عبرا: قصة مدينة… منذ الحرب الى سطوع نجم الأسير!
عبرا، عاصمة صيدا. كما الأخيرة هي عاصمة الجنوب وبوابته، فإن عبرا تلك المنطقة، أو “الضيعة” التي تتربع على تلّة مشرفة على المدينة، هي عاصمة صيدا، وبوابتها لأهالي شرقها وجزين بالتحديد. بقدر ما تختلط المسميات التي تطلق عليها، كثر يختصرون اسمها، ويضعونها في خانة اعتبارها أحد أحياء المدينة الكبيرة. ولهذا الخلط، ما هو إيجابي يرتبط بالتماهي والإندماج الإجتماعي، لكنه يصح أكثر لو بقي أهل عبرا القديمة فيها. وما هو سلبي يتصل في اختزال القرية بالمدينة، وإذابة هويتها. تلك الهوية التي سحقت على مراحل تاريخية، وتحديداً منذ الحرب الأهلية، وتهجير شرق صيدا وعبرا ضمناً، حيث تروي محكيات الاهالي، أن القوى المهاجمة دخلت إلى المنازل ونار الطهو مشتعلة؛ واستمر تغريب عبرا وتهجيرها على مدار سنوات تلت.
سكانها وضيوفها
للكثير من أهالي شرق صيدا، حكايات مع عبرا وذوبانها كما هو الحال بالنسبة إلى كثر في ما آلت إليه أحوال صيدا المدينة سياسياً، إجتماعياً، وثقافياً، وكل ما تُسبغ به أو يُلصق بها.
منذ نعومة الأظفار، تعرفنا على عبرا، وهي المدخل الوحيد بالنسبة لأهالي جزين إلى صيدا. وكانت كذلك أيضاً، قبل الإجتياح الإسرائيلي، كما استمرت بعده، قبل الحرب الأهلية والطائفية وبعدها. لكنها انقطعت البلدة كمعبر، منذ أواخر الثمانينيات إلى أن آنت لحظة الإنسحاب الإسرائيلي من جزين وفتحت طريق “كفرفالوس”. كنا في تلك الفترة فتياناً، نقصد صيدا ككل أهالي الريف الذي يقصدون المدينة، وكانت عبرا بوابتهم إليها. ما عرفناه عن البلدة مختلف عن أحوال هذه الأيام، والكلام يعود إلى أواخر التسعينيات وبدايات القرن الحادي والعشرين. شكّلت عبرا نقطة التقاء طائفية ومذهبية في تلك الفترة، بعض من أهالي جزين، وبعض من أهالي الجنوب، والبقاع مكثوا فيها إلى جانب “بعض” من السكان “الأصليين”، لكنها بقيت بلدة لها حيثياتها وتقاليدها، ولها أهلها وسكانها الذين استقبلوا “الآخرين”.
عن جاد وايلي واسقاطات السيرة
بعض مما لا يزال يحتّل الذاكرة في عبرا، هو محل لبيع الأحذية، لأحد الشبان الأصليين من البلدة، يُدعى جاد على ما أذكر، وكان متشبثاً بمحله وأرضه، رفض المغادرة مع طفرة المغادرين. وبالمعنى الواضح والصريح، فإن جاد مسيحي من أهل البلدة، كان محلّه إلى جانب “ملحمة الزهراء” يكفي الإسم للتعرفة إلى الهوية الدينية أو الطائفية، وإلى جانبه أيضاً، معطم لبيع الفول صاحبه صيداوي اتخذ من البلدة مقراً ومسكاً ومورد رزق، وعلى الجهة المقابلة، بائع دجاج شهير “أبو محمد من شبعا”. مثلت عبرا هذا الإختلاط والتنوع لفترة طويلة.
قبل انسحاب الإحتلال الإسرائيلي من قضاء منطقة جزين في المرحلة الأولى، 1998، كان الطريق إلى صيدا عبر الشوف، وليس من بوابة عبرا. ولكن بعد الإنسحاب من كفرفالوس وفتح الطريق، أصبحت البلدة هي المقصد والمعبر إلى المدينة، علماً ان المعبر إليها في بدايات المرحلة الاولى من الإنسحاب لم يكن يسيراً، كان على المرء أن يركن سيارته قبل المعبر، وينتقل إلى المدينة بسيارة أخرى غير مسجلة ضمن نطاق الأراضي المحتلة، ما بعد التحرير، تحولت الطريق العام في عبرا إلى سوق تجاري مفتوح، وبدأ الفرز الجغرافي أو بدأنا نختبره أكثر، بين عبرا الحديثة، وعبرا القديمة أي “الضيعة الأساسية” والتي عاد إليها بعض من أهلها وسكانها. على مدى سنوات، كان إيلي من الرميلة، قد ابتاع محلين تجاريين على الرصيف المحاذي لمسجد بلال بن رباح. هذا المسجد الذي تحول فيما بعد إلى مقرّ سياسي وشبه عسكري للشيخ أحمد الأسير.
كان إيلي يبيع مشروبات روحية، وبعض لوازم الموسيقى. وقد كان محله ملتقى لشبان من صيدا، عبرا، جزين، والرميلة أيضاً. السهرة تقام كل ليلة، ولا تخلو من المشروب والموسيقى، وهو ما أزعج في تلك الفترة، بعض الجماعات من بينهم أهل الدعوة.
وأهل الدعوة هؤلاء لم نكن نعرفهم، نحن في جزين، حتى البلدة الإسلامية السنية الوحيدة في ذلك القضاء واسمها “بنواتي” لم تكن تسمع بأهل الدعوة. وكان مسجد البلدة مغلقاً طوال سنوات طويلة.
حكايا النظام السوري ومخابراته
لكن بعد انسحاب الإحتلال، جذبت تلك البلدة الصغيرة النائية، طرفين. الطرف الاول، هو باعة الكعك على الدراجات النارية، والسجاد سيراً على الأقدام، حيث كان البائع يضع عينة أو اثنتين فوق كتفه ويجول. مثل هؤلاء لم يكونوا معروفين أو معهودين في المنطقة قبل انسحاب الإسرائيليين. فيما بعد تكون انطباع أن باعة الكعك، والسجاد، واللحف وهم من الجنسية السورية، كانوا تابعين للإستخبارات، ربما بغاية الإستطلاع والمعرفة والإستكشاف، وربما بحثاً عن رفاة ضباط وجنود سوريين قد ضحى بهم النظام السوري مع الإجتياح الإسرائيلي للبنان في العام 1982، حيث عمل حافظ الأسد على تبديل الألوية السورية المقاتلة قبل أقل من 24 ساعة من بدء الإجتياح، فسحب قطعات وأتى بأخرى لا تعرف المنطقة ولا جغرافيتها، ولا تعرف مواقعها ومناطق تمركزها، حتى أهل المنطقة ككل والذين يجهلون الأمور العسكرية قد استغربوا الخطوة، فيما دارت مرويات كثيرة في تلك الفترة أن الأسد استبدل اللواء ذات الأكثرية العلوية وبعض الاقليات، بأكثرية سنية من مدن كبرى ومناطق ريفية وكأنه أراد التضحية بهم.
ربما كانت مهمة باعة اللحف والكعك والسجاد البحث عما كان في الماضي، أو ما يمكن أن يكون عليه من نفوذ في المستقبل، وهو نفوذ كان قائماً لدمشق بين العامين 1976 و1982 في جزين ومحيطها ومناطق أوسع. فيما الإستخبارات اللبنانية في تلك الفترة، كانت منشغلة بأمور ذات أهمية أعلى، حول من كان يتردد إلى المنطقة في فترة الإحتلال ولماذا، ومن كان يعاقر خمراً، أو يعاشر امرأة، أو يبني منزلاً ويشيد داراً.
اكتشاف “أهل الدعوة”
بالتزامن مع اكتشافنا لماهية وهوية باعة الكعك واللحف، كان الإكتشاف العظيم لجماعة “أهل الدعوة”. بدأت جموع منهم تتردد إلى تلك البلدة المنسية واسمها “بنواتي”. يأتي هؤلاء بعباءات بيضاء، ولحى تغطي الوجوه. وصلت المجموعة الأولى منهم في فترة الصيف الاول بعد التحرير، وجدوا المسجد مغلقاً، لا آذان يدوي، ولا مؤمن يصلي. جالوا حينها على المنازل، مرّوا بثلاثة منها، فوجدوا فيها “من يلعب الورق”. غادروا لتوّ وصولهم، ولم نكن نعلم أن لعب الورق فيه أمر حرام أو وجب اجتنابه. ذهبوا إلى منزل رابع ولم يكن فيه من يلعب الورق، عبروا عن اطمئنانهم بالقول:” إنه المنزل الأول الذي نزوره في البلدة ولا يتحلق الناس فيه حول طاولة الورق.” رأى الشيخ القائل مجموعة شبان موجودة فأضاف سائلاً:” وأنتم ماذا تفعلون طالما لا تلعبون الورق؟ وهل يمكننا النقاش معكم؟”. جاء الجواب سريعاً على لسان صاحب المكان بالقول:” نحن عم نشيل عرق”. والمقصود بكلمة “نشيل”، هو التقطير، على الطريقة التقليدية القديمة. لم يجد المشايخ جواباً يردون به، غادروا ورؤوسهم تسابق أقدامهم.
لكنهم استمروا بالتردد على البلدة، بدون زيارات، إنما بفتح المسجد والمكوث فيه. ولاستقطاب الأولاد والفتيان، كانوا ياتون في كل مرة محملين، تارة ببعض العطور، وتارة أخرى بحلويات وما يهتم به الأطفال. استجاب لهم بعض الاطفال، وآخرون تمنعوا. لاحقاً أجمع أهل البلدة على رفض التعاطي معهم، دفعوا أولادهم للإحجام عن ذلك، وعن التردد إلى المسجد، ومنعوهم من أخذ أي مأكل ومشرب منهم. واللافت أن هذا الحرم الذي انطبق على هؤلاء، انطبق أيضاً على باعة الكعك واللحف، بعدم الشراء وعدم المفاصلة والمساجلة، لأن ذلك سيدفعهم إلى عدم العودة، وكي لا يكونوا باحثين عن معلومات أو يريدون تحقيق مآرب معينة.
استناداً إلى الفطرة، تفّطن أهل البلدة في عدم التعاطي مع الجانبين، لا سيما ان البلدة كانت وحدها مسلمة في محيط مسيحي، ولو تكاثرت زيارات أهل الدعوة أو غيرهم إليها، ولو وجدوا طريقهم منذ العام 2000 إلى العام 2014 مثلاً، لتغير مسار المنطقة، وحصل ربما مشروع تهجير. وهو مشروع “مدفون” منذ مجزرة العيشية في السبعينيات، والتي ما إن حصلت، حتى وجدت من يعزف على ألحانها في طرح فكرة المقايضة. أي مقابل تهجير بلدة العيشية المسيحية في محيط إسلامي، لا بد من تهجير بنواتي المسلمة في محيط مسيحي، ويجري “الترانسفير” السكاني، علماً أن أهالي المنطقة المسيحيين ولا سيما من جزين وبكاسين هم الذين رفضوا، وتولوا بأنفسهم حراسة البلدة وأهلها، والحفاظ عليها، وهو ما عززه الالتقاء السياسي بين كمال جنبلاط وجان عزيز. وهذا المشروع الذي دفن كان قابلاً للتكرار مع موجة الترانسفير في سوريا، والتي خلالها أيضاً برز نجم أحمد الأسير، واختزل عبرا وأهلها وأحوالها.
مرحلة الأسير
قبل سطوع نجم الأسير على صعيد لبنان، وعلى صعيد محيط صيدا أيضاً، كان الرجل معروفاً في صيدا وعبرا، وبدأت ممارسات التضييق على أهل البلدة الأصليين. كانت الإدعاءات بضرورة مواجهة حزب الله، والتشيّع، فيما على مقلب الحزب كان التركيز على مواجهة التطرف الإسلامي السنّي. وحاول الحزب استقطاب يساريين وشيوعيين سابقين من الذين أقاموا في عبرا، بعضهم استجاب وبعضهم الآخر تمنّع. توسع الأسير في محيط مسجده، سعى إلى التشبه بحزب الله فأسمى المنطقة المحيطة بـ”المربع الأمني” تيمناً بمربع حزب الله الأمني في حارة حريك.
وكي يستقيم المربع، لا بد من إزالة “محل إيلي” للمشروبات الروحية، وهي عملية بدأت بالتشويش على الشبان الذين يترددون عليه، بعدها تطور المسار في تكسير الزجاج، أو إلقاء زجاجات حارقة، وصولاً إلى التكسير والتهديد بالمباشر، ما دفع بالرجل إلى المغادرة. علماً أنه لم يبع ملكه، بل تركه فسيطروا عليه.
غادر إيلي محله، وانفضت المجموعات التي كانت تتردد على البلدة، وسُلب جانب من هوية تلك القرية، التي تحولت إلى مدينة، أو ضاحية استراتيجية لمدينة هي بوابة الجنوب. غادر إيلي، كما جاد صاحب محل الأحذية، وبعدها انتهى الأسير بعملية عسكرية، فبقيت ملحمة الزهراء، وأبو محمد شبعا، فيهما بعض من ذكريات نسيج ومنطقة، لكنها تذوي وتنزوي ويراد لها أن تمحى.
منير الربيع- المدن