تقلّبات وفشل “الفرنسي” في لبنان : شيراك – ساركوزي – ماكرون!
المشكلة مع فرنسا ليست في تشخيصها للوضع في لبنان، إنّما في سياساتها الفاشلة منذ عقدين تقريباً، وليس بسبب إيمانويل ماكرون وحدَه. وهذا الفشل ينسحب على سياساتها في سوريا وإيران… وصولاً إلى المستعمرات السابقة في أفريقيا، وفشل محاولتها منع الحرب في بلاد الأوكران.
لكن لنبدأ من لبنان…
فشل في لبنان
يمكن اختصار السياسات الفرنسيّة بكلمتين: تقلّبات وفشل. ليس منذ دخول إيمانويل ماكرون قصر الإليزيه. إنّما منذ عهود أسلافه:
– في تسعينيات القرن الماضي زار الرئيس الفرنسيّ الراحل جاك شيراك لبنان. ألقى خطاباً في البرلمان قال فيه إنّ “الوجود السوري ضروريّ”.
– بعد سنوات صاغت فرنسا، بالتنسيق مع الولايات المتحدة الأميركيّة، القرار الأمميّ 1559 الذي طالب بـ”خروج القوات الأجنبية من لبنان”، والمقصود الجيش السوريّ.
– بعد اغتيال رفيق الحريري زار جاك شيراك لبنان معزّياً بصديقه الكبير. صوّب إصبع الاتّهام السياسيّ إلى النظام السوريّ. ودعم ردّة الفعل الشعبيّة الصارخة “سوريا طلَعي برّا”.
– بعد ثلاث سنوات حلّ بشار الأسد ضيف شرف في احتفالات العيد الوطنيّ الفرنسيّ على جادّة الشانزليزيه. وقف إلى جانب نيكولا ساركوزي، الذي خلف شيراك في رئاسة حزب اليمين وفي رئاسة البلاد.
– في لقاءات “لا سيل سان كلو” (2007) طرح الطرف الفرنسيّ المضيف لحوار اللبنانيين “المثالثة”. لكن سرعان ما تبرّأ منها، وما يزال.
– ننتقل مباشرة إلى مؤتمر “سيدر” (2018). نجحت فرنسا في عقده بحضور جمهرَة من الدول الغربية والعربيّة. اشترطت إجراء إصلاحت لمنح قروض بمليارات الدولارات. تكفّلت فرنسا المتابعة مع اللبنانيين. زار مبعوثها السفير بيار دوكان لبنان مرّات ومرّات. فشل في الضغط على المسؤولين اللبنانيين للقيام بالإصلاحات المطلوبة والحصول على الأموال الموعودة. ربّما يُعيد البعض هذا الفشل إلى الطبقة السياسيّة اللبنانيّة. ولكن لا. هذه ترفض الإصلاحات. تريد الاستمرار في الهدر والفساد لإضافة ملايين على المليارات التي سرقتها. خاصّة وأنّ هناك عناصر جديدة انضمّت إلى الطبقة السياسيّة وتريد اللحاق بمن سبقها في الإثراء.
– بعد انفجار المرفأ زار إيمانويل ماكرون لبنان مرّتين. قام بعراضة شعبيّة في الجمّيزة، وبعراضة حواريّة في قصر الصنوبر. ربّما نجح في الأولى. لكنّ الأكيد أنّه فشل في الثانية. فقد زاد الخلاف والانقسام بين اللبنانيين. وازداد الحزب “أيرَنَةً” في حين أنّ ماكرون طلب من محمد رعد “العودة إلى لبنان”.
– بعد نهاية ولاية ميشال عون كلّف ماكرون فريقه الصغير إعداد خطّة لإنهاء الفراغ سريعاً في رئاسة “لبنان الكبير”. وحدّد له اسم الرئيس: “سليمان فرنجية” الذي كان سلفه فرانسوا هولاند قد اتّصل به في 2016 مهنّئاً له بالرئاسة! دبّج الفريق توليفة، ربّما على ترويقة دفع فاتورتها جيلبير الشاغوري، اختلطت فيها رائحة القهوة مع رائحة النفط والغاز وموضوع الرئاسة مع استثمارات “توتال”. خرج الفريق بـ “تركيبة” فرنجية – نواف سلام. اعتقد أنّ بإمكانه فرضها على اللبنانيين. فعجز. بعدها حاول ماكرون تسويق الـ”تركيبة” لدى وليّ العهد السعودي. لكنّ الأمير الشابّ ليس متقلّباً كالسياسات الفرنسيّة. يُدرك جيّداً ما يريده في لبنان كما في المنطقة والعالم. فهو قبِل باتّفاق بكين مع إيران وقرّر عودة سوريا إلى الجامعة العربيّة بحسب توقيت المملكة وبما يخدم مصالحها الحالية والمستقبليّة. في حين أنّ فرنسا تراكم الفشل في البلدين.
لننتقل إلى سوريا…
إخفاقات في سوريا
تعود الإخفاقات الفرنسيّة في سوريا إلى عهدَي جاك شيراك:
– فهو كان الرئيس الغربيّ الوحيد الذي حضر جنازة حافظ الأسد علّه يكسب ودّ بشّار الوريث. أرسل له وفدين برلمانيين (2002 و2006) لمساعدته في إصلاح الدولة وفي انفتاحها الاقتصاديّ.
– في عام 2004 وقّعت سوريا على وثيقة للانضمام إلى “اتفاق برشلونة” المتوسطيّ.
– ثمّ كان اغتيال رفيق الحريري في 2005 واعتقال معارضي “إعلان دمشق” في 2007.
– في بداية “الثورة السوريّة” دعمت فرنسا الثوّار. كانت باريس مركزاً أساسيّاً لهم في قيادة التظاهرات عن بُعد وفي العمل الإعلاميّ الذي كان سلاح المعارضة الأبرز في بداية الأحداث. اعتقدت باريس أنّ نهاية بشّار قريبة. سوّقت أوساط ساركوزي أنّها حتميّة في منتصف عام 2012. إلا أنّ الفيتوات الأميركيّة ضدّ تسليح المعارضة عطّلت الطموحات الفرنسيّة (كما طموحات دول أخرى إقليميّة). ووقف أيضاً بوجه تلك الطموحات دخول إيران المباشر على خطّ الصراع العسكريّ. ولفرنسا حكاية فشل طويلة مع إيران…
العجز في إيران
سنتجاوز نهايات سبعينيات القرن الماضي:
– حين استضافت باريس الإمام الخميني وقدّم إعلامها منصّة له للإعداد لثورته، وأقلّته طائرة تابعة للخطوط الجويّة الفرنسيّة إلى طهران لإقامة الجمهوريّة الإسلاميّة.
– وما كان منه إلا أن انقلب ضدّ فرنسا (وأوروبا عامّة) وأميركا، وقتل جنودها في انفجار دراكار في بيروت (مع جنود أميركيين في انفجار السفارة الأميركية في بيروت).
– ثمّ أذلّها ودول غربيّة أخرى باختطاف رعايا لها جعل منهم رهائن لتلبية مطالبه في حربه ضدّ العراق.
– ننتقل مباشرة إلى عام 2018 ومحاولات فرنسا (مع دول الاتفاق الأخرى) الفاشلة للإبقاء على الاتّفاق النوويّ على الرغم من الانسحاب الأميركيّ منه وتجديد الخزانة الأميركيّة عقوباتها على النظام الإيراني ورجالاته. كابَرَت فرنسا. اعتقدت أنّ بمقدورها الوقوف بوجه القرار الأميركيّ. راحت تبحث، مع ألمانيا، عن منصّة ماليّة للالتفاف على العقوبات الأميركيّة المتجدّدة ضدّ إيران، وفشلت.
– بعد ذلك سعت باريس إلى التخفيف من تصلّب مواقف ملالي طهران، علّها بذلك تُسهّل عودة واشنطن إلى الاتّفاق. فكان ردّ نظام الملالي أن “لا ثقة بالدول الأوروبيّة”. السبب بسيط. ما تريده إيران لا تملكه فرنسا في المنطقة ولا في العالم.
– لن نعرّج على “إذلال” فلاديمير بوتين لماكرون حين حاول هذا الأخير منع وقوع الحرب على أوكرانيا وإجلاسه على طاولة بطول عشرة أمتار. ولا مجال للتوقّف عند تصريحه “الفارغ” من بكّين منذ أشهر حول الأزمة التايوانيّة. أمّا مأزق فرنسا في النيجر فقد خصّصنا له مقالنا السابق في “أساس”. وهو يشكّل حلقة في نهاية نفوذ فرنسا في مستعمراتها السابقة في القارّة السمراء. وستكون له انعكاسات كبيرة على الاقتصاد الفرنسيّ وعلى الأمن القوميّ الفرنسيّ، والأوروبيّ عامّة، بسبب موجات الهجرة غير الشرعيّة من إفريقيا التي تنقل معها التطرّف الدينيّ إلى قلب أوروبا وتزيد من العنصريّة العرقيّة.
في الخلاصة، تُراكم فرنسا الفشل تلو الفشل. والسبب ليس سياسات هذا الرئيس أو ذاك. إنّما هو عجز القوّة العظمى السابقة بسبب خسارتها لعناصر القوّة الجيوسياسيّة التي كانت لها سابقاً. وسيبرز هذا العجز مع صعود قوى عالميّة أخرى مثل الصين والهند، اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً، إضافة إلى حجمها الديمغرافيّ الكبير.
د. فادي الأحمر- اساس