تسويات ناشطة خلف المواقف الحامية… لإنتاج «صفقات» كبرى في عملية الشراء والبيع
تبدو الحركة ناشطة في عواصم المنطقة مع تعدد الملفات المفتوحة والمقرونة بتحركات ميدانية كما هو حاصل في سوريا. وهذه الحركة الناشطة تشمل لبنان الذي يستضيف المفاوض الاميركي آموس هوكستين ووزير الخارجية الايرانية عبد اللهيان في زيارة جديدة لا تحمل مسافة زمنية بعيدة عن زيارته السابقة. كما ينتظر لبنان الزيارة الوداعية للموفد الفرنسي لودريان بعد خطاب مثير للرئيس الفرنسي حملَ كثيراً من الرسائل وواكب دوراً محورياً لباريس في قرار التجديد لقوات الطوارئ الدولية العاملة في جنوب لبنان. وقد أثبتت التجارب والمحطات التاريخية انّ هذا المزيج من الميدان والديبلوماسية يُنبئ بحركة تحضيرات ناشطة في الكواليس لإنتاج «صفقات» كبرى او بتعبير «ألطف» للتفاهم على تسويات تطاول مناطق وبلداناً عدة وفق القاعدة المعمول بها بأنّ الساحات كلها تخضع لتفاهمات موحدة في عملية الشراء والبيع.
فعلى المستوى الميداني استمرت الاحتجاجات الشعبية في السويداء في الجنوب السوري، ولو وفق سقف محدد، والمقصود هنا من دون الانزلاق في اتجاه العنف او استخدام السلاح لكن المطالب اصبحت اكثر وضوحاً خصوصا حيال النقطة المتعلقة بحكم ذاتي ولكن تحت سلطة دمشق. غالب الظن انّ المنطقة الجنوبية ستتحول لاحقاً شريطاً يحظى بصلاحيات حكم ذاتي ولكن وفق صيغة محددة، لتشكل مساحة خالية من النفوذ الايراني وهو ما كانت تشتكي منه اسرائيل دوماً، وتكون في الوقت نفسه خالية من عصابات تهريب «الكابتاغون» وهو ما يشكل مطلباً سعودياً ملحّاً ويتولى الاردن المساهمة في مكافحته مع الاشارة الى انشاء الاهالي نقاط تفتيش على طريق دمشق ـ السويداء، بذريعة حماية القادمين. وهذا لا بد من ان تستتبعه خطوات اخرى في الشمال السوري حيث تسعى تركيا لتثبيت نفوذها في وقت يريد الاكراد ان ينالوا صلاحيات حكم اوسع في مناطق وجودهم. في اختصار هو ترتيب ميداني لصيغة النظام الجديد في سوريا والواضح فيه اعادة «دوزنة» النفوذ الايراني.
واللافت والمعبر جداً ما يجري على مسافة غير بعيدة من الشمال السوري، وتحديدا في كردستان العراقية. ففي الكواليس كلام عن اتفاق ايراني ـ عراقي يقضي بنزع سلاح التنظيمات الكردية – الايرانية المعارضة للسلطة الايرانية والموجودة في منطقة كردستان في العراق. وفي الكواليس كلام عن ان التفاهم بين طهران وبغداد يشمل نقل هذه التنظيمات الكردية من اصول ايرانية الى مناطق بعيدة عن اماكن وجودها الحالي القريبة من الحدود العراقية ـ الايرانية.
وفي وقت التزم الحزب الديموقراطي الكردستاني الحاكم الصمت فإنه من المعروف العلاقة التحالفية القائمة بينه وبين واشنطن، اضافة الى علاقات سرية مع اسرائيل.
وكانت ايران تقصف باستمرار مواقع هذه الفصائل الكردية وتصفها بالارهابية، كما اتهمتها بأنها شجعت حركة الاحتجاجات الاخيرة والتي حصلت العام الماضي. ألا يفتح ذلك باب التساؤلات حول المصادفة الزمنية لهذه الخطوة والتي لا بد من ان تحظى بتوافق اميركي؟
كذلك الا يعني منح الجنوب السوري لامركزية ادارية وربما سياسية وامنية، التمهيد لنظام جديد في سوريا يرتكز على هذا المفهوم والذي من المنطقي ان ينسحب لاحقا على العراق ولبنان؟ هذا في الوقت الذي استعادت العلاقات السعودية ـ الايرانية انتعاشها وهو ما ادى الى أول لقاء لولي العهد السعودي محمد بن سلمان مع مسؤول ايراني على مستوى وزير الخارجية.
وعلى خط موازٍ استمرت التسريبات الصادرة عن الادارة الاميركية حول امكانية ازالة العوائق امام التطبيع السعودي مع اسرائيل. ومن المنطقي ان تكون لائحة هذه العوائق طويلة وتطاول الامن السعودي في الخليج والادوار المستقبلية، وايضا الملف الفلسطيني وصيغة الدولتين.
ووسط هذه «الزحمة» الاقليمية تم إمرار قرار التجديد لقوات الطوارئ الدولية العاملة في جنوب لبنان. صحيح ان فرنسا أدّت دوراً اساسياً وحاسماً في مسار إمرار هذا القرار لكن يوجد معانٍ سياسية معبرة ومهمة لما حصل.
فعلى المستوى الفرنسي تواصل رئيس الحكومة نجيب ميقاتي هاتفياً اكثر من مرة مع الرئيس ايمانويل ماكرون وهو قدم له ايضا تصوراً مكتوباً ما ادى الى دور فرنسي حاسم سمح باعتماد الاخراج الذي فتح الباب امام قرار التجديد. لكن الاهم يبقى بالاستنتاجات السياسية لما حصل، والتي يمكن تلخيصها بالنقاط الآتية:
1 – حرص باريس على تأكيد دورها في لبنان وأنها لم ولن تتعب على رغم من النكسات المتلاحقة لمبادرات ماكرون على مستوى الازمات اللبنانية الداخلية.
2 – تمسك ماكرون بعلاقة جيدة مع «حزب الله» وهو ما ظهر ايضاً في كلام امينه العام، ولو انه حرص على انتقاد ايران في الوقت نفسه. والمقصود هنا الجمع والتوازن بين مراعاة العلاقة الجيدة مع «حزب الله» والالتزام بالمواقف الصادرة عن الدول الخمس.
3 – الحرب والتصعيد العسكري ليسا في حسابات اي طرف، والجميع معني بالتهدئة.
4 – «حزب الله» منفتح على الحوار وسط الدوشة الاقليمية المفتوحة من السعودية الى سوريا، وان هذه الخطوة تفتح باب التفاوض حول حسم النقاط العالقة عند الحدود اللبنانية ـ الاسرائيلية.
ووفق هذا التوقيت اختار المفاوض الاميركي موعد عودته الى لبنان وقد لا تكون اشارات قرار التجديد لليونيفل هي فقط الدافع لهذه العودة، بل غالب الظن التطورات الاقليمية المتسارعة، و«الورشة» الاقليمية المفتوحة. وليس سراً ان واشنطن تدرك أن التداخل اللبناني بالتعقيدات الاقليمية يضع ثلاث ملفات على الطاولة وهي: امن اسرائيل واللاجئين الفلسطينيين والنازحين السوريين.
وهذا ما يفتح بابا ينتظره «حزب الله» للتفاوض مع واشنطن.
في السابق نجح هوكشتاين في انجاز الترسيم البحري. والتفاوض البحري شارك فيه «حزب الله» ولو ان الثمن دُفع في العراق، حيث تشكلت الحكومة وتم ترتيب الاوضاع بنحو يراعي المطالب الايرانية. لكن التفاهم حول الحدود البرية وإن يأتي مكملاً للترسيم البحري فإنه يحمل ابعاداً اخرى تطاول الملف الفلسطيني الذي ينعكس على مشروع التطبيع السعودي ـ الاسرائيلي اضافة الى بصماته على اعادة رسم الخريطة السياسية في المنطقة.
من هنا ربط عودة عبد اللهيان الى لبنان مجدداً بالملفات المطروحة على الساحتين الاقليمية واللبنانية. فمن جهة هنالك التطورات الميدانية في سوريا والسعي الاميركي للتعديل من حجم التأثير الايراني في سوريا، وهو ما سينعكس على لبنان حتماً.
ومن جهة ثانية هنالك خفايا زيارة عبد اللهيان الى السعودية والمستجدات في الملف الايراني ـ السعودي، ومن جهة ثالثة هنالك الباب الذي فتح حول انجاز الحدود اللبنانية الجنوبية والتحركات الاميركية في هذا الاتجاه. ولكن كل هذه التحركات لن تعني بالضرورة ان النتائج ستظهر قريباً، الا ان المسار المطلوب من المفترض ان يكون قد بدأ.
أضف الى ذلك خصوصا القلق من الاوضاع الاقتصادية والمعيشية والتي تؤثر بلا شك على الاستقرار الامني. ونُقل في هذا المجال قلق القائم بأعمال حاكمية مصرف لبنان وسيم منصوري من التحديات المالية والنقدية بدءا من الشهر المقبل.
الواضح ان شريحة واسعة من اللبنانيين مرهقة ولم تعد قادرة على الاستمرار طويلاً. ووفق «الباروميتر العربي» فإنّ 85 % من اللبنانيين الذين يفكرون بالهجرة يردون الاسباب الى الواقع الاقتصادي والمعيشي. لكن المصالح الدولية لا تهتم بأوضاع الناس ومصيرهم بل فقط بالمكاسب والارباح.
جوني منيّر- الجمهورية