ملاذاً آمناً بل هدفاً أساسياً، خصوصاً بعد استهداف المستشفى المعمداني. هذه المجزرة التي أسفرت عن استشهاد نحو 800 شهيد ومئات الجرحى أكبر دليل على سياسة إسرائيل وإجرامها وإبادتها شعباً بكامله”.
ويتساءل مدير مستشفى العودة في غزة عن صمت الحكومات الغربية والدولية بالقول “متى نسمعهم يقولون كفى؟ إلى أيّ حدّ يجب الذهاب بالمجزرة والإبادة حتى يقولوا كفى؟ ولكن أقول لهم: حتى وإن ظلّ القصف مستمرّاً فسنبقى نعمل، وسنبني خيماً، ولن نترك مرضانا مهما كلّف الأمر”.
ليلى جرجس- النهار