متّهَمو “النافعة” يعودون إليها سالمين…على وقع الزغاريد وقرع الطبول !
«الله معك يا أيمن». على وقع الزغاريد وقرع الطبول وأزيز الرصاص خرج رئيس مصلحة تسجيل السيارات والآليات، أيمن عبد الغفور، من السجن الشهر الماضي بعد أن دخله متّهَماً في ملف «النافعة». وبثقة وثبات، تقدّم بطلب العودة إلى منصبه تزامناً مع قرار شركة «إنكربت» إعادة فتح الأبواب هناك. ثم بدون سابق إنذار أو أسباب موجبة، قرّر وزير الداخلية، توازياً، نقل مهام رئاسة المصلحة من العميد علي طه إلى العميد خالد يوسف. هكذا هي «النافعة». صورة مصغّرة عن بلدٍ يَصغر الأمل بتغييره…
مشهد استقبال أمام منزله محمولاً على الأكتاف، رغم تراكُم ملفات الفساد والمخالفات حول منصبه السابق (والمستقبلي؟)، ليس جديداً على اللبنانيين. وداع حاكم المركزي، رياض سلامة، بالأرزّ والورود وهو المشرف المركزي على «تطيير» أموال الناس – وربما البلد – مثال. والاستقبال الحار لمدير عام الجمارك، بدري ضاهر، ومتّهمين آخرين في جريمة المرفأ بعد إطلاق سراحهم مثال ثانٍ. وثمة ثالثٌ ورابعٌ والعدّاد لا يتوقّف. «النافعة» وحكاياتها هي موضوعنا. لكن ما سِرّ هذه الحالات في بلدٍ فساده كثيرٌ وفاسدوه مجهَّلون؟
«بطولة» وخنوع…
الدكتورة في عِلم الاجتماع، عايدة الخطيب، تفسّر الظاهرة بالقول: «إنه زمن تكريم الفساد وتأليه الفاسدين، حيث تَحوّل الفساد في المجتمع العربي عامة، وفي لبنان خصوصاً، من حالة جزائية إجرامية يعاقِب عليها القانون إلى وجهة نظر وبطولة و»شطارة». فتضارُب المصالح وتداخُل العصبيات والطوائف حوّلا الفاسد من مجرم وجبت معاقبته بصرامة إلى منقذٍ للوطن»، مطالِبة بإعادة كتاب التربية الوطنية إلى المناهج التربوية. «بالعِلم والتوعية الاجتماعية وحدهما يمكننا استعادة احترام القانون وتطبيق نظرية «الثواب والعقاب» عملياً… فهي الوحيدة القادرة على ضبط الفلَتان الأخلاقي والاجتماعي الذي يتخبّط به المجتمع».
من ناحيتها، تشير الدكتورة في عِلم النفس، ديزيري القزي، الى أن الشعوب، عبر الزمن، اعتادت على الخوف من كل مستبدّ يحكمها وعلى تبرير أفعاله الخاطئة، ما يفسّر أساليب الدفاع المستخدَمة من أجل الاستمرار في تقبّله وتقبّل هفواته. ولفتت إلى أن طُرق التصرّف تختلف بين شخص وآخر ويعود ذلك أولاً إلى مدى استفادة الفرد من «الزعيم» وطبيعة علاقته به، وثانياً إلى نوع التربية النفسية التي تلقّاها في طفولته والتي جعلته ربما يعتاد على الشخصية المتسلّطة والخضوع أمامها».
تعيين غير قانونيّ
على أي حال، نترك عِلمَي النفس والاجتماع جانباً ونعود إلى «النافعة». نستفسر من المحامي علي عباس عن مدى قانونية طلب عبد الغفور العودة إلى وظيفته وكأن شيئاً لم يكن. فعاد وذكّر، في اتصال مع»نداء الوطن»، بأن تعيين الأخير منذ البداية كرئيس لمصلحة تسجيل السيارات بموجب مذكّرة صادرة مباشرة عن وزير الداخلية آنذاك، نهاد المشنوق، كان غير قانوني، إذ كان يُفترض أن يتمّ عن طريق مدير عام هيئة إدارة السير، هدى سلوم. «طرحنا ذلك في معرض الدعاوى التي رفعناها ضدّه في مجلس شورى الدولة، وطعنّا بقرار تعيينه، فما كان من سلوم، وبإيعاز من المشنوق نفسه، إلّا أن أصدرت قراراً في تشرين الثاني 2019 يوحي وكأن التعيين جرى بشكل قانوني وذلك لتطيير الطعن المقدّم من قِبَلنا»، بحسب عباس.
وفي تشرين الأول 2020، أصدر التفتيش المركزي قراراً يفيد بأنها حين اتّخذت قرار تعيين عبد الغفور، كان وضع سلوم خارج الملاك قد انتهى منذ 27/11/2017، ما يجعل التعيين غير قانوني لصدوره عن مرجع فاقد للصلاحيات، مطالباً بتعليق القرار وتعيين مجلس إدارة جديد للهيئة. ورغم ذلك، بقي عبد الغفور في منصبه وراحت المخالفات تتراكم من حوله، ليس أقلّها تلك التي أكّدها مجلس شورى الدولة من تلاعُب بتسعيرة السيارات وبالتالي برسوم تسجيلها؛ حماية الموظفين دون محاسبتهم؛ توظيفات وتعيينات خارج إطار الأصول في قسم الأرشيف؛ بيع لوازم القرطاسية والتصرّف بثمنها بدلاً من توزيعها على الأقسام والفروع. ناهيك بصفقات لا تحصى ولا تعدّ، منها صفقة أجهزة المراقبة والكاميرات داخل الإدارة.
هل يعود؟
ماذا حصل بعدها؟ «حين قام التفتيش المركزي بتبليغ عبد الغفور بجدول مخالفاته، بادر الأخير إلى تمزيق التحقيق مجيباً: «روحوا بلّطوا البحر». فما كان من التفتيش إلّا أن أصدر قراراً يقضي بتأخير تدرّج عبد الغفور لمدة اثني عشر شهراً تأديبياً»، كما يشرح عباس. واستمر الوضع على حاله إلى أن أعيد فتح ملف «النافعة» على يد القاضية نازك الخطيب، حيث لم يعد بالإمكان تغطية المزيد من المخالفات. وفعلاً، جرى توقيف عبد الغفور في كانون الأول 2022 وتلاه توقيف سلوم، ليُخلى سبيلهما مؤخراً بموجب كفالة مالية دون أن تُعرف مجريات التحقيقات. وهكذا، دخل عبد الغفور متّهَماً ليخرج بطلاً يطالِب باستعادة مركزه. فهل يسمح القانون بذلك؟ يجيب عباس: «عملاً بقانون الموظفين، وباعتبار أن أي حكم إدانة ضدّه لم يصدر حتى الساعة وبما أن المتّهَم بريء حتى تثبت إدانته، يمكن إعادته إلى وظيفته إلى حين صدور الحكم».
ولكن عباس تساءل كيف يمكن لشخص متّهَم بقضايا فساد وهدر مالٍ عام أن يعاد إلى وظيفته السابقة حيث إمكانية التلاعب بالأدلّة أو متابعة مسلسل الهدر وخرق الشفافية. «إنها ثغرة قانونية تتطلّب إيجاد حلّ سريع وتعديل للقانون كونها تتكرّر في ملفات كثيرة، كملفَّي الدوائر العقارية وتفجير المرفأ. وضْعه بتصرّف مدير عام هيئة إدارة السير لحين انتهاء التحقيق ممكن، حيث تُنزع منه القوة التنفيذية التي يُعتقَد أنه استغلّها ووظّفها في عمليات الفساد والهدر. وفي حال ثبُتت براءته لاحقاً يمكنه إعادة الاعتبار لنفسه والمطالبة بالتعويضات القانونية»، كما يختم عباس مشيراً إلى أن ما يقوم به عبد الغفور اليوم هو الرهان على المظلات السياسية ذاتها ليعود إلى مركزه. وهذا، كما يجري التداول، هو السبب وراء إقالة العميد علي طه الذي كُلّف بمهام رئيس مصلحة تسجيل السيارات بعد توقيف عبد الغفور.
طه ضحية مواقفه
جاء قرار وزير الداخلية، بسام مولوي، بإقالة طه في السابع من الشهر الجاري وتكليف العقيد في قوى الأمن الداخلي خالد يوسف بدلاً منه، ليطرح مزيداً من التساؤلات. مصدر مقرّب من طه أكّد لـ»نداء الوطن» أن الأخير لم يكن على علم بالقرار، رغم أن محافظ بيروت، مروان عبود – المكلَّف بمهام رئيس مجلس إدارة هيئة إدارة السير والذي امتنع عن إعطائنا أي حديث – كان على بيّنة من ذلك. وقدّر المصدر أن يكون طه قد وقع ضحية أمرين: عرقلته لعودة موظفي «النافعة» القدامى إلى العمل؛ وشركة «إنكربت» التي تمكّن من الاستحصال على قرار من ديوان المحاسبة يثبت مخالفاتها. كما لم يستبعد المصدر أن تكون إقالة طه بمثابة تمهيد لعودة عبد الغفور، لا سيّما وأن الأخير أرسل لطه منذ فترة يخبره بأنه سيُنحّى ليعود هو إلى وظيفته. طه يصف تجربته داخل «النافعة» بصفحة طُويت رغم مشقّاتها. وبحسب المصدر، هو يعتبر أن لا حلّ إلّا بمتابعة العمل على تحويل «النافعة» إلى قطاع رقمي تخفيفاً للاحتكاك بين الموظف والمواطن – وبالتالي حدّاً من الفساد. ويختم: «على المرء في «النافعة» المحاربة على مائة جبهة، لكن ما كان ينوي العميد طه القيام به كان مهمّاً للغاية. لقد ناقش في ديوان المحاسبة والمجلس الوطني للسلامة المرورية وواجه الجميع، وكان يلحق بالمحافظ إلى الأماكن العامة لتوقيع مراسلاته. غير أن ما كان مخفيّاً عنه داخل أسوار «النافعة» يفوق الظاهر بكثير».
ثمن الداتا بالملايين
إلى قصة إبريق الزيت، شركة «إنكربت»، كما سبق وأطلقنا عليها. فقد أشار نقيب مدارس السوق في لبنان، حسين غندور، في حديث لـ»نداء الوطن» إلى أن القرار الصادر عن ديوان المحاسبة بتاريخ 31/08/2023 وجّه صراحة بضرورة ملاحقة الشركة جزائياً أمام النيابة العامة التمييزية، وذلك بعد إمعانها في تعطيل مصالح الدولة المالية ومصالح المواطنين. بيد أن كل ما قام به وزير الداخلية هو إقالة العميد طه الذي واجه بجرأة الوضع غير القانوني للشركة، بحسب غندور. وأعاد التذكير بأهمية معرفة الجهة التي طلبت أخذ بصمات العين والأصابع من المواطنين، لا سيّما وأن داتا المعلومات ذات الصلة مفقودة من إدارة السير، في وقت نفت فيه «إنكربت» حيازتها.
وثمة قنبلة جديدة فجّرها غندور. فقد تبيّن، بعد المتابعة الدقيقة للملف، أن البرنامج المستخدَم في الدكوانة هو فقط لإدارة العمليات، بينما السيرفر الرئيسي موجود خارج لبنان. «تنتقل الداتا والبصمات مباشرة إلى الشركة الرئيسية المشغّلة في أوروبا، في حين ظهر أن «إنكربت» تقاضت مبلغاً خيالياً قيمته 174 مليون دولار، مقابل توفير الداتا والبصمات». وأنهى غندور مطالباً النواب ولجنة الإعلام والاتصالات باستدعاء وزير الداخلية واستجوابه فوراً، خصوصاً وأن الداتا تعود لوزراء ونواب وقضاة وضباط ولكافة المواطنين الآخرين.
مَحاوِر اللجنة
عضو اللجنة، النائب ابراهيم منيمنة، أكّد بدوره لـ»نداء الوطن» أنها تعمل على عدة محاور، أبرزها: التأكّد من استيفاء دفتر الشروط وإتاحته المنافسة الشريفة بين المتقدّمين؛ متابعة ملابسات العقد وما إذا كان موجوداً من عدمه؛ التأكّد من عملية التسعير ومن عدالة المبالغ التي يسدّدها المواطن؛ تحميل المسؤولين تبعات توقيف المرفق العام والخسائر التي حلّت بالدولة والمواطنين؛ تقصّي ومتابعة الثغرات التشريعية والقانونية التي تسبّبت بذلك؛ التحقّق من ملف الداتا التي تُعتبر ملكية خاصة لأصحابها باعتبار أن الدولة مسؤولة عن حمايتها.
لائحة محاور طويلة. لكن منيمنة شدّد على حرص اللجنة على تقصّي كافة الحقائق المرتبطة بعمل «إنكربت» ووضْع مسودة لمنهجية عمل تبدأ الأسبوع الراهن. وأضاف أن عمل الشركة ينتهي في الثالث والعشرين من الشهر الحالي، وقد تتمّ بعدها إدارة مصلحة السير من الدولة مباشرة. أما عن إقالة العميد طه فاكتفى بالردّ: «طالبنا بتوضيح من وزير الداخلية وما زلنا ننتظر الجواب لمعرفة حيثيات القرار وملابساته».
ملاحظة أخيرة: مصادر مطّلعة على الملف أفادت «نداء الوطن» بأن العقيد خالد يوسف طلب قبل أيام – إن لم يكن ساعات – من وزير الداخلية إعفاءه من مهامه. فهل تصدق التوقّعات بعودة «الخارجين» إلى قواعدهم سالمين؟
كارين عبد النور