تسمم جماعي و”صفيرة”من عاليه إلى بعلبك: حوالي 1785 حالة “اليرقان”!
يبدو أن التحلّل المؤسساتيّ المقرون باستنزاف كافة مقدرات لبنان الطبيعيّة والبيئيّة، المُضاف إليه غياب أي إجراءات وقائيّة أو حاسمة، يسهم بتهالك الأمن الغذائي والسّلامة العامة، حاليًّا.
وليس غريبًا اليوم أن نسمع عن انتشار المزيد من الأمراض والأوبئة بين جموع اللّبنانيين: الأمراض السّرطانيّة والمزمنة والرئويّة، نتيجة التّلوث في الهواء والماء، الأمراض الهضميّة والأوبئة، والتّسمم نتيجة فساد ما يستهلكه المقيمون، مأكلاً ومشربًا. وصولاً لاضطرابات الكبد والمرارة والدورة الدمويّة، نتيجة فساد المياه والملوثة بمياه الصرف الصحيّ، على سبيل المثال.
أما المُقلق في موجة التّسمم الأخيرة، هو المحاولات الحثيثة لتحويل الموضوع من أزمة مرتبطة بالأمن الغذائي، لحالةٍ فرديّة، نادرة، ويجري التّدخل لصالحها بعد إصابتها لا قبل. ففيما يستعصي الحصول على إحصاءات دقيقة للمصابين وأعدادهم، والحالات الصحيّة التّي تصاحبهم، بات واضحًا أن دور الوزارات المولّجة، وعلى رأسها وزارة الصحّة، يقتصر على التّبليغ والتّوقيف الجزئي للمحال التّجاريّة مع شرط تصحيح الأعطال.
انتشار الأمراض الهضميّة والتّسمم
مساء السبت الفائت، 26 آب الجاري، واليوم الذي لحقه، سُجلت عشرات حالات التّسمم بسبب تدني معايير النظافة والجودة الغذائيّة في مطعم “بيت الآغا” بمنطقة عاليه، الذي كان يُقيم حفلة “زجل” صاحبتها مأدبة عشاء مقابل 13$ على الشخص الواحد، ولدى تناول الحاضرين وجباتهم الغذائيّة، بدأ بعضهم يشكو من آلام معويّة وغثيان، الأمر الذي امتد ليشمل مجمل الحاضرين، الذين اضطر عددٌ منهم لاحقًا لزيارة المشافي، بسبب تفاقم عوارض التّسمم. فيما صُدم عددٌ من مراجعي إحدى المستشفيات، برفض الأخيرة إصدار تقرير بالتّسمم، فيما اُشتبه بمحاولة لطمس الموضوع ودفع المرضى للتكتم.
وفي هذا السّياق تُشير دانا أبو غادر، إحدى الحاضرين في الحفلة آنفة الذكر أنها ولحظة تقديم الأطعمة والمشروبات اشتبهت فورًا بفسادها، خصوصًا أن عمتها قد شعرت بالغثيان فورًا، ولدى وصولهم إلى البيت، بدأت عوارض التّسمم تظهر على جميع أفراد الأسرة، تدريجيًا. قائلةً: “علمنا بعد انتهاء الحفلة، أن شخصين اضطرا للذهاب إلى مستشفى بعقلين، وقد صدر تقرير يثبت تسممهما وما يرافقه من عوارض صحيّة”. مُضيفة: “حاولت مرارًا التّواصل مع وزارة الصحّة للتبليغ وأُعلمت أنهم في صدد معالجة الموضوع، لكن للآن لم نر أي إجراء. وهذا ما قد يجعل صاحب المطعم يتخلص من كافة الأدلة التّي تفيد بتورطه بالانتهاكات الصحيّة. كما ونعمل على تقديم شكوى بحقّ مشفى مروان بو عياش، التّي رفضت إصدار تقرير بحالة تسمم، ذلك بعد اتصال المطعم بها”.
الاستهتار الرسميّ
وأفادت مصادر “المدن” في وزارة الصحّة أن المعنيين بهذا الملف يعملون جاهدًا لتدارك وطأة ظاهرة التّسمم الغذائي والتيفوئيد، معتبرين أنها ليست بالمعممة، لكنها باتت ملاحظة. وأن الأرقام لا تشي بارتفاع المعدلات حسب ما هو متداول.
وتحولت موجة التّسمم الأخيرة في لبنان، والمتزامنة مع الموسم السّياحي الصيفيّ والارتفاع غير المسبوق في درجات الحرارة، من حالات فرديّة ناجمة عن عوامل الطقس وحساسيّة الأطعمة، إلى حالة من التوجس الاجتماعي- العمومي. فاللبنانيون باتوا يشتبهون بأن المطاعم لا تراعي في خدماتها شروط السّلامة الغذائيّة. ومع الإقفال الجزئي المستمر للمحال والمطاعم ومعامل تصنيع الأغذيّة، وتدخل السّلطات المتأخر، وتدهور ثقة المواطن بأجهزة الرقابة وحماية المُستهلك، من الممكن القول إن الأمن الغذائي في لبنان، متدهور ومثار تخوف، ويستدعي تدخلاً عاجلاً وإجراءات تحول دون تفشي ظاهرة الاستهتار التّجاريّ بحياة المستهلكين وصحتهم.
الكوليرا و”الصفيرة” والأوبئة الخطيرة
مؤخرًا، يتمّ تداول أخبار مرتبطة بانتشار ما يُسمى وباء “الصفيرة” أو اليرقان أو التهاب الكبد الفيروسي “أ”، والتّي تُعد من اضطرابات الكبد والمرارة، وتنتقل عن طريق برازي- فموي، مصدره مياه الصرف الصحيّ ووصول الجراثيم البرازية (فيروسات أو بكتيريا) إلى الفمّ عبر استهلاك المياه أو الأطعمة الملوثة بالبقايا البرازية أو عن طريق الأيادي الملوثة (فيما تمتد فترة حضانة المرض، منذ دخول الفيروس إلى جسم الإنسان لحين ظهور العوارض، من 14 إلى 28 يوماً). وذلك في مختلف المناطق اللّبنانيّة وتحديدًا بعلبك- الهرمل.
أشارت بيانات الترصد الوبائي في وزارة الصحّة، إلى تسجيل ما يربو عن 1785 حالة “اليرقان” على امتداد لبنان، فيما قدر مراقبون أن النسبة الأكبر موزعة بين الشمال اللبنانيّ (النسبة الأكبر) والبقاع الشمالي. هذا وناهيك بحالات الكوليرا التّي تتشابه أسبابها ومصدرها مع التهاب الكبد الفيروسي “أ”، حيث بلغت الحالات حوالى 840 حالة.
كذلك، تحدثت تقارير إعلاميّة وطبيّة عن انتشار اليرقان في مخيمات اللاجئين في عرسال وسائر البقاع الشمالي، ولامت أخرى اللاجئين بالتّسبب بانتشار المرض في أوساط اللبنانيين، بسبب “تصريف مياه الصرف الصحيّ في الينابيع والأنهار التّي تروي بلدات قضاء بعلبك”. فيما يُشير مراقبون أن الأسباب لا تتوقف فقط على الضغط على البنى التحتيّة بسبب اللاجئين حسب ما يزعم البعض، بل إن غالبية قرى وبلدات قضاء بعلبك لا تملك شبكات سليمة لتصريف. وإن توافرت، فهي مهترئة ولم تعالج للآن، ناهيك عن غياب ثقافة التعقيم الصحيح، والشرب من مصادر مياه غير مأمونة.
كذلك بسبب المزروعات التّي يتمّ ريها بمياه الصرف الصحيّ، وتتغاضى عنها أجهزة الرقابة، في حالات الضبط النادرة. ويحاول المزارعون الكبار رشوة القوى الأمنيّة والرقابية أو ترهيبهم. وقد نُظمت سابقًا محاضر ضبط لأمن الدولة بحقّ عددٍ من المزارعين الذين يعمدون علانيةً لريّ مزروعاتهم بمياه الصرف الصحي التي تحول إلى الأنهار المستخدمة للشرب والمحتوية على البكتيريا وفيروس التيفوئيد.
وإزاء السّجال الحاصل، قامت وزارة الصحّة العامة بنشر بيان لترّد فيه على ما يتم تداوله في بعض وسائل الإعلام حول انتشار مرض “الصفيرة ألف” في محافظة بعلبك الهرمل، مؤكّدةً أنّ “مرض التهاب الكبد الفيروسي الألفي مستوطن في لبنان، ممّا يعني تسجيل حالات في أكثر من منطقة لبنانية سنوياً على مدار العام”. ويضيف البيان: “لقد سجل لبنان ارتفاعاً في عدد الحالات من بداية عام 2023 وحتى تاريخه مقارنة مع الفترة نفسها من العام الماضي لا سيما في أقضية طرابلس، عكار، المنية الضنية وبعلبك، حيث شهدت بلدة عرسال تحديدًا ارتفاعاً ملحوظاً في أعداد الحالات. وقذ سجل لبنان لغاية تاريخه 1785 حالة، منها، 204 في بعلبك”. وأضافت: “يقوم فريق الترصد الوبائي التابع للوزارة بجمع عينات مياه من المناطق الأكثر تسجيلاً للحالات من أجل فحصها في مختبرات المياه التابعة للمستشفيات الحكومية”.
الإجراءات الوقائيّة وجمع العينات
أفادت مصادر “المدن” في منظمة “أطباء بلا حدود” عن مراجعة عدد من الحالات المصابة بالصفيرة العيادات والمستوصفات الخاصة بالمنظمة، خصوصاً في عرسال، وقد تريثت المنظمة بإصدار أي تصريح لحين تأكيد خروج نتائج الفحوص، وعليه تواصلت “المدن” مع المكتب الإعلامي في المنظمة، فيما أرسل الأخير توضيحًا صدر عن المنظمة قائلاً: “في ظل المتداول عن انتشار حالات التهاب الكبد A في لبنان، يهم منظمة أطباء بلا حدود التوضيح أنه خلال الأسبوعين الماضيين، قامت فرقنا بتحديد 18 شخصاً يظهرون أعراضًا شبيهة بأعراض التهاب الكبد في عرسال في محافظة بعلبك الهرمل. وبموجب التدابير المعتمدة اللازمة والرسمية للإبلاغ عن الأمراض الانتقالية، أُحيل هؤلاء المرضى إلى دائرة الترصد الوبائي في وزارة الصحة العامة للمتابعة الإضافية، ولإجراء الفحوص المخبرية لتأكيد هذه الحالات”.
وتضيف المنظمة: “إن هذه الأرقام لا تؤكد ارتفاعًا ملحوظًا بالمقارنة مع الحالات التي سُجّلت سابقًا في عيادات المنظمة. علاوة على ذلك، لا تكفي هذه البيانات المتاحة وحدها لتمكين المنظمة من إعطاء نظرة شاملة عن الوضع الوبائي الأوسع في البلاد. فمنظمة أطباء بلا حدود في سياق عملها تعطي لقاحات مجانية في عياداتها في عرسال ووادي خالد لجميع السكان بغض النظر عن الديانة والجنسية. تسير هذه الحملات وفقًا للبرنامج الوطني للتحصين في وزارة الصحة العامة، الذي يستثني لقاح التهاب الكبد A. وبهذا الصدد، تشدد أطباء بلا حدود على التزامها بتقديم الدعم إذا نوّهت الوزارة إلى حاجته”.
المدن