عجيبة إضافية من عجائب لبنان: منصّة “بلومبرغ”… طبخة بحص!

لم ينقطع الحديث عن إطلاق منصّة جديدة بديلة من منصّة “صيرفة”، وذلك منذ اقتراب موعد رحيل الحاكم السابق رياض سلامة إلى حين موافقة مجلس الوزراء على اعتمادها في جلسة أمس.

لكن على الرغم من موافقة أمس فلا شيء أكيد حتى اللحظة. تضرب أوساط مصرف لبنان المواعيد، بينما ولادتها في ما يبدو ما زالت مؤجّلة.

قيل إنّ إطلاقها خلال الشهر الحالي (أيلول)، ثمّ قيل لاحقاً إنّ ذلك سيحصل في أحد “التشرينَيْن”. ضرب المواعيد المتكرّر سببه الإلحاح الخارجي والضغوط التي تمارسها الإدارة الأميركية وصندوق النقد الدولي على مصرف لبنان والحكومة من أجل ضبط “اقتصاد الكاش”، الذي يتمدّد مثل بقعة زيت على ورقة.

إلّا أنّ إلحاح الخارج ربّما سيودي بنا إلى “كارثة موصوفة” في حال جرى اعتماد تلك المنصّة من دون تهيئة الأرضية النقدية اللازمة لإطلاقها، التي تبدو حتى اللحظة متعثّرة.

أكثر المتحمّسين لتلك المنصّة كان نائب الحاكم الثالث سليم شاهين. قاتل بسيفها إبّان رحيل سلامة، وأعلن أنّها “الحلّ السحري” لضبط سعر صرف الدولار ولجم السوق. لكن بعد تسلّم منصوري زمام الأمور في المصرف المركزي اختفى شاهين، كما اختفى النائبان الآخران للحاكم، عن المشهد!

معلومات مصدرها مقرّبون من الحاكم الجديد وسيم منصوري تشير إلى أنّ الأخير ربّما متردّد في إطلاق منصّة “بلومبرغ” بهذا الشكل المتسرّع، وذلك بسبب علمه المسبق بلعبة السوق وشكله “الأعرج”. فهو سوق ذو توجّه واحد عنوانه: الطلب. أي الطلب على الدولار بينما الطلب على الليرة معدوم، وتلك هي أولى العراقيل في وجه المنصّة.

كيف تعمل “بلومبرغ”؟
يُفترض بمنصّة “بلومبرغ” أن تكون شفّافة. تسجّل عمليات العرض والطلب بشكل يومي لدى المصارف ولدى الصرّافين الشرعيين الذين يلتزمون تسجيل جميع عمليّاتهم عليها. لكن حتى في ذلك لا شيء مضمون. فالمصارف مشلولة، وليست لديها إيداعات. وهي أيضاً تعتمد على “الكاش” للتداول لأنّ الحسابات المصرفية مجمّدة. جميع العمليات الخاصة بالمصارف تحصل عن طريق وسطاء، وهم غالباً صرّافون أو مضاربون.

أمّا الصرّافون فلا مصلحة لهم أن يلتزموا تقييد بيانات عملياتهم اليومية خوفاً من دفع الضرائب وكشف حجم أعمالهم أمام الجهات الرقابية. الزبائن أفراداً وتجّاراً ومضاربين بدورهم لا مصلحة لهم أن يصرّحوا عمّا يشترونه من دولارات، لأنّ وزارة المالية ستكون قادرة على معرفة أحجام أعمالهم ومقارنتها بما يدفعونه من ضرائب.

يعني كلّ هذا أنّ المنصّة في حال أُطلقت في ظلّ هذا الواقع ستحصل على جزء يسير من الـData ولن يمكنها بناء صورة واضحة عن توجّهات السوق، بينما التعاملات الجدّية ستكون خارجها، وهذا يعني أنّنا سنعود إلى لعبة “السوق الموازي”، تماماً مثلما يحصل اليوم، من دون بلوغ هدف توحيد أسعار الصرف وتحريرها. وهي المعضلة الثانية أمام المنصّة.

هذا كلّه يخبرنا أنّ نجاح منصّة مصرف لبنان الجديدة بحاجة إلى أمرين:

1- قطاع مصرفي فاعل، وهذا أمر مفقود من دون الإصلاحات.
2- تمتّع الدولة وأجهزتها الرقابية بهيبة تستطيع عبرها مكافحة المخالفين والمتهرّبين من الضرائب، وإجبار الصرّافين على التصريح عن عملياتهم اليومية وبيانات زبائنهم. وهذا الأمر من العناوين المفقودة في ظلّ الفوضى المستشرية.

المركزيّ والماليّة لديهما الحلّ!
يدرك مصرف لبنان تلك الحقائق، ولهذا يخطّط في ما يبدو مع وزارة المالية من أجل فرض حلّ بديل سريع و”أقلّ ضرراً” (عليهما لا علينا نحن المواطنين) لهذه المعضلة من خلال إغراق اللبنانيين بالضرائب والرسوم التي ستزيد الطلب على الليرة اللبنانية.

هكذا يستطيع المركزي أن يموّل الدولة بالدولارات، وأن يحقّق شيئاً من التوازن لمنصّته الموعودة من خلال خلق طلب على الليرة من أجل دفع الضرائب والرسوم. بهذه الطريقة يلجأ المواطنون إلى التخلّي عن دولاراتهم من أجل استبدالها بليرات لدى الصرّافين (لعبة رياض سلامة القديمة)، وهذه الدولارات هي تلك المخبّأة في المنازل أو تلك التي يتقاضونها على شكل رواتب.

الطريقة الأسهل من أجل فعل ذلك تعتمد على ركيزتين:

1- زيادة منسوب الجباية: هذا ما يبرّر تهافت وزارة المالية اليوم من أجل تفعيل العمل في الإدارات الرسمية المعطّلة، والبحث عن حلول لمعضلة “النافعة” أو “الدوائر العقارية”. وكلّ ذلك من أجل تكثيف الجباية، أي تكثيف جمع الليرات التي “يجترّها” المصرف المركزي في السوق مجدّداً حتى يشتري بها الدولارات، من دون طباعة أو إضافة أيّ ليرة واحدة من جيبه. وهذا ما يفسّر إصرار منصوري على مبدأ “عدم إقراض الدولة”.

2- رفع الضرائب والرسوم: وهذا يبرّر “الفجع” في زيادة الرسوم والضرائب ضمن موازنة عام 2024 التي تناقشها الحكومة. فهذه الأموال، وخصوصاً الليرات، ستوفّر للدولة المزيد من الليرات، التي سيستفيد منها مصرف لبنان من أجل ضبط كتلة الليرات النقدية، والاستمرار في “تمويل” حاجات الدولة إلى الدولارات.

هذا سيوفّر الليرات الكافية لاستمرار شراء الوقت، وربّما النجاح في إطلاق المنصّة بما تيسّر، لكن حتماً ليس لضبط سعر الصرف. فنظراً إلى حاجة الدولة الكثيفة إلى الدولارات، فإنّ حصولها على المزيد من الليرات المتأتّية من الضرائب والرسوم سينعكس عبر مصرف لبنان (صرّافها الخاصّ) طلباً على الدولار في السوق، أي ارتفاعاً بسعر الصرف. فكلّما زادت إنتاجية إدارات الدولة ارتفع سعر صرف الدولار، وكلّما بقيت تلك الإدارات مشلولة ومعطّلة حافظ سعر الصرف على استقراره. وتلك هي عجيبة إضافية من عجائب لبنان!

عماد الشدياق- اساس

مقالات ذات صلة