هل قضت الـ “سوشيال ميديا” على كتابة اليوميات؟

طلب الأطباء النفسيون في أوقات كثيرة من المترددين على عياداتهم أن يشرعوا في كتابة اليوميات، معتبرين أنها خطوة مهمة في طريق الشفاء من منطلق أنها وسيلة مضمونة لمواجهة النفس من خلال الكتابة بشكل مباشر عن نواقصها وأخطائها، ليتدرب المريض على تفنيد ما يمر به فيمكنه بعد ذلك التخلص مما يؤذي حياته ويسممها، ولكن هذا التصرف على بساطته لا يكون يسيراً على كثيرين، فما أصعب أن يأخذ الإنسان يومياً موعداً مع ذاته ويكون ملزماً بالتدوين حول ما حدث في يومه، مهما كان سلبياً ومحبطاً ومنهزماً.

المتابع لكتب السير الذاتية العربية سوف يجد أن غالبيتها كانت عبارة عن يوميات بسيطة كتبها المشاهير ثم قاموا هم أو غيرهم بتحريرها بعد أعوام لتصدر في مطبوعات وتحقق مبيعات كبيرة فقط لأنه تم تزيينها بعنوان فرعي يؤكد أن ما يقع بين دفتي الكتاب هو من المذكرات الشخصية لفنان أو سياسي أو مفكر ما، وبحسب المتعارف عليه كان تدوين اليوميات قديماً عادة مسلية شائعة وتسهم في تمضية الوقت وتضفي هالة على حياة صاحبها، في زمن لم يكن فيه الإنترنت حاضراً في كل لحظة وكل همسة فيسجل المستخدمون كل كبيرة وصغيرة على الملأ ويشاركونها مع المتابعين، فهل لا يزال لكتابة اليوميات حضور طاغٍ في حياة الناس أم إن تدوينات الـ”سوشيال ميديا” ألغت تلك العادة بشكلها التقليدي؟!

ذكريات عاطفية

من المعروف أن كتابة المذكرات الشخصية أسهمت في إثراء المكتبة العربية بعدد من أعمال السير الذاتية التي ذاع صيتها ومن بينها “يوميات نائب في الأرياف” للأديب توفيق الحكيم و”الأيام” لطه حسين و”الخبز الحافي” لمحمد شكري وكذلك “رأيت رام الله” لمريد البرغوثي، لكنها بالطبع لم تكن حكراً على الأدباء أو المفكرين، وإنما تلك العادة كانت منتشرة بين مختلف الفئات.

تعود ثريا علي بالزمن للوراء حينما كان شغلها الشاغل أن تطلع على الكتيب الذي كانت تخفيه والدتها في مكان غير معلوم بالنسبة إليها وإلى أشقائها، لافتة إلى أنها منذ أن كانت طفلة وهي تشاهد والدتها منهمكة في الكتابة دوماً بأجندة قديمة مستخدمة قلم حبر، ووقتها كانت تصر الأم على ألا يعلم أحد بالمكان الأمين الذي تحتفظ فيه بمذكراتها، على رغم أنها كانت تكتب أمامهم بعض الأشياء بالفعل ولم يكن الأمر سرياً بشكل كامل.

وتتابع ثريا وهي حالياً أم أربعينية “حينما سمحت لي والدتي قبل أعوام قليلة بقراءة يومياتها كنت سعيدة للغاية، سواء بسبب الخط المنمق أو ترتيب وتنسيق الصفحات أو ببعض قصاصات الأقمشة المرتبة بعناية لتفصل بين الأوراق، إذ كانت تكتب حينما تسمح لها الفرصة ولم تتمكن من المتابعة اليومية أبداً، وأكثر ما لفتني أن تلك المذكرات البسيطة أيقظت لدي الحنين لأيام عشتها مع عائلتي فحملت حكايات عن فترات دخول المدرسة والأعياد ولقاءات الأهل وكلها مدونة بالتواريخ، والمضحك أنها تضمنت أيضاً كتابة وصفات الطعام وأطباق الحلويات التي تعرض في برامج التلفزيون”.

جدول المهمات

تلك التفاصيل تقود إلى سؤال أساس وهو هل لا تزال هناك حاجة إلى كتابة اليوميات؟، في ظل قيام نشطاء الـ”سوشيال ميديا” بالتدوين والحكي عن كل ما يدور في بالهم عبر منصات إلكترونية متعددة بل مشاركة هواجسهم وتساؤلاتهم شديدة الخصوصية، وأيضاً تلك المتعلقة بالشأن العام مع الآخرين وكذلك التساؤل حول التدوين الذاتي، بخاصة أن بعضهم لا يزال يفرق بالفعل بين ما يقال عبر مواقع التواصل الاجتماعي وبين ما يجب أن يكون سراً شخصياً.

يرى ماجد عز أن فكرة اليوميات بالنسبة إليه وسيلة لتفريغ الطاقة ووضع يده على بعض المشكلات التي يعانيها، فحينما يكتبها أمامه على ورقة أو على “كي بورد” أو حتى في شكل ملفات صوتية عبر هاتفه الذكي يرى تفاصيل يومه بصورة أوضح، ويكون محظوظاً لو كانت الأحداث سعيدة وتحمل إنجازاً وحافزاً.

وأضاف أنه إذا كانت العكس فإنه يحاول أن يتفادى نقاط ضعفه، ويلفت إلى أنه اكتسب تلك العادة من صديق له أكبر عمراً، فتعلم أن يجد يومياً وقتاً لنفسه ولترسيخ تلك العادة، متابعاً “تدريجاً لم أعد أعرف كيفية تنظيم جدول يومي من دونها، فبخلاف التفصايل الشخصية أستعمل التدوين للتذكير بالمواعيد المهمة ولوضع قائمة بالمهمات الخاصة بي، وبالطبع كان الأمر صعباً للغاية في البداية ولكن في ما بعد أصبح أسلوب حياة”.

دفتر النشاط اليومي

على جانب آخر يفرق متخصص الطب النفسي في جامعة الأزهر هاشم بحري بشكل جذري بين المذكرات أو اليوميات الشخصية وتلك التي تكون خطوة ضمن خطوات العلاج السلوكي النفسي، مشيراً إلى أنه نوع من العلاج الذي يعتمد على تعديل السلوك، وفيه يبحث المعالج عن أصل المشكلة التي يعانيها المريض ونوعها، وبعدها يضع خطة للعلاج ويتفق مع المريض على نقاط عدة في سبيل تنفيذ تلك الخطوات.

واستشهد بحري بالأمثلة قائلاً “إذا كانت الحالة تعاني الكسل وعدم الشعور بالإنجاز مما يسبب لها الشعور بالإحباط، فهنا يلجأ طبيبه إلى وضع خطة للنشاط اليومي طوال ساعات الاستيقاظ، ومن بين الأنشطة كتابة اليوميات، ثم يعود للطبيب مرة أخرى ليراجع معه مدى التزام تلك البنود، وفي حال تنفيذها والوصول إلى مرحلة متقدمة فهذا يعني أن طريق العلاج يسير في الاتجاه الصحيح، وبالعكس إذا كانت هناك انتكاسات فهنا ينبغي النظر فيها وتعديلها مجدداً”.

وتابع بحري أن “دفتر النشاط في تلك الحالة جزء أساس من خطة العلاج وتتم مراجعته بصفة دورية بعكس أي يوميات أخرى التي تكون أشبه بقصة حياة صاحبها ولا تخضع لمراجعة متخصصة من الطب النفسي”، ويرى أنه في سبيل العلاج وتقويم السلوك، ينبغي التعامل حتى مع الذكريات غير السعيدة بطرق مغايرة، مضيفاً “الطب النفسي لا يهدف إلى تعليم النسيان وإنما يقوم على مبدأ التفسير، فعلى سبيل المثال لو اختارت إحدى الفتيات شاباً غير ملائم لها وارتبطت به ثم تسبب في تسميم حياتها، لا ينبغي أن يكون السعي هنا إلى نسيان التجربة وإنما تفسيرها والحديث بطرق مختلفة عن ملابساتها كي لا تكرر الضحية التصرف نفسه مجدداً، وتتوخى الحذر في اختياراتها وهذا ما تساعد فيه اليوميات المكتوبة بشكل دوري”.

تجربة غير سارة

تبدو فكرة كتابة اليوميات بشكل عام وكأن الشخص يحدق في حياته عن قرب ويعيد تدوين تفاصيل يومه سواء كانت سلبية أو إيجابية ويعيشها مرتين، مما يعد بالنسبة إلى كثيرين أمراً قاسياً للغاية ويذكرهم بأمور لا يحبونها ومواقف يريدون الهروب منها لا إعادة تجسيدها بكلمات على ورق أو حتى ملفات على الأجهزة الذكية.

تحكي رشا نوح، وهي طالبة بكلية الآداب، أنها استمعت في ما قبل إلى “بودكاست” كان مقدمه يتغزل بأهمية كتابة المذكرات اليومية وكيف أنها عمل مفيد يسهم في توفير الوقت ويساعد على الإنجاز والتأمل والتعلم من الأخطاء، وبعدها على الفور اشترت دفتراً ملوناً لتشجع نفسها على تنفيذ تلك الطريقة.

وتشرح تجربتها بالقول “أعجبت بالفكرة للغاية وشعرت بأنها ربما تكون بداية لالتزام حضور الدورات التدريبية ومن ثم الدخول في سوق العمل عن طريق تنظيم الوقت والدقة في المواعيد، ولكنني بعد أيام قليلة وجدت نفسي أنشغل بعد ساعات من الكتابة في استدعاء مواقف سيئة مررت بها مثل مشاحنة مع سائق التاكسي أو انتقاد وجهه لي المحاضر، أو خلاف مع الأصدقاء، وأستمر لمدة طويلة في لوم نفسي على تصرفاتي والندم أيضاً على بعض المواقف، فتوقفت على الفور وأدركت أن كتابة المذكرات مهمة ثقيلة لا تصلح للجميع”.

وأوضحت الفتاة الشابة أنها تكتفي بما تكتبه يومياً عبر “فيسبوك” وتعبر من خلال تدويناتها القصيرة عما يدور في بالها ويقلقها سواء حول مستقبلها المهني أو في حياتها العاطفية، مضيفة أنها حتى في أوقات كثيرة لا تفضل العودة لتلك التدوينات لأنها تذكرها بتفاصيل معينة تشعر بحال أفضل من دون أن تسترجعها بكل تأكيد.

ذاكرة الـ “سوشيال ميديا”

تجربة رشا تتوافق مع ما يشعر به بعضهم إزاء خاصية “ذاكرة فيسبوك”، إذ يرسل الموقع الأزرق إلى الحسابات النشطة تنبيهات ليذكرها بتدوينة كتبت قبل أعوام عدة بهدف إعادة مشاركتها، فيجدها كثيرون خاصية مزعجة للغاية وتذكرهم بأمور يودون لو اختفت تماماً من حياتهم، وهناك من يعتبرها ذكرى ساذجة تعبر عن عدم إدراكه وضيق أفقه فيشعر بالندم والغيظ، واللافت أن تلك الخاصية جعلت النسيان الذي يوصف بأنه نعمة، مهمة عصية وشبه مستحيلة بالنسبة إلى كثيرين.

ولا يزال بعضهم يعتبر أن كتابة اليوميات فن يجيدون إتقانه وربما يتعلمون منه إيجابيات كثيرة بينها تدريب الذاكرة على العمل بشكل جيد وأيضاً التخلص من الغضب عن طريق إخراج الطاقة السلبية، بل تحسين الصحة العقلية وتعلم التعبير عن الرأي بطرق ذكية ومتنوعة، وكذلك تخفيف الضعوط النفسية والنظر بعين مختلفة إلى المواقف والتفكير بها بطرق أكثر عقلانية والتعامل معها بطريقة أكثر وعياً.

اندبندنت

مقالات ذات صلة