تلف وضياع مئات من المقتنيات: السرقة الكبرى في المتحف البريطاني..آثار الشعوب في خطر

في بدايات العام 2021، تواصل المؤرخ الفني الدنماركي، إيتاي غراديل، مع المتحف البريطاني، بشأن عدد من القطع الأثرية المعروض في سوق العاديات، التي شك في أن ملكيتها تعود إلى المتحف. جاء رد مديري المتحف مقتضباً بأن كل شيء على ما يرام وعلى غراديل ألا يقلق، وهو الرد الذي فهم منه أنّه طلب متأدب بعدم الإزعاج. إلا أن القطع المثيرة للريبة لم تتوقف عن الظهور، وصادف غراديل قطعاً أثرية تباع في موقع “إيباي” للتجارة الإلكترونية، ومع أنه لم يعثر عليها في لائحة مقتنيات المتحف، لكنه وجد أن ملكيتها تعود إلى شخص تبرّع بكامل مجموعته للمتحف في العام 1814. وتتبّع غراديل حساب “إيباي” فوجد أنّه يعود إلى أحد العاملين في المتحف.

في الأسبوعين الماضيين، بدأت الأخبار تتسرّب عن قيام المتحف بفصل أحد موظفيه، وإبلاغ إدارته للشرطة عن تلف وضياع مئات من مقتنياته. لاحقاً سيتضح أنّ العدد يتجاوز 2000 قطعة يعود بعضها إلى أكثر من 3500 سنة. وبالرغم من المطالبات بإعلان لائحة بالمقتنيات المفقودة، فإن كل ما أعلنه المتحف حتى الآن هو أن بعض المفقودات، حلى زينة وآثار يونانية ورومانية، وأنّ بعضها قد استعيد بالفعل. أما تعليق المتخصصين القانونيين في عمليات استعادة المقتنيات الأثرية المنقولة بطرق غير شرعية، فرجح أن تستهلك عملية تتبع المفقودات واستعادتها عقوداً عديدة.

(تمثايل آلهة اغريقية في المتحف)

يمتلك المتحف البريطاني 8 ملايين قطعة، وتعرض قاعاته قرابة 1 في المئة منها فقط، فيما ترقد البقية في المخازن، معظمها بلا فرصة للظهور أمام الجمهور على الإطلاق. لن تؤثر السرقة في إمكانات المتحف بكل تأكيد، إلا أنّ الضرر الذي لحق بسمعته فادح. كان احتفاظ المتحف البريطاني بهذا الكم الهائل من آثار تنتمي لشعوب أخرى يسوغ بحجة أن تلك الذخائر تتمتع بحماية أكبر في لندن. وذلك لتوفر الإمكانات التقنية والمعرفية لحفظها، أو بسبب احتمالية تعرضها في بلادها الأصلية للتخريب أو الضياع نتيجة عوامل الإهمال والفساد وانعدام الأمن وتواضع الإمكانات المتوفرة. يتذرع ذلك التبرير الكلاسيكي بحجة “العالمية”، أي أن التراث الإنساني لا ترجع ملكيته إلى مجموعات قومية بعينها بقدر هو مشترك كوني، وأنّ الأحق به هو الأقدر على صيانته.

على خلفية أخبار السرقة، تجددت المطالبات في أعمدة الصحف التابعة للحزب الشيوعي الصيني وشبكات التواصل الاجتماعي، بإعادة المقتنيات الصينية من المتحف البريطاني. فالمتحف يحتفظ بأكبر مجموعة من الآثار الصينية في العالم الغربي، تم اقتناء معظمها عبر النهب الاستعماري أو السرقة. ومن مصر، ترددت دعوات مماثلة لإعادة حجر رشيد، وهو القطعة الأشهر في المتحف، وجاء ذلك على لسان وزير الآثار المصري السابق، زاهي حواس. أما رد الفعل الأعلى صوتاً فجاء من الحكومة اليونانية، التي طالبت طويلاً باسترجاع التماثيل الرخامية لبارثينون أثنيا. وأتاحت لها أخبار السرقة، المحاججة بضرورة إعادة التماثيل إلى موقعها التاريخي خوفاً عليها من التبديد البريطاني وعدم الكفاءة.

في العام 2016، كان تعيين الألماني، هارتفيغ فيشر، على رأس المتحف البريطاني، سابقة هي الأولى من نوعها، إذ كان هو أول مدير غير بريطاني للمتحف العريق. ولم يكن هذا الاختيار مستغرباً، فهو يتوافق بصورة مباشرة مع السردية “العالمية”، فالمتحف ومقتنياته وأيضاً مديره، لا يحملان أي صبغة قومية، بل يحكم عملية الاختيار معايير الخبرة والمعرفة والكفاءة. وبحسب هذا السياق، كان فيشر من أكثر المتحمّسين لشجب طلبات استعادة مقتنيات المتحف من حول العالم. ففي حالة البارثينون، صرح ببساطة أنّ التماثيل الرخامية موضوع النقاش، لا تعود ملكيتها للحكومة اليونانية، بل مجلس أمناء المتحف.

قبل أيام قليلة، قدّم فيشر استقالته من منصبه في المتحف البريطاني، معلناً في بيان مسؤوليته الكامل عن التقصير الفادح الذي قاد إلى فقدان مئات من مقتنياته.

المدن

مقالات ذات صلة