ما سبب تقاعس الفيسبوك عن مظاهرات السويداء وحذف الفيديوهات؟

“المدن” تستقصي الحذف المستمر لفيديوهات السويداء..وتقاعس “فايسبوك” عن التوضيح

بعد نحو شهرين على انطلاقة الاحتجاجات في محافظة السويداء، جنوبي سوريا، مازال موقع “فايسبوك” يواجه اتهامات يومية بحذف مقاطع الفيديو المتعلقة بالمظاهرات التي تطالب بالتغيير السياسي وإسقاط النظام السوري، بشكل لا يثير فقط مخاوف بشأن حرية التعبير ونقل الحقيقة في المنصة، بل يتجاوز ذلك نحو أسئلة تتكرر منذ سنوات عن علاقة إدارة “فايسبوك” الإقليمية بالحكومات في المنطقة.

وفي آب/أغسطس الماضي، بدأ ناشطون سوريون بنشر صور لرسائل تصلهم من “فايسبوك” وتفيد بتقييد حساباتهم أو بحذف محتوى كانوا شاركوه في صفحاتهم للاحتجاجات في السويداء، تحت ذرائع مختلفة، منها “حقوق الملكية الفكرية”، رغم أن فيديوهات من هذا النوع تبقى عامة ولا يمكن لجهة ما أن تدعي امتلاكها أسوةً بأغنية أو مقطع من مسلسل أو فيلم سينمائي على سبيل المثال. علماً أن الموضوع لم يقتصر على السويداء، بل تكرر، وإن بدرجة أقل، مع ناشطي الساحل السوري ممن رفعوا أصواتهم ضد النظام في الآونة الأخيرة أيضاً.

وقال الناشط والصحافي ريان معروف، رئيس تحرير صفحة “السويداء 24” في فايسبوك والتي تغطي الاحتجاجات بشكل يومي، في حديث مع “المدن”: “منذ العام 2020، وحتى بداية التظاهرات الأخيرة في السويداء، هناك العديد من البلاغات الكاذبة التي تُقدم ضدنا إلى فايسبوك، وتقوم خوارزمية الموقع بحذف فيديوهات لمظاهرات، والحجة هي حقوق الملكية الفكرية للفيديوهات، رغم أن تلك الفيديوهات مصورة من قبل فريقنا، ونحن فقط نملك الحقوق الأصلية للفيديو”.

وأكمل معروف أنه “في منتصف العام 2020 عملت شركة تحمل اسم يلا ميديا على حذف مشاهد الفيديو التي نصورها وننشرها، من خلال ادعائها امتلاك حق الملكية، وتمكنّا حينها من استعادة مشاهد الفيديو بعد تقديم طعن لشركة فايسبوك. وعادت المشكلة نفسها العام 2023 بعد انطلاق المظاهرات التي نغطيها بشكل يومي، فحذفت ستة مقاطع فيديو دفعة واحدة، رغم أنها من تصوير مراسلينا، بحجة حقوق الملكية، وللأسف لم نتمكن من استعادة المشاهد المحذوفة حتى الآن”، موضحاً أن “فايسبوك يطلب روابطها لتقديم البلاغ، رغم أنه أزال المَشاهد عن صفحتنا وبالتالي لم تعد تتوافر روابط لها”.

إلى ذلك، أوضح القائمون على منظمة “الأرشيف السوري” التي تتخذ من العاصمة الألمانية برلين مقراً لها، أن عدداً من مستخدمي “فايسبوك” في السويداء أبلغوا بأن “منشوراتهم التي تظهر الحراك المدني يتم حذفها من صفحاتهم لأسباب غير مقنعة، مثل انتهاك معايير المنصة، بينما واجه عدد من المستخدمين عمليات حذف لمقاطع فيديو للمظاهرات الأخيرة في سوريا بسبب بلاغات من أشخاص بزعم “حقوق الملكية” تحديداً.

وقال القائمون على المنظمة في حديث مع “المدن”: “رغم ذلك قامت شركة فايسبوك بإلغاء قرار حذف بعض المقاطع واختفت الحسابات التي زعمت الملكية لاحقاً”، مضيفين أنه “من الصعب معرفة مَن يقف وراء الحذف، لكن حسبما أخبرنا شركاؤنا، فإن أسماء الحسابات التي قدمت طلبات الحذف بسبب انتهاك معايير الملكية، تبدو مختلفة عن الحادثة المشابهة العام 2020”.

وبحسب معروف، فإن الحذف حالياً يقتصر على منصة “فايسبوك” ولم يتمدد إلى المنصات الأخرى التي تنشط فيها صفحة “السويداء 24″، علماً أن مواقع مثل “يوتيوب” حذفت في السابق مئات آلاف مقاطع الفيديو الخاصة بالثورة السورية. وأكمل معروف أن الحملة التي تتعرض لها الصفحة تأتي من شركات مرخصة تتعلق بحقوق الملكية، وأيضاً من بوتات وذباب الكتروني، تنتشر بشكل كثيف ويومي في التبليغات والتعليقات المسيئة والطائفية.

وما يحدث اليوم ليس جديداً بل كان حاضراً العام 2020 عندما كانت المحافظة الجنوبية تشهد مظاهرات تحت شعار “بدنا نعيش”، وحينها كانت شركة الإنتاج “Yala Media Network” التي يمتلكها موالون للنظام السوري تدعي امتلاك حقوق النشر. وقامت الشركة بحسب صحافيين سوريين حينها بـ”تزوير شهادات ملكية للفيديوهات التي يتم تصويرها من قبل ناشطي السويداء وإرفاقها مع الفيديوهات بعد رفعها على لوحة تمنحها فايسبوك لشركات الانتاج الفني، لتطلب من فايسبوك حظر نشر المحتوى الذي تدّعي ملكيته، أينما نشر، باستخدام تقنية الذكاء الاصطناعي”.

وفي مقارنة بين الحملة التي تتعرض لها الصفحة اليوم وما حدث العام 2020، رأى معروف أن الهجمة اليوم أكبر من أي وقت مضى. وأوضح: “هناك حملة إلكترونية ممنهجة ضدنا، بلاغات كثيفة ومحاولات اختراق وتركيز كبير من الجيش السوري الإلكتروني على ما يبدو، إذ تنتشر يومياً عشرات التعليقات المسيئة من حسابات تحمل أسماء وهمية”.

بدورهم، أوضح القائمون على “الأرشيف السوري” أن “الأمر مختلف قليلاً الآن” لأن هناك استهدافاً لأكثر من خمس صفحات في “فايسبوك” تنشر عشرات المنشورات ومقاطع الفيديو عن الحراك المدني يومياً. بينما في العام 2020 “تم حذف عدد أقل من المقاطع مقارنة بموجة التقييد والحذف الحالية”. وعليه، “هناك اليوم محاولة للتركيز على تقييد كل ما ينشر عن الاحتجاجات في المحافظة بشكل دائم، خصوصاً بعد يوم الجمعة، إذ اشتكت صفحات عديدة من التقييد بسبب البلاغات بعد انتهاء المظاهرة المركزية”.

ومنذ سنوات يشير ناشطون وصحافيون سوريون معارضون إلى وجود اختراق لشركة “فايسبوك” من طرف الجيش الإلكتروني التابع لنظام الأسد، حيث يتهم معارضو النظام، المدير الإقليمي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في “فايسبوك” فارس عقاد، بالتبعية للنظام السوري منذ سنوات، ما يطرح أسئلة حول علاقات شركات التكنولوجيا بالحكومات في منطقة الشرق الأوسط عموماً.

وعلق معروف: “ليس لديّ عِلم أبداً بطريقة إدارة فايسبوك، أو مدى تأثير مكتب الشرق الأوسط في سياسة الموقع، لكن التساهل مع هذا النوع من الحملات الالكترونية المنظمة، يهدف إلى تقييد حرية التعبير، في بلد يحكمه نظام ديكتاتوري قمعي”.

وهنا، شرحت منظمة “الأرشيف السوري” كيفية عمل “فايسبوك” في هذا الإطار: “يقوم فايسبوك بإزالة المحتوى بعد وضع علامة عليه تشير إلى أنه مؤذٍ أو يخالف معايير النشر، أو بشكل أساسي من خلال التعلم الآلي لإزالة المحتوى الذي قد يكون ضاراً على نطاق واسع”، رغم أن الضرر المزعوم لا ينطبق بأي شكل من الأشكال على فيديوهت السويداء المستهدفة الآن.

ورأت المنظمة أن المشكلة تكمن في أن “الخوارزمية المستخدمة ضبابية. وكثير من المحتوى المحذوف ليس مؤذياً ولا ينتهك إرشادات المجتمع. ويمكن للمستخدمين استئناف هذه العملية لاستعادة المحتوى المحذوف، لكن الأمر قد يستغرق الأمر وقتاً طويلاً. ولدى فايسبوك برنامج إبلاغ موثوق يمكن لمنظمات المجتمع المدني المسجلة والمعتمدة استخدامه للإبلاغ عن المحتوى الذي قد يكون ضاراً/مخالفاً لإزالته”.

وأوضحت المنظمة أنها ومنظمتها الأم “Mnemonic” في الواقع جزء من هذا البرنامج. “وإحدى الطرق التي نحاول استخدامها هي وضع علامة على المحتوى لاستعادته”، وبخصوص السويداء فإن “تجربتنا الحالية هي أنهم في فايسبوك يستجيبون ببطء شديد أو لا يستجيبون على الإطلاق. تواصلنا مع شركة ميتا، مطلع شهر أيلول/سبتمبر الجاري، بشأن الوضع في السويداء، لكننا لم نتلق أي رد حتى الآن على الرغم من المتابعة المتواصلة”.

يترك ذلك الناشطين والصحافيين في موقف صعب عند تغطية أحداث لا توجد وسائل إعلام أصلاً لتغطيتها. فالإعلام الرسمي في البلاد يعتبر إعلاماً تابعاً للسلطة ولم يشر لوجود احتجاجات في المحافظة طوال الشهرين الماضيين أصلاً، أما الإعلام المستقل فلا وجود له بعدما طُرد الإعلام الأجنبي بُعيد انطلاقة الثورة السورية مع اتهامه بـ”فبركة الأحداث” من قبل النظام السوري. ولا يبقى إلا صحافة المواطن وجهود الناشطين.

وكان استخدام الفيديو المصور بالهواتف المحمولة، ملازماً لمسار الثورة السورية منذ أيام الاحتجاجات السلمية التي اندلعت العام 2011 ضد حكم بشار الأسد. وتم توثيق المظاهرات السلمية والاحتجاجات كما يحصل تماماً اليوم في السويداء، قبل أن يتحول استخدام الفيديو لاحقاً لتصوير الصراع الدموي، بما في ذلك توثيق آثار الهجمات بالأسلحة الكيماوية أو إنقاذ الأطفال من قبل رجال الإنقاذ بعد الغارات بالجوية ومقاطع التعذيب وغيرها. وفيما يستخدم الناشطون المعارضون الفيديو لإيصال الحقيقة عما يجري، يستخدم الموالون للنظام السوري الفيديو بدورهم لبث البروباغندا.

وشرح معروف تجربته: “موضوع الحذف مزعج ومحبط، خصوصاً أننا لم نرتكب أي مخالفة لقواعد المجتمع الخاصة بفايسبوك، لكن ذلك لن يؤثر في استمرارية عملنا، ونحن نسعى بكل الوسائل المتاحة لاستعادة الفيديوهات، والاستمرار في نشاطنا الصحافي”.

وبالطبع فإن عمليات الحذف المماثلة لها تأثيرات مختلفة، خصوصاً في مجال النشاط الحقوقي الخاص بملاحقة الجناة عند توثيق أعمال عنف وانتهاكات لحقوق الإنسان، وإن كانت السويداء تجنبت حتى اللحظة تصعيداً أمنياً، فإن حذف الصور والفيديوهات في السابق أضر بعمليات ملاحقة المسؤولين عن انتهاكات حقوقية في سوريا، كما أنه ساهم في ترسيخ السردية الرسمية عن الثورة في البلاد، بالقول أنه لا أدلة حقيقية توثق حدوثها.

وأوضح القائمون على “الأرشيف السوري” أن المحتوى الذي يوثق انتهاكات حقوق الإنسان في وسائل التواصل الاجتماعي، بالغ الأهمية في تحقيق جهود العدالة والمساءلة، خصوصاً في فترة يُعتبر الوصول فيها إلى سوريا على الأرض محدوداً. لذلك فإن حذف المواد التي لا تنتهك معايير المنصات، يؤدي إلى إسكات الناشطين الذين يعملون على التوثيق على الأرض رغم المخاطر المحيطة بهم، ويحذف مواد مهمة قد تكون الدليل الوحيد على ارتكاب جُرم. الأمر الذي يعرقل جهود العدالة والمساءلة، ويعيق سير التحقيقات في مجال حقوق الإنسان.

والحال أن المنظمة أنشئت العام 2014 على يد الصحافي والناشط الحقوقي هادي الخطيب الذي أدرجته مجلة “تايم” الأميركية ضمن لائحتها لأكثر 100 شخصية صاعدة ومؤثرة في العالم خلال العام 2021. وعملت المنظمة على أرشفة وتوثيق مواد حساسة تظهر هجمات على منشآت طبية، وقصف بالبراميل المتفجرة، وغيرها من جرائم الحرب، علماً أن مدافعين آخرين عن حقوق الإنسان استخدموا في وقت سابق، بعض مقاطع الفيديو من الأرشيف المتوفر كمصدر مفتوح، لرفع دعاوى جنائية ضد نظام الأسد، في هجمات نفذها بغاز السارين خلال العامين 2013 و2017، قتل فيها أكثر من 1400 شخص.

وقال القائمون على منظمة “الأرشيف السوري” أنها تقوم “بجمع وحفظ أكبر قدر من المحتوى عن الحرب في سوريا. ويبلغ عددها حالياً نحو خمسة ملايين ومئتي ألف مادة، خصوصاً من المناطق التي تشهد تطورات، كحالة السويداء اليوم، في سعي لحفظ المحتوى الموثق لانتهاكات حقوق الإنسان لاستخدامه لاحقاً في جهود المساءلة والمحاسبة”.

وأكملوا: “لكن عمليات إدارة المحتوى التلقائية وحملات التبليغ الممنهجة تجعلنا في سباق مع الزمن للحفاظ على المحتوى قبل حذفه. وهو أمر ينطبق على الحراك في السويداء، حيث يرصد الباحثون ما يُنشر في مختلف المنصات بشكل يومي ﻷرشفته قبل الحذف. كما يتواصل الأرشيف السوري والمنظمة الأم Mnemonic مع شركات التواصل الاجتماعي لاستعادة المحتوى المهم”.

وتنصح منظمة “الأرشيف السوري” دائماً بعدم الاعتماد على منصة واحدة ونشر المحتوى في منصات متعددة، لأن “لكل منصة سياسة محتوى مختلفة، ما يزيد من احتمالية بقائه في واحدة من هذه المنصات على الأقل. بالإضافة إلى ذلك، لا يجب التعامل مع وسائل التواصل الاجتماعي كمكان آمن لحفظ المحتوى، إذ فُقدت سابقاً مئات الآلاف من مقاطع الفيديو من دون وجود نسخ أصلية لدى الموثّقين”، ما يجعل من الضروري “حفظ نسخ احتياطية، إن أمكن، وبشكل آمن، لتجنب فقدانها كلياً في حال حذفها من المنصات”.

ويبدو أن معروف يعمل بتلك النصيحة جيداً، إذ أكد أن هناك أرشيفاً منفصلاً خاصاً بصفحة “السويداء 24” من أجل الحفاظ عليه من أي عمليات استهداف محتملة.

المدن

مقالات ذات صلة