لكي تستحقّ المعارضة اسمها…عند اقتراب لحظة الصفقة الكبرى!

أصبح إحصاء عدد زيارات الموفد الرئاسي الفرنسي للبنان يحتاج إلى بحث على محرّك “غوغل”، وكذلك زيارات الموفد القطري الذي يُجري لقاءاته بلا ضوضاء إعلامية كأنّه في مهمّة سريّة. أمّا زيارات الموفدين الأميركيّين العسكريين والمدنيين فهي قليلة نسبياً، وبالأخصّ آموس هوكستين الذي ترتبط زياراته بملفّات “عمليّة” متّصلة أساساً بترسيم الحدود البحرية والبرّية مع إسرائيل، لكن مع ذلك تأخذ طابعاً رئاسياً أكثر من زيارات الموفدين الآخرين.

الواقع أنّ حركة المبعوثين الدوليين والعرب إلى بيروت أصبحت روتينية تماماً كما أصبحت الأزمة التي يسعون إلى حلّها روتينية هي الأخرى، كما لو أنّ هؤلاء الموفدين تأقلموا كما البلد مع الفراغ الرئاسي، فإذا استطاع لبنان تحمّله عشرة أشهر، فلماذا يعجز عن تحمّله سنة وربّما سنتين، خصوصاً أنّها ليست المرّة الأولى ولن تكون الأخيرة؟

بيد أنّ تراجع الاكتراث اللبناني الداخلي بزيارات الموفدين الخارجيين، لا يعني أنّ ثمّة قناعة داخلية متزايدة بأنّ الحلّ هو داخلي بامتياز، كما يقول الحزب. فكلّما استطال أمد الفراغ أصبح الحلّ خارجياً أكثر، بل إنّ حصول الفراغ نفسه ليس سوى دليل على استحالة الحلّ الداخلي. والمفارقة أنّ الحزب الذي يدعو في الليل والنهار إلى الحوار بين الأفرقاء السياسيين، والذي لا يفوّت فرصة لمعارضة التدخّل الخارجي في لبنان، لا يريد عمليّاً سوى أن يكون هذا التدخّل لمصلحته.

استدراج الخارج
من الجليّ أنّ استراتيجية الحزب الرئاسية قائمة منذ اللحظة الأولى على استدراج “الخارج” إلى لبنان، وبالتحديد أميركا، من ضمن البازار المفتوح بين واشنطن وطهران في عموم المنطقة. فلماذا يُستثنى لبنان من هذا البازار المُربح لإيران وحلفائها، الذين لا يفعلون شيئاً آخرَ سوى الاستعداد للّحظة التي يُفتح فيها هذا البازار، فيكونون جاهزين لاقتناص الفرص الثمينة بعد أن يكونوا قد أضاعوا كلّ الفرص على البلدان التي يفرضون فيها أمراً واقعاً فوق رؤوس الجميع؟

لقد ذكّرتنا السويداء السورية بهذا الواقع المرير، على الرغم من كلّ محاولات محور الممانعة وأزلامه في لبنان التحايل عليه بالشعارات الوطنية المزيّفة، لكنّ الحقيقة أنّ هذه الشعارات كانت تُطلق بالتزامن مع إطلاق الرصاص على المحتجّين، ولا شيء أكثر دلالة من ذلك على حقيقة الوضع وزيف تلك الشعارات.

في لبنان ليس من رفض شعبي للواقع المفروض قسراً على اللبنانيين، كما يحصل في السويداء. لكنّ الشعارات الوطنية المزيّفة موجودة بكثرة، وفي مقدّمها الحوار الوطني، الذي هو في الواقع حوار إقصائي الغاية منه تعطيل قدرة قوى سياسية رئيسية على التأثير في مجرى الانتخابات، وكلّ ذلك ليتمكّن الحزب من انتخاب رئيس يواليه في القضايا “الاستراتيجية”، بينما يمكن أن يختلف معه، مثلاً، على كيفية معالجة أزمة النفايات، بإنشاء المحارق أو المطامر.

تعذّر تكرار تسوية 2016
الواقع أنّ هذه الدعوة الملحاحة إلى الحوار من جانب الحزب ليست أبداً بديلاً لديه من التدخّل الخارجي لانتخاب رئيس للجمهورية، بل على العكس تماماً هو يريد الحوار لأنّه يسهّل التدخّل الخارجي، الذي سيأتي في نهاية المطاف على شكل صفقة مع الأميركيين. فنجاح الحوار يساعد في إعداد أرضية داخلية مؤاتية لترجمة أيّ صفقة بين الحزب ومن ورائه إيران مع “الخارج”، خصوصاً أنّ تشرذم المجلس النيابي وعدم قدرة الحزب على إيصال مرشّحه يستدعيان العمل من قبله على إبرام تسويات داخلية يتمّ لاحقاً إسقاط “التسوية الكبرى” عليها، لأنه يتعذّر إسقاطها على واقع داخلي متأزّم إلى هذا الحدّ. لكنّ حلفاء الحزب في المقابل، وفي مقدّمهم جبران باسيل، ينتظرون هم أيضاً مكاسب من التسويات الداخلية الصغرى و/أو من الصفقة الكبرى مع واشنطن، والأمران أصبحا متلازمين، ولذلك ما يزال الحلّ عالقاً لأنّ خريطة المكاسب الداخلية والخارجية للّاعبين لم تتّضح بعد.

وما يزيد الوضع تعقيداً أنّ تكرار تسوية شبيهة بتسوية عام 2016، شبه مستحيل، لأنّ الحزب نفسه لا يريدها لأنّها ستأتي برئيس يواليه، لكنّه سيظلّ مكبّلاً ومن دون غطاء خارجي، وهو ما يعيد إنتاج تجربة عهد الرئيس ميشال عون المأساوية. ولا يستطيع جبران باسيل هذه المرّة أن “يساير” الحزب كما في السابق، في ظلّ المناخ المسيحي المتشدّد ضدّه الذي يحمّله مسؤولية الانهيار الذي أصبح المسيحيون ينظرون إليه على أنّه تهديد وجودي لهم.

ماذا ستفعل المعارضة؟
لكنّ السؤال: ماذا ستفعل المعارضة عند اقتراب لحظة الصفقة الكبرى وملحقاتها السياسية والماليّة؟ المشكلة الرئيسية لم تعُد في الفراغ الرئاسي بل في أسبابه، وبالتالي فإنّ انتخاب رئيس لن يعالج هذه المرّة أيضاً أسباب الأزمة البنيوية التي يعاني منها لبنان، وقد تفاقمت إلى حدود أصبح معها القبول بـ “تمرير المرحلة” كيفما اتُّفق جريمة بحقّ لبنان واللبنانيين.

إذّاك سيكون رفض المعارضة، وهي الآن النظير اللبناني لحراك السويداء، للحوار كما هو معروض وفي ظلّ الوضع الراهن، موقفاً سياسياً “طبيعياً” ومحقّاً، ما دام الحزب غير مستعدّ لتقديم أيّ تنازل جدّي. فهو يبني مشروعه الداخلي على حسابات خارجية متّصلة بالمشروع الإيراني في المنطقة، ولذلك فإنّ تصوره للتسوية هو من ضمن قالب مشروعه الإقليمي، وبالتالي فإنّ توقيتها مرهون بالأولويات الإيرانية لا بالأولويات اللبنانية، وفي مقدَّمها البدء بمسار سياسي واقتصادي جديد يمكن أن يُخرج لبنان من أزمته التي تقضي عليه.

إذا كانت المشكلة في انتفاء القدرة على دفع الحزب إلى التنازل عن مشروعه الذي لم يعد البلد قادراً على تحمّله أكثر، وذلك قبل تنازله عن مرشّحه، فإنّ المشكلة الكبرى ستكون في غياب المعارضة، لأنّ وجود المعارضة الرافضة للواقع السياسي الحالي، أصبح الدليل الوحيد على بقاء البلد على قيد الحياة سياسياً بعد موته اقتصادياً واجتماعياً.

لذلك لا يمكن أن يكون رفض المعارضة للحوار تكتيكاً سياسياً وحسب، بل يجب أن يعبّر عن استراتيجية لرفض الأمر الواقع الذي يفرضه الحزب، وهذا يؤدّي حتماً إلى رفض أيّ تسوية تعيد تكريسه. فالمعارضة إن لم تكن مستعدّة للبقاء خارج تسوية كهذه فهي لا تستحقّ اسمها قبل أن تستحقّ ثقة اللبنانيين!

ايلي القصيفي- اساس

مقالات ذات صلة