ما الذي يجمع بين داليدا ومارلين مونرو وروبين ويليامز وسعاد حسني ونجم الـ”دي جي” ستيفن بوس، إنها السعادة بالطبع، فهؤلاء مجموعة من أشهر صانعيها في العالم بإنتاجات فنية رفعية وجماهيرية تخطت الحدود ومواهب لا يختلف عليها أحد.
ويبدو أن هذا هو الجانب المشرق من الصورة التي حرصوا أن يظهروا بها على الملأ بمنتهى الاحترافية، بينما حقيقة الأمر أن هناك تشابهات أخرى أكثر رسوخاً ربما وأشد ظلاماً رسمت طبيعة حياتهم الحقيقية بعيداً من الكاميرات، بينها الاكتئاب والأزمات النفسية المريرة والمرض الجسدي، وهي أمور لم يتمكنوا من مواجهتها أو الصمود أمامها على رغم كل هذا التحقق، والنتيجة أن وفياتهم مسجلة في الدفاتر الرسمية على أنها انتحار.
فهل يتخلص المشاهير من حياتهم بملء إرادتهم بسبب الضغوط والأضواء، أم بسبب انحسارها؟ أو لشعورهم بأنهم يتعرضون إلى الاستغلال أو لعدم تحملهم أن يبقوا على الدوام مراقبين ومطالبين بالظهور بشكل مثالي للغاية، أم أنهم يتسمون بالهشاشة النفسية التي تجعلهم عرضه لتدمير ذواتهم مع أي أزمة نفسية أو جسدية، ناهيك عن عدم تحمل الانتقادات القاسية على الدوام خصوصاً لو كان المقربون مصدرها؟
هل حقاً الفنون جنون؟
الأسرار الحقيقية وراء اتخاذ القرارت الأخيرة بإنهاء الحياة من الصعب أن نصل إليها، ولكن على الأقل هناك رسائل تركها بعضهم تؤكد أنهم كانوا يقاسون في صمت، ولم يلحظ أحد معاناتهم بسبب الضوء الساطع الذي يسلط عليهم وصخب معيشتهم، بينهم المغنية الإيطالية المصرية داليدا التي تمتعت بموهبة رفيعة وقدمت أعمالاً لا تنسى، وكانت محبوبة الجماهير ويتهافت عليها العشاق، إذ كانت كلماتها الأخيرة، “لم أعد أحتمل الحياة. فاغفروا لي”.
على ما يبدو أن هناك علاقة بين الإبداع والرغبة في الموت، إنها متلازمة البراعة والخلل العقلي التي تناولتها أطروحات عدة.
أرسطو من جهته يرى أنه لا توجد عقليات عظيمة دون أن يمسها الجنون، وبعد تلك المقولة بأكثر من 2300 عام، جاءت الأبحاث العلمية لتثبت أن فيها شيئاً من الصحة، وبحسب دراسة نشرت في مجلة “نيتشر نيورولودجي” الإنجليزية شملت عينتها مئات الآلاف من الحالات، فإن هناك علاقة بين وجود حس إبداعي متزايد وبين الاضطراب العقلي، لا سيما مرض اضطراب ثنائي القطب، مما يعزز بدوره من التعبير الشائع “الفنون جنون” الذي يقال على سبيل المزاح.
ليس الإبداع وحده ما يرتبط بالجنون، العنف أيضاً يمكن أن يكون كذلك، فالزعيم النازي أدولف هتلر المسؤول عن مذابح ومحارق التهمت عرقيات عدة خلال فترة الحرب العالمية الثانية، أقدم بعد هزيمة ألمانيا على الانتحار وترك رسالة عثر عليها بعد أن فارق الحياة، وهي رسالة بعيدة تماماً من الشاعرية وأراد من خلالها التعبير عن قوته وكبريائه.
جاء في رسالة هتلر، “اخترت وزوجتي الموت بدلاً من تحمل عار الهزيمة والاستسلام، أتمنى أن يقوم من يجدنا بإحراق جثتينا في المكان نفسه الذي قضيت فيه 12 عاماً من حياتي أخدم شعبي”. لكنه على رغم التظاهر بالثبات فقد هرب من مصيره ولم يواجهه، واختار الحل الأكثر ضعفاً وإن تصور عكس ذلك.
رسائل شاعرية وأخرى مكابرة
وإذا كانت العزلة والانطوائية والاكتئاب سمات مميزة لشخصيات مجموعة من المبدعين في مجالات الأدب والفن التشكيلي والتصميم الذين أنهوا حياتهم، ومنهم إرنست همينغواي وفان غوخ وألكسندر ماكوين وفيرجينيا وولف واللاعب روبرت إنكه وأنتوني بوردين، والأخير هو طاه أميركي شهير عرف ببرامجه التي يقابل فيها أناساً من شتى أنحاء العالم، وعرف بحسه الاجتماعي وحبه للحديث مع الغرباء وتكوين الصداقات معهم بكل سهولة، إلا أنه كان يعاني الإدمان لسنوات طويلة.
من الملاحظ تنامي حالات الانتحار خلال العقدين الأخيرين، إذ انتحر ما يقرب من 45 ألف أميركي في 2016، بينما تصنف كوريا الجنوبية بحسب تقرير لـ”بي بي سي” على أنها تضم أعلى نسبة انتحار بين الشباب في الدول المتقدمة بمعدل 26 حالة بين كل 100 ألف مواطن، على رغم المستوى المعيشي الجيد وارتفاع معدل دخل أفرادها الذي يبلغ 8 دولارات تقريباً في الساعة، ومتوسط نصيب الفرد من الدخل القومي 16291 دولاراً.
فيما تشير منظمة الصحة العالمية إلى أنه يوجد حالياً 700 ألف حالة انتحار مؤكدة سنوياً في جميع أنحاء العالم، وتناهض المنظمة هذا النهج من خلال فعاليات وأنشطة توعوية تصاحب احتفالها باليوم العالمي لمنع الانتحار في 10 سبتبمر (أيلول) من كل عا،م وهو اليوم الذي يتم الترويج له بشعار “إحياء الأمل عن طريق العمل”.
وفي حين أن التركيز الأساس ينصب على تفسير خلفيات إقدام المشاهير على الانتحار، ولكن أيضاً هناك أطفال ومراهقون ينهون حياتهم بسبب تأثرهم الشديد ببعض الألعاب الإلكترونية سيئة السمعة التي تدعو إلى الهلاك، ومنها ما يحث مستخدميها على الدخول في تحديات قاتلة أو على الأقل شديدة الخطورة.
ثمة حوادث انتحار متكررة في مصر، إذ رصدت حالات انتحار لأناس تركوا رسائل قبيل رحيلهم، كالفتيات اللاتي أخفقن في مسيرتهن التعليمية، وشباب عانوا العنف الأسري وغيرهم ممن رفض أهلهم تزويجهم من يحبون. وتضمنت تلك الرسائل لوماً موجهاً لمن أوصلوهم إلى هذه المرحلة وعرضوهم لأذى نفسي شديد الوطأة، ولكنهم أيضاً لم يجدوا من يساعدهم في اللجوء لمتخصصين يعينونهم على تجاوز هذه المرحلة الضاغطة، كما أن عدداً منهم اختار طرق انتحار علانية مثل القفز من فوق منحدر أو تصوير نفسه على الهواء وهو يزهق روحه، وهي طرق للفت النظر وربما لتوجيه استغاثة أخيرة بشكل أو بآخر.
وإذا كانت أزمات الحياة لا تفرق بين صغير وكبير وبين ثري وفقير، فلماذا يقدم البعض دون غيرهم على إنهاء حياتهم؟
ترى أستاذة علم الاجتماع هالة منصور، أنه لا ينبغي أبداً التهاون مع مرضى الاكتئاب العقلي، لافتة إلى أنه ليس كل أزمة نفسية عابرة تسمى اكتئاباً حاداً، وإن جرت العادة أن الأشخاص يستسهلون ويطلقون على أي وضع نفسي غير مريح مهما كان بسيطاً بالنسبة إليهم لفظ “اكتئاباً” ولكن المرض شيء آخر ويضرب بجذوره في أعماق الشخصية ويحيل حياة المصاب به إلى واقع أسود يبتلعه، وفي أوقات كثيرة يكون هذا المرض متعلق بتاريخ عائلي.
الكبت والخجل والضعف الإنساني
ما تقوله أستاذة علم الاجتماع ربما يتحقق في أكثر من حالة، وقد يكون أشهرها حالة نجمة السينما الأميركية مارلين مونرو (1926 – 1962)، إذ كانت والدتها تعاني أزمة عقلية ونفسية وحاولت قتل نفسها أكثر من مرة، بل كانت تشكل خطراً على حياة ابنتها نورما جين (مارلين مونرو) أيضاً.
وعلى رغم أن هناك عائقاً أساساً في ما يتعلق باللجوء للمساعدة من قبل الأطباء النفسيين، يواجه أصحاب الدخل المحدود (نظراً لارتفاع كلفة الجلسات والمتابعة طويلة الأمد)، ويشكل عبئاً مادياً ومعنوياً عليهم، خصوصاً حينما يكون محيطهم الثقافي يتعامل مع هذا السلوك وكأنه أمر مشين، فإن المشاهير لديهم كافة التيسيرات التي تجعل هذا الشق سلساً وغير معقد، لا سيما من الناحية المادية، إلا أن أستاذة علم الاجتماع هالة مصنور تشدد على أن فكرة العيب من اللجوء للطبيب النفسي ليست قاصرة على مستوى اجتماعي معين، ولكنها تطال كافة الأوساط.
تضيف، المشاهير بشكل خاص يخشون على صورتهم خوفاً من أن تلتصق بهم صفات هم في غنى عنها تؤثر في فرص عملهم وتصب في صالح منافسيهم، بالتالي فأفكارهم على هذا المستوى تحتاج إلى مراجعة أيضاً، إذ لا يجب الاستسلام لنظرة المجتمع القاصرة، بل على العكس يجب أن يكونوا مصدراً للوعي وليسوا ضحاياً للتنمر في هذا الصدد.
اللافت أنه مع انتشار حملات التوعية خلال هذا العصر مقارنة بأجيال سابقة، إلا أن الضغوط التي يمارسها على سبيل المثال بعض المعلقين المتنمرين عبر مواقع التواصل الاجتماعي وتحمل أفكاراً هجومية ضد مشاهير بعينهم تحمل مبالغات في الإساءة قد تكون غير محتملة وتشكك النجم في نفسه وأهليته، حين يطالبونهم بأن يكونوا أكثر مثالية ويضخمون أخطاءهم.
تتابع أستاذة علم الاجتماع، أن المشاهير بدورهم لديهم هوس نحو الأفضل ويقارنون أنفسهم بزملاء آخرين فيقعون في فخ عدم الرضا عن النفس، وربما يكون هذا تفسيراً يشرح بشكل مختصر أسباب لجوء عدد من مشاهير آسيا مثلاً إلى الانتحار، إذ تكررت الحوادث على مدار الأعوام الأخيرة بشكل ملحوظ وسط صدمة الجماهير، وتضمنت القائمة نجوماً من الهند وكوريا الجنوبية واليابان أيضاً، حيث أنهى عدد كبير من نجوم بلاد الشمس المشرقة حياتهم على رغم أنهم ظاهرياً يتمتعون بمسيرة مهنية ناجحة وحياة مرفهة ولديهم عائلات تحبهم وجمهور يلهث وراء أخبارهم، بينهم يوكو تاكوتشي، وهانا كيمورا، وسي أشينا، وهاروما ميورا.
تتابع، بحسب تصريحات سابقة لمدير مركز مكافحة الانتحار في اليابان ياسويوكي شيميزو، فإن المجتمع الياباني غير منفتح على تقبل فكرة الضعف الإنساني، ولا يوجد فيه تسامح مع ثقافة اللجوء للطبيب النفسي، بالتالي فالجميع يجتهد لإخفاء جروحه وندوبه النفسية، ونتيجة لهذا الكبت تتوالى حالات الهروب من الحياة ومواجهة الناس بطرق قاسية، مما أسهم في زيادة حالات الانتحار خصوصاً في أوساط الشباب.
التنمر الإلكتروني
القائمة تضم أيضاً عدداً كبيراً من نجوم الـ”كي بوب”، بينهم مونبين الذي قالت الشرطة، إنه انتحر في شقته بالعاصمة الكورية الجنوبية سيول منتصف أبريل (نيسان) الماضي، إضافة إلى أسماء كثيرة أخرى مثل جوهارا وشاينها وسولي وسونغ يو جونغ وكيم جونغ هيون، وغيرهم وبعضهم ترك رسائل يعبرون فيها عن يأسهم، وفشلهم في التعامل مع الاكتئاب، بينما المراقبون يعزون السبب غير المباشر إلى تعرضهم للتنمر الإلكتروني وإلى تسليط الضوء بشكل مبالغ فيه على تفاصيل حياتهم، وأيضاً إلى تحكم الوكالات التي تتولى إدارة أعمالهم في كافة تفاصيل يومهم واحتكار شخصياتهم تماماً، وفي الهند أيضاً توالت الحوادث وأبرزها لـ سوشانت سينغ راجبوت وسمير شارما، إذ كانا يتمتعان بشهرة واسعة.
اللافت أن المشاهير في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية يعانون الأمرين أيضاً بسبب التنمر الإلكتروني، ولكنهم على عكس نجوم آسيا يجدون أنه من الأفضل لهم الحديث عن مشكلات صحتهم العقلية[RSA2] على الملأ، بل ويسهمون في حملات توعية متكررة بضرورة اللجوء للمراكز المتخصصة لتلقي المساعدة من أجل إنقاذ حياتهم وحياة ذويهم، منهم سيلينا غوميز وأديل وبيت ديفيدسون وجاستن بيبر.
أما عربياً فهناك نجوم كثر كشفوا عن محاولاتهم الانتحار وتلقيهم المساعدة في اللحظات الأخيرة، وذلك بسبب مرورهم بضائقة نفسية حادة ومشكلات أسرية طاحنة، بينهم المغنية شيرين عبد الوهاب، والمذيعة ياسمين الخطيب، والممثل أحمد عزمي، كما كانت الفنانة المعتزلة نجلاء فتحي قد تحدث تفصيلياً عن محاولة انتحارها بسبب صدمتها بعد تدهور الحالة الصحية لابنتها الوحيدة، حين أثنتها والدتها عن هذا القرار، فالمشاهير لديهم أيضاً مشكلاتهم الجمة التي قد تمثل عبئاً هائلاً عليهم، كما أن الرفاهية لا تخاصم أبداً الأزمات النفسية، بل على العكس قد تكون ضمن أحد أسباب التوتر الشديد والارتباك الذي يتراكم بدوره ويتحول إلى ضغوط لا تتحملها النفس.
اندبندنت