هرّج تربح مبالغ تصل إلى أربعين ألف دولار شهرياً…على تيك توك!
«يحصل بعض مستخدمي التيك توك على مبالغ تصل إلى أربعين ألف دولار شهرياً» (من تقرير لقناة «الجديد» حول التيك توك ومستخدميه في لبنان).
في البداية حين ظهر «التهريج» كحاجة حضارية وثقافية. كان المهرّج يروي النكات كنوع من التنفيس والتعبير عن الغضب الشعبي تجاه مسألةٍ معينة، لا يستطيع معها مقاومةً. في نصٍ حول «صورة الفنان المهرّج»، يشير الناقد السويسري الراحل جان ستاروبينسكي إلى أنّه «عند تفكّك المنظومة الاجتماعية أو انحلالها، يتضاءل حضور المهرِّج على خشبة المسرح، في حلبة السيرك أو على اللوحة، لكن المهرِّج نفسه لا يختفي، بل ينزل عندذاك إلى الشارع، فيصبح كلّ واحد منّا». خلقت الحضارة العربية/ الإسلامية شخصية المهرّج «جحا»، واللبنانية شخصية أخوت شاناي اللتين كانتا جزءاً لا يتجزأ من منهجية السخرية/ النقد للحكم السائد، وهذا الاستخدام كان مفيداً في مرحلته. في أوروبا كان «التهريج» يتخذ أبعاداً أخرى مرتبطة أساساً بالحضارة الأوروبية الأولى والثانية (ما قبل مرحلة الثورة الصناعية)، إذ كان يتمحور حول أمراء متخلّفين، ملولين، يتقاتلون في ما بينهم. من هنا كان «مهرّج الملك» أو «مهرج الأمير/ الحاكم» (Jester) عبارة عن شخصٍ لا يسلّيه فحسب، بل أيضاً يخفض من قيمته أمامه. يحتاج الملك إلى شخصٍ يشعر بقيمته وقدره أمامه بخلاف سيطرته على حاشيته: يحتاج شخصاً يهين نفسه أمامه وتتم السخرية منه، ناهيك بسخرية هذا المهرج من نفسه لتسلية هذا الحاكم.
من هنا، فإن دور «المهرج» قائم أساساً على «حطّ» نفسه أمام ملكه/ أميره: لذلك كان استخدام جي آر آر مارتن لشخصية السير والتر في عمله المهم «صراع العروش» ليكون «مسلّي» الملك جوفري براثيون ضمن المنطق نفسه. وهنا المقصود بمسلي الملك «الشخص الذي يحط من قدره كي يتسلى هذا الملك». قد يختلف كثيرون حول هذه النقطة بأنّ مهمة «المهرج» ليست ذلك، لكن لو راجعنا الأدوار التي يؤديها في السيرك مثلاً، لشاهدناه: يقع على ظهره، يضرب بواسطة المطرقة الكبيرة، وصحون الطعام في وجهه، وقس على ذلك، وفوق هذا هو يرتدي ثياباً واسعة فضفاضة، حذاء كبيراً، وألواناً فوق وجهه كل هذا لإخراج الضحك من المشاهدين قبل أي شيء آخر.
في السياق الراهن، يتكرّر الأمر نفسه يومياً عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وبشكلٍ أكثر وضوحاً عبر تطبيق التيك توك. يدخل المشاهدون في نوبة «صيد» بمتابعتهم شباباً وشابات مستعدين للقيام بأي شيء من أجل الحصول على «الهدية» التي يرسلها لهم أشخاصٌ مجهولون في المعتاد. هذه الهدية التي تشبه الهدايا التي كانت تصل لمشاركي «ألعاب الجوع» من الفيلم الشهير، تجعلهم في حالة أقرب إلى الهستيريا، كأن تصرخ إحدى الفتيات بشكل ممسوس: «وصل الأسد الذهبي/ الأسد الذهبي». طبعاً لمن لا يعرف ما هو الأسد الذهبي، فهو نوعٌ من التقديمات ينتظرها المشاركون في الألعاب والتحديات عبر التيك توك وسرعان ما يترجمونها إلى أموال سائلة تحصل الشركة منها (بحسب تقرير تلفزيون «الجديد» نفسه) على ستين في المئة، فيما يحصل المشاركون على أربعين، وهو ما قد يكون مبلغاً كبيراً (وفق التقرير نفسه). فعلياً، ما الذي يحدث؟ إنّه قانون jester law حيث يدخل المشاهدون لمتابعة كيف سيذلّ هذا الشخص ذاته أمامهم. وطبعاً الأمر مرتبط بخيال خصمه: يأكل بيضة نيئة، يضرب نفسه بها، يأكل قدمه، يقبل قدم شخص آخر، وكلها طبعاً تعتبر «قليلة» مقارنةً بأمور أخرى لا يمكن ذكرها.
يشاهد الناس، لا بل إن كثيرين، يدفعون أموالاً طائلة قد تصل إلى مليون دولار (كما يشير التقرير نفسه). إذاً مليون دولار لمشاهدة شباب يحطون من أنفسهم أمام الشاشة، يذلّون أنفسهم مقابل حصولهم على أموال تعينهم على فقرهم. يشارك الجمهور ويتابع رغبةً في «البحلقة» أو كما يسميها علم النفس «هتاك»؛ أي حضارة تستلذّ وتستمتع بالمشاهدة والبصبصة كما يشير أستاذ علم النفس الراحل فاروق المجذوب في إحدى محاضراته. يلبس بعض هؤلاء الشباب الكثير من الثياب الفخمة، يلبسون الأبل، بعضهم لديه أوشام تبدو محترفة، وآخرون لديهم تجهيزات فخمة ومرتبة كي يظهروا بصورة المحترفين. لكن جميعهم يعيشون في الدائرة نفسها: انتظار تقليل الذات وتحطيمها.
على الجانب الآخر، فإن الصين قد منعت وجود التيك توك على أرضها، وحذت حذوها دولٌ كثيرة، لا لأسباب سياسية، بل لأنه في لحظة ما يصبح «محققاً للأحلام»، فهو ببساطة يجعل من أي شخص «نجماً»، وهو بخلاف غيره، لا يحتاج مهارةً معينة، بل يحتاج إلى شعورٍ جارف بالقدرة على التحمّل وتكسير الذات في آنٍ. هذا المكان «المتوحش» و«الساحر» في آنٍ، تكمن مشكلته القاتلة في أنّه يقنع كثيرين في بلادٍ لا احترام فيها للشهادات الجامعية أو لمن يحملونها (مادياً على الأقل) بأنه يمكنه تحصيل آلاف الدولارات شهرياً، من دون دراسة، ولا ساعات عمل طويلة. المشكلة الأكبر أن هذا الأمر على المدى الطويل سيخلق جيلاً أكبر إنجازاته أنه أكل بيضةً نيئة على الهواء، أو ضرب نفسه كفاً، فأسقط سنّه الأمامية أمام المشاهدين (كلا الحدثين حصل فعلاً). سيظهر جيلٌ لا يؤمن لا بالتعليم، ولا بالدراسة، ولا بناء المجتمعات، ولا بأيٍ من الأيديولوجيات الحقيقية أو القوانين المجتمعية إلا ما يفرضه عليه التطبيق بحد ذاته. إنها خطورة «تحطيم» الذات لأجل المال، الخدعة التي بدأها «مهرجٌ» قبل مئات السنين وصلتنا اليوم، وقد توصلنا كمجتمع وحضارة إلى نهايةٍ باتت أقرب مما نعتقد.
عبد الرحمن جاسم- الاخبار