ترشيح قائد الجيش: قدر المسيحيين صار محصوراً باليرزة… مع مخالفة الدستور!
التحرّك القطري ولقاء قائد الجيش علناً مع حزب الله، فتحا مجدّداً باب الأسئلة التي تعود مع كل ترشيح لقائد للجيش: كيف للقوى السياسية أن تتخطّى الدستور؟ وأي معنى للعمل السياسي إذا كان اختيار رئيس الجمهورية صار محصوراً باليرزة؟
منذ اتفاق الطائف، لم يُنتخب رئيس للجمهورية في شكل طبيعي، ومن دون القفز فوق المجريات الطبيعية والدستورية: الرئيس الأول انتُخب قبل أن تجفّ دماء رئيس اغتيل ومُدِّد له ثلاث سنوات، والثاني انتُخب بتعديل دستوري ومُدّد له بتعديل آخر. وأتى الفراغ الرئاسي برئيس للجمهورية بمخالفة دستورية، وجاء الرئيس الرابع بعد فراغ رئاسي طويل ووفق شتى أنواع التسويات وانتهى عهده وهو لم يزل في القصر الجمهوري. فيما الحديث عن الرئيس الخامس يبدأ كذلك بتعديل دستوري.
قائد الجيش العماد جوزف عون الذي خرج من المنطقة الرمادية إلى مربع المرشح العلني، وسط حملة إعلامية وسياسية، بدأ يفتح قليلاً المجال للنقاش الموسّع حول ملفات سياسية، ولو أنه لا يزال يحصر كلامه بالتداعيات الأمنية والحفاظ على الاستقرار وطلب مساعدة الجيش. أكثر من ذلك، لم يتحوّل إلى الحوار الشامل حول ملفات سياسية شائكة، وهو أمر يجده سياسيون ضالعون في الملف الرئاسي أمراً يُحسب له، رغم أنه – اذا انتُخب – سيكون معنياً خلال السنوات الست بفخاخ كثيرة وملفات اقتصادية وأمنية وسياسية، بدءاً من تشكيل الحكومة وصولاً إلى الانتخابات النيابية واحتمال وضع قانون الانتخاب مجدداً على طاولة البحث.
لكن، في مقابل عدم استفاضته في النقاش السياسي، بدأ المرشح الرئاسي تسويات مسبقة مع الطبقة السياسية، في ظل خلافه مع وزير الدفاع، وبدأ يجري حسابات سياسية مع رئيس مجلس النواب (كما جرى بالنسبة إلى ترقيات دورة 1994)، ورئيس حكومة تصريف الأعمال. ورغم أن تبرير قائد الجيش ما حصل في ملفات معنيّ بها رئيسا المجلس والحكومة بحاجات المؤسسة العسكرية، إلا أن خيطاً رفيعاً يربط ما جرى بتسويات مع طبقة سياسية لا تجد صدى إيجابياً لدى معظم اللبنانيين.
الأمر الثاني، انتقاله إلى بدء خطوات سياسية أولى، كما جرى مع حزب الله، قبل أن تنضج ظروف ترشيحه الخارجية، والتي ستتطلب منه حينها توسيع بيكار اللقاءات السياسية حتى مع خصومه. ولقاء حزب الله، في خطوته الاستكشافية الحقيقية، مبكر الحكم عليه. الأسئلة من جانب حزب الله لن تكون أجوبتها اليوم نهائية، لأن الأمور ستكون رهناً بخواتيمها. والأمر نفسه حصل مع الرئيس السابق ميشال سليمان الذي لا يزال حزب الله يصوّب عليه، لنكثه بوعوده له، وانقلابه عليه، ما شكّل له أذية سياسية مباشرة. وأي أجوبة من عون اليوم، لن تكون هي حكماً نفسها في المستقبل.
لكن، أبعد من رؤية المرشح الرئاسي وفريقه الذي يرسم له خريطة الطريق منذ سنوات، لما هو مقبل عليه، ثمة واقع يفرض نفسه من الخارج على القوى المسيحية في اختيار مرشح رئاسي. علماً أن ما هو محسوم حتى الساعة، في شكل قاطع، من العواصم الخمس المعنية هو موقف الدوحة والقاهرة من قائد الجيش، ولا سيما أن قطر تواصل اتصالاتها الاستكشافية، وتوسيع دائرة الاقتراحات، لبنانياً وعبر اللجنة الخماسية، لتعبيد الطريق أمامه.
كان التيار الوطني الحر أول المجاهرين برفض ترشيح قائد الجيش، لأسباب بدأت أولاً بالعلاقة المتوتّرة بينه وبين رئيس التيار جبران باسيل قبل أن يخرج الأخير من نادي المرشحين، وأصبحت بعد خروجه منه، أكثر جدية، رغم أن بعض معارضي باسيل من داخل التيار مؤيدون لقائد الجيش في صورة غير ملتبسة. أما القوات اللبنانية، فكانت حريصة في كل مرة على التمييز بين تمسّكها بمرشحها، وموافقتها على ترشيح قائد الجيش إذا اقتضت ظروف التسوية ذلك، مبتعدة عن إظهار أي حساسية نظراً إلى تاريخ العلاقة بين القوات والجيش. لكنّ الطرفين (القوات والتيار) يبدوان اليوم أمام مفارقتين، سياسية ودستورية، تتعلقان بموقع الرئاسة «المارونية» في حد ذاته.
لا تستطيع القوى المسيحية الترحيب بترشيح قائد الجيش فيما تطالب بعدم خرق الدستور
تشكل الانتخابات النيابية للطرفين تحدياً جوهرياً في ممارسة الحياة السياسية، كما لجميع الأحزاب. والحزبان (القوات والتيار) تسابقا للحصول على أكثرية الهدف منها، في المبدأ، ممارسة السياسة من كل جوانبها. ما يحصل في الرئاسة، مع العودة مرة جديدة إلى طرح اسم قائد الجيش كأمر مفروغ منه، يلغي كلياً فكرة العمل السياسي لهذه الأحزاب، كما فكرة التمثيل الشعبي بمعناه الواسع. فما معنى العمل الحزبي وتشكيل الكتل السياسية الكبيرة، إذا لم يكن الهدف منها الوصول إلى المجلس النيابي أو الحكومة أو الرئاسة الأولى، واللجوء بدل ذلك إلى اختيار موظف من الفئة الأولى سبق لهذه الطبقة السياسية أن اختارته لوظيفة محددة؟
تصرّ القوى المسيحية، ومعها بكركي، في كل استحقاق على عدم المس بالدستور وبعدم القفز فوقه ومنع التعدّي عليه، في مرحلة كثر فيها الكلام عن محاولة تعديله جذرياً. التماهي مع أي طرح خارجي أو داخلي للإتيان بقائد الجيش رئيساً للجمهورية، من دون أي اعتراض، يعني حكماً القفز فوق الدستور، كخطوة أولى. لا تستطيع هذه القوى، أو بعضها حتى الآن، الترحيب بترشيح قائد الجيش، فيما تطالب في أدبياتها بعدم خرق الدستور. ثمة من يتحدث عن أن مناورة التيار الوطني الحر لتمييع الوقت، حتى انتهاء ولاية قائد الجيش في العاشر من كانون الثاني المقبل، ستقابل حكماً بالتمديد لقائد الجيش أو استدعائه من الاحتياط كحل قانوني. كان قائد الجيش يردّد دوما أنه ضد التمديد له، وأنه سيترك منصبه عند انتهاء ولايته، مع أن هذا الكلام ينتهي مفعوله عند أحلام البقاء في الموقع ودلالاته. لكن ذلك لا يعني أنه سيظل مرشحاً حكماً. ففي الحالتين يحتاج إلى تعديل دستوري لانتخابه. أما الترويج لبقائه في حلبة الصراع ولو خرج من اليرزة، ففيه هرطقة دستورية، لأن النص واضح في عدم جواز انتخابه «مدة قيامه بوظيفته»، مثله مثل القضاة وموظّفي الفئة الأولى، و«خلال السنتين اللتين تليان تاريخ استقالتهم وانقطاعهم فعلياً عن وظيفتهم أو تاريخ إحالتهم على التقاعد». ومشكلة القوى المسيحية في الحالتين أنها تحاذر الدخول علناً في مواجهة الأمرين لحسابات تتعلق بمواقعها المستقبلية وتأثيرات الدول الخارجية و«تمنياتها» التي أفضت في كل مرة إلى فرض واقع جديد. وهذه المرة، ستكون هذه القوى أول من يتلقّف هذه التمنيات فتذعن لتسويات تطيح بما تبقّى من حضور لدستور الطائف الذي كُتب على القوى المسيحية أن تدفع دوماً ثمنه، سواء أصرّت عليه أو توافقت على تعديله.
هيام القصيفي- الاخبار