كمال جنبلاط تقمّص في السويداء: “علّوا علّوا هالرايات معلمنا بعده ما مات”!
بعد 46 سنة عاد كمال جنبلاط معلّماً وملهماً وقائداً إلى سوريا. اغتالوا جسده على مفرق “دير دوريت” في الشوف فبقيت روحه مرفرفة عند كلّ المفارق السياسية، وفي مقدّمة كلّ التظاهرات الشعبية يردّد أنصاره صارخين: “علّوا علّوا هالرايات معلمنا بعده ما مات”.
في 16 آذار من عام 1977 وأثناء خروج جنبلاط من بيته في المختارة إلى بيروت، استُهدف بإطلاق نار أدّى إلى مقتله على الفور. تفاصيل تلك الحادثة كشفت عنها وثائق التحقيق الجنائي، التي أظهرت اعتراض سيارة من نوع “بونتياك” سيارة جنبلاط في محاولة لاختطافه، لكنّهم فشلوا فأطلقوا النار عليه من الخلف. بعدها، حاول الجناة الفرار من المكان لكنّهم فوجئوا بتعطّل سيارتهم فسرقوا سيارة لبناني يدعى سليم حداد، ثمّ توجّهوا بها إلى مكتب تابع للمخابرات السورية كان يديره آنذاك النقيب إبراهيم الحويجي، الذي تمّ تعيينه قائداً للمخابرات الجوّية بعد ترفيعه إلى رتبة لواء.
في 23 أيلول 2023 ظهر كمال جنبلاط بساحة مدينة السويداء في سوريا، حيث أبناء بني معروف من أهالي السويداء ودرعا. حملوا صورته عالياً بالأبيض والأسود وبكلّ الألوان بعدما أقفلوا مقرّ حزب البعث في المدينة طاردين كلّ شبّيح وعميل معلنين استلهام فكر المعلّم ومسيرته لاستكمال مسيرة نضالهم من أجل الحرّية والعدالة بوجه نظام بشار الأسد.
قالها كمال جنبلاط: “لم نعد وحدنا في العالم إنّما المطلوب هو الصمود”. لم يكن قوله مجرّد جملة خطابية شعبوية، بقدر ما كان نبوءة رجل متبصّر يعرف ما يريد وإلى أين يريد أن يصل. حذّره كثيرون في الداخل والخارج من البقاء في لبنان خوفاً على حياته كما حذّروا غيره من القيادات اللبنانية السيادية، فغادر ريمون إدّه وصائب سلام وتقيّ الدين الصلح، لكنّ كمال جنبلاط فضّل البقاء والصمود. فما اعتاد أن يفعل ما لا يقول وهو المؤمن بالقدرية وتقمّص الروح، فكيف إن كانت هذه الروح هي روحه التي تأبى أن تتقمّص إلا بشخصه، فعاد بعد كلّ تلك السنوات إلى ساحات النضال والكفاح ليقود ثورة السويداء أمل الشعب السوري المتجدّد بالتغيير.
تحدّث مشايخ العقل في السويداء عن قرار المواجهة حتى النهاية، فأطلقوا على حراكهم اسم “الجهاد”. حاول البعض في لبنان وسوريا التشكيك والتقليل من أهميّة ما يحصل هناك. فإذا بكرة الثلج تكبر، وبصدى ثوّار السويداء تتقدّمهم صورة كمال جنبلاط يصل عنان الفضاء وعواصم القرار عند العرب والعجم، وفي ذلك ألف رسالة ورسالة.
مخطئ من يقرأ حراك نجل المعلّم وليد كمال جنبلاط بعيداً عمّا يحصل في السويداء. الرجل ملبوس بهمّ بني معروف الذين هم الثوابت في سياساته والباقي كلّه تحوّلات ومتغيّرات. يدرك تماماً أنّ ما يحصل في السويداء ليس احتجاجاً على رغيف، ولا على صفيحة مازوت. بل هو ثورة من داخل بنية النظام قادرة على تغيير المعادلات ومشاريع التسويات وإحياء أنظمة من المفترض أن تكون من الأموات. هو يسعى إلى التهدئة. في الداخل اللبناني يطرح التساؤلات التي تزعج البعض في كثير من الأحيان إلا أنّه ينظر إلى حيث لا ينظر الآخرون، ينظر إلى ما يمكن أن يساعد حراك السويداء. بنظره الاستقرار في لبنان من شأنه أن يسلّط الأضواء على ما يحصل هناك وأن يجعل العالم متبصّراً بما يجب أن يُفعل كي يعيش الناس في جبل الشيخ بكرامة وعدالة بعيداً عن الاستبداد.
في السويداء ثورة لا يظننّ أحد أن لا علاقة لنا بها في لبنان. علينا استذكار ما قاله الشهيد سمير قصير: “الحرّية هي حقّ للشعب السوري كما هي حقّ للّبنانيين… ولا أمل بمستقبل مضمون للبنان، إلّا بحرّيّة الشعب السوري”. التحوّلات في جبل الشيخ قادرة على أن تصنع المستحيلات دائماً. وليد جنبلاط حاضر يقظ في الاستحقاقات، يقرأ جيّداً ما يحصل في الخارج، ويعتقد كثيراً أنّ ما يحصل في الداخل اللبناني تفصيل صغير في هذه المعادلات.
كمال جنبلاط عاد حيّاً في السويداء وعادت لحظة النضال إلى بداياتها وإن غاب عنها جورج حاوي ومحسن إبراهيم وأنور الفطايري وقوافل كبيرة من الشهداء.
زياد عيتاني- اساس