هوكستين – عبد اللهيان: رسائل الإنزال المتزامن… وبرّي يلتقط الإشارة
منذ إعلان الاتفاق الإيراني الأميركي على تبادل السجناء في 10 آب الماضي الذي تضمّن الإفراج عن 5 معتقلين أميركيين مقابل الإفراج عن 6 مليارات دولار من أموال إيرانية مجمّدة في كوريا الجنوبية، لمّحت صحافة الولايات المتحدة ومنابر إيرانية إلى أنّ الصفقة على أهميّتها ستكون جزءاً من صفقة أكبر تشمل صيغة لتحديث الاتفاق النووي وتطال ملفّات نزاع أخرى بين واشنطن وطهران. وفق هذا السياق ما زال التفاوض جارياً بين الطرفين، وبعضه داخل مسار ترعاه سلطنة عمان وآخر من خلال وساطة تقودها قطر. وعلى هذا يظهر في لبنان صدى أجواء الكرّ والفرّ والتفاهم والخلاف.
أجواء إيجابيّة بين الرياض وطهران
بموازاة هذا التطوّر أظهرت السعودية وإيران جرعات إضافية من العزم على تطبيعٍ كاملٍ لعلاقاتهما والمضيّ قدماً في السير بأجواء اتفاقهما في بكين في 10 آذار الماضي. تمّ بالفعل تبادل السفراء واستئناف عمل البعثات الدبلوماسية لدى البلدين بما بدّد أجواء ضبابية كانت قد أُشيعت بشأن تلكّؤ “سياسي” في فتح السفارات.
جاءت زيارة وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان للسعودية في 17 آب الماضي (ردّاً على زيارة كان قام بها نظيره السعودي فيصل بن فرحان لطهران في 17 حزيران الماضي) لإطلاق مجموعة مواقف سعودية إيرانية تضخّ أجواء إيجابية ودودة واعدة. والواضح أنّ تحسّناً إيجابياً في علاقات البلدين وصل إلى درجة إعلان كبير المفاوضين الإيرانيين، علي باكري كني، في 24 آب الماضي، عقْد اجتماع بين وزراء خارجية إيران والعراق والدول الستّ الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي في نيويورك في وقت لاحق من هذا الشهر. وفق هذا المستجدّ وجب أن نقرأ تطوّرات الداخل في لبنان.
ليس خارج السياق أن يتقاطع التطوّران الإيجابيّان فوق الأراضي اللبنانية بالذات. كادت زيارة آموس هوكستين، مستشار الرئيس الأميركي لشؤون أمن الطاقة العالمي، للبنان أواخر آب الماضي أن تكون متزامنة مع زيارة عبد اللهيان أيضاً في الأوّل من أيلول الجاري. ولئن جاء المبعوث الأميركي متأبّطاً ملفّ ترسيم الحدود البرّية اللبنانية الإسرائيلية، فإنّه يدرك أنّ إرادة طهران، من خلال الحزب، هي مفصلية على منوال ما كانت عليه في تحقيق إنجاز ترسيم الحدود البحرية في تشرين الأول 2022. وقد لا يكون خارج السياق أنّ عبد اللهيان لم يطلق مواقف سلبية “تقليدية” ضدّ الولايات المتحدة، بل صوّب هذا الجهد باتجاه فرنسا ورئيسها إيمانويل ماكرون، بما أوحى أنّ طهران تتوجّه في موضوع لبنان إلى واشنطن والرياض لا إلى باريس.
برّي التقط الإشارة
على هذا يمكن فهم الهمّة الطارئة التي أبداها رئيس مجلس النواب نبيه برّي لاكتشاف آليّات جديدة للدفع بانتخاب رئيس جديد للجمهورية. في الخلفيّة تسريب أجواء سلبية قبل أشهر من واشنطن تنذر بعزم الإدارة على فرض عقوبات على “المعرقلين” قد تطال هذه المرّة زعيم حركة أمل. كانت هذه التهديدات قد انطلقت قبل ذلك أيضاً من داخل الاتحاد الأوروبي بما أوحى بجدّية في هذا الصدد وتنسيق بين ضفّتي المحيط الأطلسي. وكان لافتاً أنّ مسألة الاستحقاق الرئاسي في لبنان هي على أجندة الإدارة الأميركية، سواء من خلال الزيارة التي قامت بها باربارا ليف، مساعدة وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى، للبنان في آذار الماضي، أو الاتصال الذي أجرته في حزيران الماضي فيكتوريا نولاند، مساعدة وزير الخارجية للشؤون السياسية، مع برّي واعتبرته “بنّاءً”.
والحال أنّ دعوة برّي، وطبعاً بالتنسيق مع الحزب، التي أطلقها في ذكرى تغييب الإمام موسى الصدر ورفيقيه، إلى إجراء حوار سياسي في مجلس النواب متبوع بجلسات انتخاب متتالية حتى انتخاب رئيس، لا تقوم على مستجدّ لبناني داخلي. فرئيس مجلس النواب يردّ الضغوط الخارجية، لا سيّما الأميركية، التي توحي أنّه المعرقل لإنجاز الاستحقاق، وينقل التهمة إلى معرقلين مفترضين جدد قد لا يلبّون دعوة الحوار، ويلاقي ما قد يحمله الإثنين المقبل المبعوثُ الفرنسي جان إيف لودريان الذي سبق أن لوّح بخيار الحوار. ويوحي برّي، ممثّلاً للثنائي الشيعي، بما تسرّب من أجواء إقليمية دولية نقلها عبد اللهيان بشأن مسارَي طهران مع واشنطن والرياض للدفع باتجاه تقديم كلّ أعراض وعروض الإيجابية والتعاون.
الابتسامات الموزّعة
غير أنّ الواجهة التي تقدّمها إيران في لبنان هي شأن قرّرته طهران في سياق تحريك أوراقها على طاولات التفاوض البعيدة. والواضح أنّ تلك الإيجابية تتطلّع إلى تفهّم الفرقاء المحلّيين والخارجيين لأجندة طهران وحزبها في لبنان، لا سيّما لجهة عدم التراجع عن التمسّك بسليمان فرنجية مرشّحاً وحيداً للتيار “الممانع”، وبالتالي طرح الحوار بشأنه. وعلى الرغم من ترحيب مشروط للبطريرك بشارة الراعي بالحوار، قد تعبّر أيضاً أجواء التحفّظ والمقاطعة والتردّد في ملاقاة مبادرة برّي عن برودة خارجية لا تدفع باتجاه الأمر.
يبقى أنّ الابتسامات التي وزّعها هوكستين وعبد اللهيان لا تتّسق مع أعراض الانهيار وتفاقم الأزمة وغياب الرؤى بصدد ما ينتظر لبنان اقتصادياً وماليّاً ومعيشياً خلال الأسابيع المقبلة. غادر المبعوث الأميركي البلد بعد إطلالات سياحية مثيرة للجدل في بيروت وبعلبك وجسّ نبض بيروت بشأن الحدود البرّية الجنوبية. وغادر عبد اللهيان البلد أيضاً تاركاً لحلفائه الرقص على إيقاعات الحوار موحياً دوماً بعدم دعم أيّ خيارات تستفزّ السعودية. وقد فهم البعض من زيارة السفير السعودي وليد بخاري للديمان، الإثنين الماضي، بأنّها استكشاف لخيار البطريرك الراعي دعم دعوة برّي للحوار.
وفي الرسائل إلى السعودية ما أعلنه حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري (المحسوب على الثنائي) من الرياض. شارك في المؤتمر المصرفي العربي (4-5 أيلول)، وأكّد، من خلال الإعلام السعودي، أنّ القرار الذي تمّ اتخاذه من قبل المصرف المركزي “هو قرار نهائي لا رجوع عنه: لن يتمّ تمويل الدولة اللبنانية لا بالليرة ولا بالدولار (…) وعلى الدولة أن تبحث عن وسائل لتغطية عجز الميزانية”. وأضاف أنّ “الحلّ سيكون من الخارج الذي يطلب التصويت على نفس القوانين الإصلاحية التي يطالب المصرف المركزي بإقرارها”. وفي رسائل منصوري المشفّرة ما يلاقي تماماً جانباً من شروط المملكة للإصلاح الجذري في لبنان لإعادة مدّ البلد بجرعات مالية وفق قواعد وشروط الصندوق الذي يصل وفده إلى بيروت مجدّداً الأسبوع المقبل.
محمد قواص- اساس