أحمد زكي… هادم أصنام العنصرية في الشرق

أن تنجح في وقت معد للفشل لك ولأمثالك من البشر فتلك البطولة، لكن ميزة الفنان المصري الراحل أحمد زكي التي منحته درجة المعلم الأسود، وهو الدور الذي حرم من تأديته في مسرحية “مدرسة المشاغبين” لأسباب سكتت عنها الثقافة العربية مطولاً، أنه نجح في زمن أعد ليفشل فيه شخصياً.

جاء ظهور الفنان المصري الراحل من عروق أفريقية منذ ستينيات القرن الماضي، في وقت تزامن مع انتقال الزخم الثقافي حول قضايا التمييز عنصرياً وطبقياً وجندرياً من الغرب إلى الشرق، وبدوره تمكن الغرب خلال القرون الثلاثة الماضية من حسم كثير من القضايا المذكورة سياسياً وفنياً واجتماعاً، لكن الشرق ظل يعاني قصوراً سياسياً واجتماعياً أدى إلى تأخر الفنون سينمائياً ومسرحياً بصورة انعكس أثرها بوضوح على قضايا أصحاب البشرة السمراء والمرأة والتعليم.

وكل ما سبق دعا زكي تحديداً دوناً عن بقية أبناء جيله من الفنانين العرب والمصريين إلى تصدر المشهد لإصدار بيانه السينمائي الخاص الذي صاغه بحرفية متناهية بصرياً، ليعبر من خلاله عن موقفه الشخصي حول جملة من هذه القضايا الإنسانية الصعبة.

جذور

في عام 1865 أعلن الرئيس الأميركي أبراهام لينكولن تحرير العبيد في الولايات المتحدة، وفي عام 1977 عرضت التلفزة الأميركية “مسلسل جذور” الشهير الذي تناول قصة كفاح شاب مسلم من أصول أفريقية من أجل العودة لجذوره ونيل حريته، بعد أن خطف من الغابة وهو يقطع بعض الأخشاب ليصنع إطاراً لطبلته.

نقل كونتا، وهذا اسمه، إلى أنابوليس عام 1761 وفق رؤية مؤلف الرواية أليكس هيلي، وهناك تعرض لمحاولة طمس هويته وتغيير شخصيته وثقافته، لكنه أظهر جلداً وشجاعة نادرتين.

ومنذ ذلك الوقت بدأت قضية كفاح الإنسان ذي البشرة السمراء بالتفاعل عالمياً حتى وصلت رحاها إلى الوطن العربي، إذ خاض الشاب أحمد زكي البدوي حربه الخاصة في اتجاه نقل مضامين كفاح هذا الإنسان إلى بيئته، والتي عبر عنها ضمن رؤية عامة تناقش كل أوجه التمييز وليس التمييز بناء على اللون فقط، وفق ما فرضته مفردات بيئته وعصره، وفي فترة زمنية امتدت من ستينيات القرن الماضي إلى مطلع الألفية الحالية.

إلى المعلم مع الحب

وعلى رغم تفوقه في الدراسة وبداياته في التعليم الصناعي، إلا أن القدر جذب أحمد زكي نحو الفن، وبعد مسرحية “هالو شلبي” نال دوراً صغيراً وشبه صامت في المسرحية الشهيرة “مدرسة المشاغبين” التي عرضت في السينما والمسرح معاً عام 1973.

بدورهم أشار صناع “المشاغبين” بكل وضوح إلى كون العمل مقتبساً من الثقافة الغربية ومأخوذاً عن نص عالمي للمؤلف والمخرج جيمس كلافيل (1921- 1994) عن رواية اسمها “إلى المعلم مع الحب”، غير أن الرواية الأصلية تناولت قصة شاب أميركي ذي بشرة سمراء يدعى مارك تاكيراي تخرج في كلية الهندسة، ولم يجد وظيفة فعمل مدرساً لتلاميذ ذوي بشرة بيضاء فقراء ومتمردين ورافضين لكل أشكال الحوار.

كان دور زكي في مسرحية المشاغبين قصيراً جداً، لكنه استفاد من وجوده في خلفية الأحداث إذ طبعت صورته في الأذهان، وفي لقاء إعلامي له عام 2001 عبر برنامج “خليك بالبيت” قال الفنان المصري الراحل إن هذه المسرحية مثلت بالنسبة له “صورة في مجلة”، ومع ذلك سجل زكي أول مواقفه الفكرية الحاسمة فنياً بعد أن شهد شخصياً بعض مهاترات الفن من خلال التلاعب في النص المسرحي، إذ ترك أحمد زكي المسرح من دون رجعة بعد دوره في مسرحية “العيال كبرت” الشهيرة.

لماذا السينما؟

لأنه كان مريضاً بالفن فقد توجه زكي إلى مركز الحدث حينها وذهب إلى السينما، ولعل مما لفت الانتباه إلى وضوح رؤية النجم الصاعد وعدم نيته الدخول في معارك جانبية ومهاترات فنية ضمن رحلة كفاحه التي كان يدرك صعوبتها ومشقتها، كونه لم يخض حتى وفاته جدلاً كبيراً حول ملابسات تحويل الفيلم العالمي الإنجليزي المنقول عن الأدب الأسترالي “إلى المعلم مع الحب” الذي كان يروي قصة كفاح شاب ذا بشرة سمراء آخر إلى مسرحية عربية عانت تغييرات غير صائبة أدبياً، عداك عن تحويل النص إلى فيلم حشد عدداً من كبار الكوميديانات لسرقة الأضواء من المسرحية، لدرجة أنه اشتغل على الغرائز بشدة من خلال دور المدرسة المتحررة.

ولم يتوقف النجم الأسمر مطولاً مع المظلومية التي وقعت عليه شخصياً وعلى أبناء عرقه عموماً، إذ توافقت أقلام وأفكار عدد من المؤلفين والمثقفين العرب الذين تعاملوا مع هذا النص لإلغاء شخصية المعلم ذي البشرة السمراء، وأحلوا مكانها شخصية الأنثى المستضعفة، وهي المدرسة سهير البابلي في المسرحية، وأيقونة الجمال المصري حينها ميرفت أمين من خلال الفيلم.

لا وقت لحروب خاسرة

وفي الوقت ذاته لم يكن أحمد زكي يملك حق الاعتراض على ذلك، ففضل بدلاً من أن يخوض حرباً خاسرة باكرة مع بعض جهابذة المسرح والدراما حينها، أمثال عبدالمنعم مدبولي وفؤاد المهندس ومحمد عوض وسمير غانم ونور الشريف وعادل إمام، الذهاب نحو مركز العاصفة وهي السينما، لمجابهة بعض مصاصي الدماء الكبار، كما فعل الزعيم الأميركي لينكولن الذين وجهوا له شخصياً ولأبناء عرقه عموماً أول ضربة تحت الحزام من خلال إلغاء شخصية البطل الأسود إلغاء تاماً.

كان زكي وهو يذهب للسينما عام 1975 ليقدم دور البطولة في فيلم “الكرنك” الذي انتزع منه للسبب ذاته، يزداد تصميماً على إنهاء حقبة استثارة الغرائز من أجل تحقيق مبيعات وتحقيق أرباح مالية التي انتشرت بدايات ومنتصف مسيرة “هوليوود العرب”، عبر إسناد أدوار البطولة المطلقة للنجوم أصحاب العيون الملونة والبشرة الشقراء الذين يصلحون لتقمص شخصية الدونجوان، والإيقاع بالنجمات الدلوعات والغنوجات أمثال شادية وسعاد حسني وميرفت أمين.

مرحلة زكي

وعلى رغم شراسة الخصوم فقد نال زكي من خلال السينما عشرات الألقاب بدلاً من التمتع بلقب وحيد أو لقبين، فهو الإمبراطور والنمر الأسود والبيه البواب وسعد اليتيم وحسن اللول وأبو الدهب وغيرها كثير، وتميزت حقبة زكي الفنية الرئيسة من 1975 – 2000 بكونها حقبة أضافت مزيداً من التفاصيل حول قصة كفاح الشباب من جميع الأعراق من أجل مكافحة التمييز، والتي حولها زكي عربياً ومصرياً إلى قصة كفاح أوسع يخوضها أبطال واقعيون من أجل لقمة العيش.

نجح “الهجان البدوي” في تحويل قضية التمييز ضد عرقه عالمياً وعربياً إلى قضية فنية محلية بحتة، فحمل إرث الثقافة الغربية التي أنجزت معظم قضاياها، ونقل الزخم إلى عمق الثقافة العربية إعلامياً من خلال السينما، وهنا تحول سؤال التمييز الخاص أميركياً وأوروبياً وغربياً إلى سؤال حضاري شرقي عام تتردد أصداؤه حتى الآن، ضمن بيئة اجتماعية وتربوية مكتظة بالتساؤلات، ليس فقط حول العرق والجذور والأصول وما تحمل من دلالات، ومنها لون البشرة وقضايا المرأة والتعليم، في أنحاء الوطن العربي كافة، بل بوصفها مدخلاً نحو عوالم المسكوت عنه عربياً منذ قرون من الزمن.

ما بعد “حليم”

بعد أن وافته المنية أثناء “فيلم حليم” ترك أحمد زكي إرثاً كبيراً تحتم على الأجيال من بعده التعامل معه بذكاء، فجاءت سلسلة من الأفلام والمسلسلات منها فيلم “حلم العمر” (2008) للمخرج وائل إحسان وبطولة حمادة هلال، ليحمل إهداء إلى روحه.

وفي الفيلم الغنائي يقاتل نمر أبيض من أجل تحقيق حلم العمر الذي لم يتمكن زكي من إنجازه كاملاً أثناء حياته القصيرة، لأنه كان وحيداً كما كان يصف نفسه في كثير من المقابلات.

من جهة ثانية حاولت فنانة مصرية شابة من حقبة جيل الألفية أن تعيد جمهور السينما إلى ما قبل حقبة أحمد زكي بعد رحيله، وهي الفنانة علا غانم التي طرحت فيلم “أحاسيس” (2010) للمخرج هاني جرجس فوزي، ولكن ضمن قالب تربوي يحاول معالجة بعض القضايا الجنسية في المجتمع الشرقي.

ومع ذلك ظل إرث أحمد زكي بمثابة سؤال ثقافي عسير يتردد من دون إجابة واضحة، لأنه سؤال صعب مكون من عشرات العناوين التي تهربت الثقافة العربية من الإجابة عنها منذ “المعلم الأسود” في “مدرسة المشاغبين” وحتى اليوم.

اندبندنت

مقالات ذات صلة