“حزب الله” “يمتّن جبهته ويُمسك بالحدود والرئاسة!
حتى الآن لا يمكن الجزم في لبنان بأن الأجواء تسير نحو تسوية رئاسية وحل يشمل الحكومة وملفات الحدود والترسيم. فعلى رغم حركة الموفدين الدوليين التي شهدها لبنان، والتي تتوج بزيارة المبعوث الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان الأسبوع المقبل لبيروت، لا يظهر في الأفق إمكان النجاح في جمع الأفرقاء حول حوار مواصفات الرئيس، ولا توافق لبناني جامع على دعوة رئيس مجلس النواب نبيه بري للحوار، خصوصاً مع رفض أطراف أساسيين وكتل معارضة من المسيحيين للدعوة التي تتلاقى مع مبادرة الفرنسيين.
اختلفت الأولويات اللبنانية بعد الزيارتين الأخيرتين لكل من الموفد الأميركي آموس هوكشتاين ووزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، لبيروت، وإطلاقهما مواقف تتخطى الشأن الرئاسي، وباتت الملفات الخلافية تنحصر في المزاحمة بين الأميركيين والإيرانيين، إضافة إلى دول اللقاء الخماسي الذي بات الفرنسيون وكأنهم يغردون خارجه مع إصرارهم على تحقيق نتائج لمبادرتهم المستمرة منذ أكثر من سنتين، والتي وضع الرئيس إيمانويل ماكرون أسسها خلال زيارته لبيروت بعد انفجار المرفأ في 4 آب (أغسطس) 2020.
ويظهر من خلال المحاولات الفرنسية التي يستكملها لودريان الأسبوع المقبل، وجود اختلافات في وجهات النظر مع دول الخماسية حول الوضع اللبناني، خصوصاً مع الولايات المتحدة الأميركية التي لم تدعم مبادرة المقايضة الفرنسية بتبنيها لخيار مرشح الممانعة سليمان فرنجية، وهي أيضاً اختلفت مع السعودية حول المواصفات والأولويات.
سقطت المبادرة الفرنسية الأولى واستعاضت عنها باريس بالتنسيق مع دول لقاء الدوحة الخماسي بمبادرة الحوار، من دون أن تتخلى نهائياً عن مقايضتها، حيث تأتي زيارة لودريان في لحظة تحولات في المنطقة، خصوصاً مع تقدم الأميركيين وعودتهم إلى لبنان عبر ملفات الترسيم الحدودية والملف المالي، على الرغم من بدء “توتال إينرجي” الفرنسية بالتنقيب عن النفط في البلوك 9 الجنوبي، فيما الإيرانيون يرتكزون في تحركهم على قوة “حزب الله” وما يفرضه من هيمنة على المسار اللبناني وقدرة على التعطيل، إضافة إلى قوته الإقليمية المتمثلة بوحدة الجبهات.
يتضح من خلال هذه الوقائع أن الفرنسيين لا يستطيعون وحدهم إدارة حوار للوصول إلى تسوية للاستحقاق الرئاسي، إذ إن تأثيرهم اليوم بات ضعيفاً وينعكس على مبادرتهم، رغم أن باريس تريد تحقيق إنجاز بحضورها في لبنان والمنطقة.
ويتبين من خلال المعطيات أن الولايات المتحدة هي اللاعب الأكثر تأثيراً وفق ما تقرره من أولويات حول الملفات المطروحة. وإذا كانت لم تحسم خياراتها الرئاسية أو أنها لم تقرر في هذا الاستحقاق، فإن أولويتها لبنانياً على ما أظهرته جولات هوكشتاين وتصريحاته ومواقفه حول ترسيم الحدود البرية، يبقى ملف الحدود اللبنانية – الإسرائيلية والتنقيب عن الغاز والنفط كملف ضامن للاستقرار في المنطقة، أي أن هذا الأمر مرتبط بأولويات واشنطن الاستراتيجية، وليس التسوية الرئاسية، وإن كانت هناك مواقف رافضة لمرشح “حزب الله” للرئاسة، وتأكيد دعم الجيش اللبناني، تزامناً مع الاستمرار في فرض عقوبات على كيانات وأسماء تابعة للمحور الإيراني.
ويبدو أن الأولويات الأميركية لبنانياً أو الاهتمامات المباشرة لواشنطن على هذه الساحة تتصل بـ”حزب الله” وإيران، انطلاقاً من الحدود التي يسيطر عليها الحزب والمقرر بشأنها وصولاً إلى الحدود مع سوريا، فالحسم فيها يفتح مباشرة على الاستحقاقات الأخرى، ومن بينها انتخابات الرئاسة التي لا تزال تشهد تجاذباً وصراعات واستعصاءات لدى القوى الداخلية واختلافات في وجهات النظر أو الأولويات بين القوى الإقليمية والدولية. وانطلاقاً من ذلك، يُتوقع ألا تؤدي دعوة الحوار بين الأفرقاء إلى نتائج في ظل الرفض المعلن من قوى المعارضة، خصوصاً الأطراف المسيحية، فيما يسعى محور “حزب الله” إلى استغلاله لتوفير التغطية اللازمة لانتخاب مرشحه سليمان فرنجية.
يتحرك “حزب الله” أيضاً على هامش الدعوة الفرنسية إلى الحوار بلقاءات ثنائية، لتوسيع دائرة التأييد لفرنجية، وللقول إنه منفتح على خيارات أخرى، من دون أن تكون جادة أو التخلي عن مرشح المقاومة. وعلى هذا يسعى إلى استمالة أكبر عدد من النواب السنّة لتأييد مرشحه، مع استمراره في تعطيل جلسات مجلس النواب للوصول إلى مرحلة يمكن من خلالها تأمين النصاب. ولذا يستمر بتفاوضه مع رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل للوصول إلى نقطة تقاطع حول فرنجية، بالتزامن مع ضغوط أخرى، من بينها التواصل مع قائد الجيش جوزف عون، وهي رسالة إلى باسيل الذي يرفض رفضاً قاطعاً انتخاب عون للرئاسة، لا بل يفضل فرنجية عليه إذا وصل إلى تسوية لمطالبه مع “حزب الله”، وإن كانت القوى المسيحية ترفض فرنجية وفي الوقت نفسه تمتنع عن المشاركة في الحوار الذي ترى فيه أنه يؤمّن شرعية للحزب وسياساته وخياراته. ويندرج اللقاء الأخير بين رئيس كتلة “حزب الله” النائب محمد رعد وقائد الجيش جوزف عون في إطار الضغط على باسيل، وأيضاً لإحراج القوى المسيحية الأخرى، لكنه يرتبط أيضاً بالمزاحمة الأميركية – الإيرانية ومواجهتهما في صراع الملفات الأخرى، وهو لا يعني بالنسبة لمحور الممانعة التخلي عن فرنجية.
توازياً، يسعى “حزب الله” إلى تمتين جبهته قبل الوصول إلى مرحلة إنضاج التسوية إقليمياً ودولياً. لذا لا يمكن فصل زيارة عبد اللهيان عن هذه الوجهة، وللقول إن “حزب الله” أيضاً هو صاحب الحل والربط في الملفات الشائكة والخلافية، فترسيم الحدود البرية التي يقترحه الأميركيون لا يمر من دون موافقة الحزب، وكذلك الاستحقاق الرئاسي، في الوقت الذي يسعى فيه إلى تكريس وحدة الجبهات من خلال اللقاءات التي عقدها الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصر الله مع رئيس المكتب السياسي لحركة حماس صالح العاروري، ورئيس حركة الجهاد الإسلامي زياد النخالة. ويكون الحزب بذلك قد أمسك بكل الملفات التي يعتبرها مرتبطة، وتمر من خلاله، حتى لو كان حصولها يستدعي الاتفاق غير المباشر مع الأميركيين كما حدث في ملف ترسيم الحدود البحرية.
على ضوء هذه الوقائع، لن يؤدي حوار لودريان إلى حسم إنجاز الاستحقاق الرئاسي، قبل أن يحقق “حزب الله” ما يريده، وهو يستفيد من ممارسات المعارضة السياسية ومواقفها، لتحقيق مكاسب داخلية وتثبيت هيمنته في السياسة والرئاسة وفي ملفات الحدود والسياسة الخارجية.
ابراهيم حيدر- النهار العربي