بكتيريا فرنسية تذكر لبنان بوعد كهربائي معلق منذ عشر سنوات
في لبنان الغارق في ظلام لا يشكل غياب الكهرباء سوى جزء منه (والبقية تأتي أساساً من السياسة)، يصعب أن يمر بسهولة خبر توصل علماء بيولوجيا فرنسيون إلى مضاعفة الكهرباء التي تنتج من مياه المجاري بفضل التحكم الجيني بأنواع من البكتيريا. لماذا تلك الصعوبة؟ لأنه قبل عشر سنوات، لوحت وزارة الطاقة اللبنانية بوعد عن توليد 12 ميغاواط/ساعة من مياه الصرف الصحي عبر تطبيق تقنية علمية بيولوجية مشابهة لتلك التي حملها الخبر عن الإنجاز البيولوجي الفرنسي.
وتذكيراً، ففي عام 2013، احتفلت وزارة الطاقة اللبنانية بالإعلان عن نتائج دراسة حملت عنوان “توليد الطاقة من رواسب مياه الصرف الصحي”. وحضر الحفل أعضاء من السلك الدبلوماسي الأجنبي، من بينهم مدير “برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في لبنان” الذي أشار إلى الجانب العلمي البيولوجي في الدراسة المتمثلة في استخدام بكتيريا تعيش على التمثل الغذائي اللاهوائي، في توليد الكهرباء من مياه المجاري.
وآنذاك، أشارت وزارة الطاقة إلى أن العائق الأساسي أمام تحويل الدراسة إلى مشروع توليد كهرباء يتمثل في توفر التمويل المناسب. ألا تبدو تلك الكلمات مأسوية في حين تعيش البلاد واقع انهيار اقتصادها بسبب فساد منظومة السياسة فيها التي ابتلعت عشرات المليارات من الدولارات؟ ألم يكن ممكناً، حتى من باب حفظ ماء الوجه، توجيه بضعة ملايين الدولارات، هي ما يلزم وفق تقدير الوزارة آنذاك كي تتحول نتائج الدراسة واقعاً ملموساً يسري كهرباءً وضوءً في بيوت الناس؟ ربما لا يكون رقم 12 ميغاواط/ ساعة كبيراً، لكن يفترض أنه ينتج في محطة واحدة. ألا يساعد ذلك لبنان في الخروج من أزمة الكهرباء فيه؟
يد مغربية في إنجاز فرنسي
إذاً، يأتي الخبر من فرنسا عن التوصل إلى مضاعفة الكهرباء التي ينتجها نوع من البكتيريا يسمى “إي كولاي” E. Coli التي تشتهر بأنها تعتاش بالنوعين المتضاربين من الهضم، بالنسبة إلى ذلك النوع من الكائنات البيولوجية، أي الهضم الهوائي واللاهوائي (الذي تستغني فيه عن الهواء والأوكسجين). ألا يذكر ذلك بكلمات مدير البرنامج الإنمائي الأممي في لبنان قبل عشر سنوات؟
استطراداً، منذ 2013، تطورت كثيراً تقنيات استعمال البكتيريا في توليد الكهرباء من مياه الصرف الصحي، بل صار مألوفاً الحديث عن استخدام أنظمة فلترة المياه الكهروكيماوية الميكروبية. وفي 2016، طبق علماء صينيون التقنيات البيولوجية بصورة عملية بغية استخراج موسع نسبياً للكهرباء من مياه الصرف الصحي. وفي 2021، طور علماء أميركيون في “جامعة واشنطن” تقنية تجمع بين تنقية مياه الصرف الصحي وتوليد الكهرباء منها بواسطة البكتيريا.
وفق ما يورد موقع “الجمعية الأميركية لتقدم العلوم”، ففي الثامن من سبتمبر (أيلول) 2023، توصل علماء في “معهد البوليتكنيك” بمدينة لوزان الفرنسية، إلى تسخير بكتيريا “إي كولاي” التي تسبب التهابات مميتة حين تصيب البشر، في إنتاج الكهرباء. وشدد العالمان الرئيسان في الدراسة التي توصلت إلى هذا الاختراق العلمي، وهما محمد مهيب وميلينيا رجنت، على أن الطريقة التي تحكما فيها بتلك البكتيريا تتيح إنتاج ثلاثة أضعاف كمية الكهرباء التي تنتج بالتقنيات السائدة حاضراً. وكذلك ذكرا بأن “إي كولاي” تستطيع العيش بالطرق الهوائية واللاهوائية، وذلك من أسباب قسوة التهاباتها حين تصيب البشر، ما يتيح توظيف تلك البكتيريا في إنتاج الكهرباء من أوساط متنوعة، بما في ذلك مياه الصرف الصحي.
وفي إشارة مريحة، يحمل محمد مهيب درجة دكتوراه في البيولوجيا من “جامعة ابن طفيل”، مقرها مدينة القنيطرة في المغرب حيث ولد مهيب الذي يستقر ويعمل الآن في فرنسا.
بطاريات الوقود وكهرباء البكتيريا
الأرجح أن معظم القراء يعرفون أن مرور التيار الكهربائي بالماء يؤدي إلى تفككه إلى هيدروجين وأوكسجين. هل يمكن السير بالأمور بشكل معاكس؟ تمثلت إحدى الإجابات عن ذلك السؤال بما يعرف باسم بطاريات الوقود “فيول سيل” التي تتولى عملية الجمع بين العنصرين فيها، غشاء معقد التركيب يعرف باسم غشاء البروتون Proton Membrane الذي توجد منه أنواع كثيرة. ويعرف عن الهيدروجين أنه ذرة بسيطة التركيب، لا تحتوي سوى نواة فيها بروتون، جسيم بشحنة كهربائية إيجابية، يرافق نيوترون خالياً من الكهرباء. ويدور حول النواة إلكترون واحد. إذا جرى الإمساك بالبروتون، وبداهة مع النيوترون المرافق له، يتحرر الإلكترون وتتاح إمكانية أن يسري في سلك موصل لأن التيار الكهربائي بأبسط الأوصاف هو تدفق من الإلكترونات.
بالاستناد إلى الوصف السابق المبسط والمتدني الدقة، تعمل بطاريات الوقود بواسطة تغذيتها بالهيدروجين ثم يمسك الغشاء بالبروتون، فتتحرر الإلكترونات وتسري كتيار كهربائي. وعرفت مبادئ بطاريات الوقود منذ القرن التاسع عشر، وصنعت أولاها على يد البريطاني فرانسيس توماس بيكون في ثلاثينيات القرن العشرين. وفي أواخر القرن العشرين، حدثت انطلاقة واسعة لتلك البطاريات مع التوسع في البحوث عن الهيدروجين وتطور صناعاته.
وبتبسيط شديد الاضطراب، ترافق تطور بطاريات الوقود بظهور أسئلة عن إمكان استعمال تركيبة مشابهة لها في توليد الكهرباء، لكن مع استعمال مصدر آخر للإلكترونات. وعبر مسار متعرج، ومع التقدم في علوم الجينات التي أتاحت التحكم بأشياء كثيرة في الكائنات الحية، ظهرت فكرة استعمال البكتيريا في توليد الإلكترونات، خصوصاً أن عملية التمثل الغذائي (تحويل الغذاء إلى طاقة) يرافقها تدفق من الإلكترونات.
[بين قوسين، ربما ليس بغريب عن معظم القراء، كميات الكهرباء الموجودة في أجساد البشر. ولعل ذلك يقرب فكرة توليد الكهرباء من الكائنات البيولوجية الحية].
وفي مختبر “معهد بوليتكنيك” بمدينة لوزان، استطاع العالمان مهيب ورجنت أن يتحكما بمسار التمثل الغذائي في بكتيريا “إي كولاي” كي تنتج الكهرباء بشدة عبر تسريع آلية طبيعية فيها تسمى “تنقل الإلكترونات خارج الخلية”، ما يعني أنها تحدث على الغشاء الخارجي للبكتيريا. وإذ تنمى تلك البكتيريا على القطب السلبي لأداة شبيهة ببطارية الوقود، بمعنى أنها تعيش وتقتات في تجمعات عند ذلك القطب، تنطلق الإلكترونات من سطحها الخارجي إلى القطب السلبي، ثم تتدفق باتجاه القطب الموجب، فتكون تياراً كهربائياً.
وفي 2017، توصل باحث في الجامعة الأميركية في بيروت إلى تقنية لتوليد الكهرباء من مياه الصرف الصحي. ولعل من المفيد تذكر ذلك الأمر في ظل تخبط لبنان في ظلام فرضه عليه الانهيار والفساد.
هل يكون للمبعوث الفرنسي إلى لبنان، جان إيف لودريان، أن يذكر وزارة الطاقة ومسؤوليها المتعاقبين، عن الوعد الذي أطلقوه قبل عشر سنوات عن 12 ميغاواط/ساعة من كهرباء تنتج من مياه الصرف الصحي؟
اندبندنت