بين “القوات” وبري مناورات ولكمات ومناوشات وكمائن وتسجيل نقاط: “لا أنا صديقه، ولا عزيزه””!
بات مؤكداً أن العلاقة بين “القوات اللبنانية” ورئيس مجلس النواب نبيه بري ليست على ما يرام، إذ شهدت لكمات متبادلة أدت إلى تشويهها، وتحديداً منذ بدء الاستحقاق الرئاسي، ولا يتوانى الطرفان عن توجيه الانتقادات القاسية الى بعضهما البعض عند كل تطوّر أو مبادرة، وهذا ما بات واضحاً في وسائل الاعلام.
لا شيء يدعو إلى الاستغراب، فتموضع الطرفين يبدو متناقضاً: الرئيس بري يمثّل الثنائي الشيعي وهو المسؤول عن إدارة اللعبة البرلمانية، أما “القوات اللبنانية” فتتميّز بتمثيلها النيابي الكبير وتضم التكتل الأكبر في البرلمان، وتشكّل العمود الفقري للمعارضة، لذلك التصادم حتمي وخصوصاً في معركة مصيرية كمعركة الانتخابات الرئاسية.
واللافت أن ما يجري بين “القوات” وبري من مناوشات وكمائن وتسجيل نقاط، يدحض كل ادعاءات “التيار الوطني الحر” الذي لعب سابقاً على وتر إتّهام “القوات” بمسايرة بري والوقوف على خاطره، وتبيّن مؤخراً أن الطرفين لا يهادنان بعضهما بتاتاً، بل يتواجهان بشراسة وتبدو المعركة بينهما معركة كسر عظم.
الاختلاف في وجهات النظر السياسية كان موجوداً دائماً بين “القوات” وبري، لكن هذا لم يمنع الطرفين من التواصل في إطار المؤسسات الدستورية، فبري رئيس مجلس النواب، وعلى الرغم من أن “القوات” لم تنتخبه ولو مرة واحدة، إلا أنها كانت ملزمة بالتعاون معه بإحترام من منطلقات دستورية وسياسية، وليس سراً أن “القوات” تميّز بين السيئ والأسوأ، والأسوأ هو “حزب الله” بالنسبة اليها، وكان من الطبيعي أنها تفضّل التواصل مع ممثّل المكوّن الشيعي الأقل تطرفاً وهو بري، مع ذلك، بقي الخلاف السياسي قائماً بينهما، إلا أن ذلك لم يُفسد في الودّ قضية، إذ كانت الكيمياء الشخصية تجمع بين بري ورئيس “القوات” سمير جعجع، فالصداقة شيئ والخصومة السياسية شيئ آخر، وعلى الرغم من هذه الخصومة التقى الطرفان في ملفات عدة في المجلس النيابي وصولاً إلى “التلاقي الكهربائي” في مجلس الوزراء في وجه سياسات جبران باسيل حيال بواخر الكهرباء، لكن ذلك لم يمنع حصول بعض المناوشات وأهمها الاشتباك عبر “تويتر” بين بري وجعجع عام 2016 توجّه فيه بري إلى جعجع قائلاً: “هو يجلس فوق في معراب ويتسلى بنا، بعد أن بات عاجزاً عن أن يهاجم الجنرال عون كما اعتاد سابقاً”، فردّ جعجع: “صديقي الرئيس نبيه بري، معاذ الله أن أتسلّى بكم. جلّ ما في الأمر أنني أتسلّى معكم.” وأضاف: “أما في ما يتعلق بالتوقف عن مهاجمة عون، فأعتقد أن قلبك يرقصُ فرحاً كلّما تفاهم لبنانيان. مع السلام وعلى الأمل بلقاءٍ قريب في معراب بالذات.”
لا شك في أن جعجع يحترم “لبنانية” حركة “أمل”، فهي آتية من تجربة الامام المغيب موسى الصدر وريادته على مستوى العيش المشترك، وبالتالي كلّما تمايز بري عن مشروع “حزب الله”، يقترب من أفكار الصدر ويلاقي مساحات مشتركة مع الأحزاب اللبنانية الأخرى، ويلعب دوره كما يجب في المجلس النيابي وفق الدستور اللبناني.
والمؤسف أن كل المناوشات وعمليات التصعيد بين “القوات” وبري كان سببها منطق “حزب الله” المتعارض مع منطق الدولة ومؤسساتها والدستور، ولعل أخطرها ما حصل في الطيونة – عين الرمانة، وتحوّل الى اشتباكات مسلّحة إثر تظاهرة للثنائي الشيعي مطالباً بإقصاء القاضي طارق البيطار، وقد تصدّعت العلاقة بين الطرفين قليلاً، لكن التواصل السياسي في المؤسسات لم ينقطع.
نقطة التحوّل الكبيرة التي قصمت ظهر البعير في العلاقة بين “القوات” وبري كانت الاستحقاق الرئاسي، نظراً إلى أنه مصيري وبالغ الأهمية، وبدت المواجهات ضارية في الميدان الدستوري، فبري اعتبر أن الدستور يسمح له بفرط النصاب عبر انسحاب نوابه و”حزب الله” من الجلسة الانتخابية بدلاً من ترك الجلسات مفتوحة وانتخاب رئيس، فيما “القوات” والمعارضة فسّرتا ذلك بأنه لا يتلاءم مع روحيّة الدستور الذي يحتّم انتخاب رئيس، وبقيت المناوشات مستمرة حول تفسير الدستور طوال 12 جلسة انتخابية يتكرر فيها الجدل. علماً أن “القوات” عمدت إلى استهداف حيادية بري في إدارة الجلسات الانتخابية والخفة التي تُدار بها العملية.
والمفارقة أن بري المعروف بأرانبه التي يُخرجها من قبعته، وضع شرط “الحوار” المسبق لانتخاب رئيس في وجه المعارضة، مستخدماً هذا الطرح كل فترة ليبرر اقفاله المجلس النيابي. حتماً لم تقف “القوات” مكتوفة اليدين، بل تصدّت لبري في بيانات متتالية لتحميله مسؤولية التعطيل. وعلى ما يبدو اختار رئيس مجلس النواب الاصطفاف إلى جانب مشروع “حزب الله” حتى ولو كلّفه ذلك فرض عقوبات أميركية وربما دولية عليه، وقد هاجم بعض نواب المعارضة ومن بينهم “القوات”، بأنهم يفسدون عليه في المحافل الدولية وفي جولاتهم الخارجية.
من المعروف أن بري تهمّه صورته كثيراً كرجل دولة، وما يحصل اليوم من تهجّمات أساءت إلى صورته كثيراً، واضطر أحياناً إلى ارسال نائبه في المجلس النيابي الياس بو صعب إلى معراب للتخفيف من وطأة التهجّمات التي تستهدفه، واقناع جعجع بالحوار.
لكن المعركة مستمرة بين الطرفين وتأججت أكثر عندما رشّح بري رئيس تيار “المردة” سليمان فرنجية للرئاسة، بالاتفاق مع الفرنسيين، فواجهته “القوات” والمعارضة بشراسة، معتبرتين أن وصول مرشّح الممانعة إلى قصر بعبدا خط أحمر. وما كان من “القوات” والمعارضة إلا أن رشحتا الوزير السابق جهاد أزعور للرئاسة بعد التقاطع مع جبران باسيل حول هذا الإسم ما أربك فريق الممانعة، وخاضوا المعركة في جلسة انتخابية، حصد فيها أزعور أكثر من 50 صوتاً، بل جمع العدد الأكبر من الأصوات في هذه الانتخابات، إلا أن بري و”حزب الله” واجها فريق المعارضة كالعادة بالانسحاب من الجلسة قبل الدورة الثانية!
لم تتوقّف الأمور عند هذا الحد، ولا شك في أن بري يتميّز بالذكاء في “نبش” أرانب من هنا وهناك، وأخرج منذ أسبوعين “أرنباً” جديداً هو الحوار لمدة 7 أيام ثم الإنصراف إلى جلسات انتخابية متتالية، ولا شك في أن هذه الخطوة أربكت المعارضة قليلاً، إلا أن “القوات” بقيت الأكثر تماسكاً من خلال رفضها مبادرة بري “الملغومة” عبر كلمة جعجع في قداس الشهداء، واستغل بري والممانعون موقف البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي الذي فُهِمَ منه أنه مؤيد للحوار، لكن تبيّن بعد الاتصالات بأن البطريرك يوافق على مبدأ الحوار وفقاً للدستور وليس كما يقترحه بري، وقد لعبت وسائل إعلام الممانعة دورها في تضليل بعض الشخصيات في المعارضة.
لا يزال بري مستمراً في مبادرته، وربما يتّجه إلى عقد جلسة حوار بمن حضر أو من دون حضور “القوات” و”الكتائب”، لكن لا يبدو أن ذلك سيفتح الطريق أمام انتخاب رئيس.
مشكلة “القوات” مع بري أنه يفسّر الدستور وفق مصالح الثنائي الشيعي، وقد أساء الى دوره كرئيس للمجلس بسبب تحالفه مع “حزب الله” وتصميمه على خدمة محور الممانعة. أما مشكلة بري مع “القوات” فهي رفضها للحوار والتواصل والتنازل قليلاً للمصلحة الوطنية، وتجنيب لبنان الفتن.
لكن الحقيقة أن الطرفين متباعدان ومشروعهما مختلف، والمواجهات مستمرة في المجلس، إذ يحاول بري الدعوة إلى جلسات تشريعية أحياناً، ترفض “القوات” المشاركة فيها لأنها تعتبر أن المجلس هيئة انتخابية اليوم وليس تشريعية، وقد تمكّن بري من تسجيل بعض النقاط على “القوات” وخصوصاً في تأجيل الانتخابات البلدية والاختيارية، إلا أن “القوات” نجحت حتى الآن في منع بري من ايصال فرنجية إلى الرئاسة، إضافة إلى تسجيلها بعض النقاط عليه في اللجان المشتركة وقراره بشأن التوقيت الصيفي وصفقة المطار… وربما لهذه الأسباب كلّها، بات أكثر انفعالاً وتشدداً معها.
ربما رهان “القوات” على “لبنانية” حركة “أمل” لم يعد قائماً، لأنها تنحاز إلى مشروع “الدويلة” ووحدة الساحات وتستخدم أدبيات “حزب الله” نفسها، وبالتالي تتجه الأمور إلى مزيد من التصعيد بينهما.
وحقيقة العلاقة بين بري وجعجع اليوم، تُختصر بموقف سابق لبري قال فيه: “منذ حادثة الطيونة لم أرد عليه. كان قبلاً يقول عني الصديق العزيز. لا أنا صديقه، ولا عزيزه”، فأجابه جعجع: “لن أستطيع النوم الليلة!”.
جورج حايك- لبنان الكبير