الموارنة و”رحلة” التنقيب عن نظام جديد: فرنسا الضعيفة لم تعُد الأم الحنون
يحتفل لبنان الكبير بعامه الـ103، ووسط الكلام الشعري والوجداني، تبرز فرضية جديدة تطال استمرارية البلد بشكله الحالي وسط كثرة الكلام عند المكوّن المسيحي عن تغيير النظام المركزي الذي لم يعد قابلاً للحياة ويتسبّب بالأزمات المتتالية.
عندما رسم البطريرك الماروني الياس الحويك حدود لبنان الكبير بمساعدة فرنسا، كان يفكّر اقتصادياً واستراتيجياً، فهو رغب في مدّ الحدود نحو الأراضي المقدّسة من جهة، وإنشاء كيان لديه مقوّمات إقتصادية بعدما كان جبل لبنان خارجاً من مجاعة كبرى أدّت إلى هلاك نصف قاطنيه، وبالتالي لا يمكن إسقاط الوضع الحالي والتوازنات السياسية على ما كان قبل 103 أعوام.
ربح الموارنة الرهان وبات لديهم بلد، وقد نجحوا حيث فشلت بقية الأقلّيات في المنطقة، لكنّ هذا النجاح لم يُستثمر كما يجب بسبب عدم القدرة على بناء نظام حديدي، وبسبب التدخّلات الإقليمية والدولية من قيام دولة إسرائيل ووعي القومية العربية إلى وصول الرئيس جمال عبد الناصر إلى الحكم والوحدة السورية – المصرية، وصولاً إلى الهزائم العربية وظهور العمل الفدائي الفلسطيني وتعاطف المسلمين معه وتحوّل لبنان بلداً بديلاً، ومن ثمّ وضع سوريا يدها على لبنان.
وبعد كل ما حصل وما زال يحصل، وانهيار الوضع في لبنان، إستفاق الموارنة على واقع أليم، فكل ما بنوه ينهار، والكيان يسقط، والمؤسسات العامة تتهاوى الواحدة تلو الأخرى، ومؤسساتهم التعليمية والإستشفائية والخدماتية التي رفعت إسم لبنان عالياً وأسّست لنهضة البلد والنهضة العربية تسقط أمام أعينهم، لذلك برز وعي ماروني ومسيحي يسأل: إلى أين نحن ذاهبون؟
من يجتمع بالقادة المسيحيين، سواء كانوا روحيين أم سياسيين يسمع الكلام نفسه، وهو «أننا باقون في هذه الأرض ولن نهجرها ولن نتخلّى عن لبنان ونصبح رعايا في دول أجنبية، وما يمرّ علينا اليوم ليس أصعب مما مرّ على أجدادنا».
وكترجمة لهذه المقولة بدأ بحث مسيحي جدّي في سبل الخروج من الأزمة وتخفيف ذيولها تحت مقولة «الشاطر يخلّص نفسو»، وهذا الأمر لا يعني مطالبة مسيحية بالتقسيم، كما يروّج البعض، أو التخلّي عن لبنان الـ10452، الشعار الذي رفعه الرئيس الشهيد بشير الجميل، بل الأمر يتطلّب نقاشاً جدّياً وعميقاً حول إدارة المرحلة والوصول إلى شكل حكم جديد يحفظ للموارنة والمسيحيين حقّهم في البقاء والعيش الكريم وتخفيف تردّدات الأزمة الإقتصادية.
لم يتخلَّ الموارنة عن لبنان الكبير بعد 103 سنوات على ولادته، بل صار الرأي العام المسيحي مقتنعاً بأنّ العيش في ظل الدولة المركزية مستحيل، فهذه الدولة يسيطر عليها حزب مسلّح يستمدّ قوّته من إيران، والمسيحيون يرفضون منطق الإستقواء، وأن يكونوا أهل ذمّة في بلدهم. ولا يُنكر أحد وجود خوف على الدور المسيحي، وقد عبّر عن هذا الأمر البطريرك مار بشارة بطرس الراعي في معرض حديثه عن خرق الدستور والأعراف التي تنصّ على تولّي ماروني رئاسة الجمهورية.
كثر ينتقدون ما يقوم به رئيس «التيار الوطني الحرّ» النائب جبران باسيل حول مفاوضته «حزب الله» على اللامركزية الإدارية والمالية والصندوق الإئتماني، وإذا كانت لباسيل مصالحه الخاصة وليس أهلاً للثقة، إلّا أنّ الجوّ العام المسيحي هو في اتجاه البحث عن إطار جديد للتعايش وتنظيم الخلاف والإختلاف، وما حادثة الكحّالة إلا تعبير صارخ عن مدى حالة الإحتقان التي وصل إليها الشارع المسيحي الرافض للتجاوزات الخارقة للسيادة.
ولا يتوقف الغضب المسيحي على الأمور السيادية، بل يتعدّاه ليصل إلى طريقة إدارة الدولة وسط نقمة عارمة من أنّ المسيحي يدفع الضرائب لدولة مركزية فاشلة ويحصل على الخدمات مثله مثل بقية المكوّنات التي لا تدفع ضرائب وتستقوي بقوة الأمر الواقع.
تعتبر بكركي نفسها حامية لبنان الكبير، لذلك ترفض كل مشاريع التقسيم، لكنها ضدّ طريقة إدارة الدولة، ومع البحث عن صيغة تحمي هذا الكيان ولا تجعل طرفاً يسيطر على الآخر، في حين تدرس «القوات اللبنانية» كل الخيارات لمواجهة تحدّيات المرحلة المقبلة وتحاول بناء شبكة أمان مسيحية تحمي الوجود المسيحي، من دون الكشف عن مخططاتها أو ما تنوي فعله.
يفتقد الموارنة إلى راعٍ إقليمي ودولي، ففرنسا الضعيفة لم تعُد الأم الحنون، لذلك ما يجري في الشارع المسيحي هو تثبيت سياسة الإتكال على الذات ليس لمخاصمة الآخرين، بل لحفظ الوجود في المئوية الثانية للبنان الكبير.
الان سركيس- لبنان الكبير