شيطنة الخصوم والتهويل وتهديد جعجع والجميّل… والدعوة “الجنبلاطية” إلى الحوار

تهديد جعجع والجميّل بالقتل… والدعوة “الجنبلاطية” إلى الحوار

 

يسير المشهد السياسي وفق مسارين متناقضين تماماً. فمن ناحية يدور الحديث عن الحوار، ولا يهمّ هنا قبوله أو رفضه، لكنّ المهمّ أنّ مجرّد بقاء الحوار كطرح دليلٌ على وجود مسار سياسيّ معيّن. كذلك الأمر بالنسبة للكلام عن الدستور وآليّاته وضرورة ملء الفراغ في المؤسّسات والتسوية الرئاسية، إلى آخر المعزوفة، التي تدّل هي الأخرى على أنّ هناك مساراً سياسياً في البلد لا أحد يستطيع إنكاره. ولا مصلحة لأحد، أصلاً، في إنكاره، ولو كان الجميع يتبادلون الاتّهامات بتعطيله، لكنّهم يتحيّنون الفرصة لاستئنافه بدفع داخلي أو خارجي.

من ناحية ثانية هناك مسار لا يمتّ إلى السياسة بصِلة، بل هو نقيض لها وتدور مجرياته في “الشارع” وعلى وسائل التواصل الاجتماعي. وآخرُ تجلّيات هذا المسار فيديو إطلاق النار على صور رئيسَيْ حزب القوات اللبنانية سمير جعجع وحزب الكتائب اللبنانية سامي الجميّل. فحتى لو لم يتبنّ أحد الفيديو، وهو أمر متوقّع، فهو يدلّ على مسار شعبي وسياسي وإعلامي في البلد متواصل منذ سنوات، وبالتحديد منذ عام 2005، ويقوم على تهديد الخصوم وممارسة العنف اللفظي والرمزي وحتّى الجسدي ضدّهم. وفي الوقت نفسه تدعو الجهة التي تقود هذا المسار، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، إلى الحوار وتعيب على الآخرين رفضه. بل أكثر من ذلك، تدعو هذه الجهة عينها، أي فريق الممانعة بقيادة الحزب، بالتوازي مع استعراض القوّة بكلّ أشكالها ضدّ خصومها، إلى تنفيذ الدستور واحترام الآليّات الدستورية، بل وتتّهم خصومها بانتهاك الدستور وآليّاته، فضلاً عن التآمر على المقاومة وطعنها في الظهر.

استراتيجية

هذا ليس تناقضاً في ممارسة وخطاب فريق الممانعة الذي انتشى جمهوره بالفيديو المذكور، بل هو يعبّر عن منهجية واستراتيجية لديه تقومان على شيطنة الخصوم والضغط والتهويل عليهم للقبول بالمسار السياسي كما يرتئيه هذا الفريق لا كما يُفترض أن يكون وفقاً لقواعد لعبة سياسية طبيعية يحكمها الدستور والعقد الاجتماعي بين اللبنانيين.

لذا ليس تفصيلاً أن ينتشر هذا الفيديو في هذا التوقيت بالذات، أي في عزّ الأزمة الرئاسية والخلاف السياسي الدائر في شأنها، الذي يتفرّع إلى خلافات أعمق تتعلّق بالنظام السياسي والكيان و”العيش معاً”. والحال فإنّ الفيديو إيّاه الذي يستهدف قيادتين مسيحيّتين يعطي أسباباً كافية لهواجس المسيحيين ورفضهم التأقلم مع “حالة الحزب” التي لا تشتدّ وتعظُم إلّا بتجاوز القوانين الاجتماعية والسياسية التي يُفترض أن تنظّم العلاقات بين الجماعات والأفراد في لبنان.

الواقع أنّ الفيديو وإن كان لا يقدّم جديداً لناحية سلوك فريق الممانعة، فهو يؤكّد مجدّداً أنّ المشكلة الأساسية هي في قدرة هذا الفريق على التفلّت من أيّ محاسبة قانونية وسياسية. لذلك فإنّ المشكلة التي يجسّدها الفيديو ليست في مضمونه وحسب، بل وفي عدم القدرة على ردع ممارسات كهذه، ومحاسبة القائمين بها. وهنا بيت القصيد. إذ إنّ قوّة الحزب وفريقه ليست في سلاحه بذاته ولا بقدرته على استخدامه، بل في سيطرته على الدولة بكلّ أجهزتها وتطويعها لمصلحته، فإن تحركّت وقامت بأدوارها فلمصلحته، وإن لم تتحرّك للقيام بأدوارها فلمصلحته أيضاً.

تسوية الحزب مع نفسه

هذا يحيلنا إلى مفهوم التسوية مع الحزب التي يدعو إليها الزعيم الدرزي وليد جنبلاط كحلّ وحيد للأزمة السياسيّة في البلد. معضلة الطرح الجنبلاطي ليست في الدعوة إلى التسوية بحدّ ذاتها، بل في أنّه يضع المشكلة عند المعارضة، وبالتحديد المسيحية، التي ترفض حتّى الآن الحوار أو التسوية مع الحزب، ولا يضعها عند الحزب الذي لا يريد أن تكون التسوية معه إلّا استسلاماً له، وغير ذلك لا يريدها ولا يتوسّلها، كما قال أمينه العامّ الإثنين.

في الواقع أنّ التسوية الحقيقية في البلد هي تسوية الحزب مع نفسه، أي بين كونه تنظيماً مسلّحاً مدعوماً من طرف خارجي وبين كونه قوّة سياسية تمثّل شريحة من اللبنانيين، مثله مثل بقيّة القوى السياسية بما في ذلك القوات اللبنانية والكتائب اللبنانية.

سلوك الحزب حتّى الآن لا يدلّ على أنّه مستفيد من فائض قوّته فحسب، بل على أنّه عاجز عن إجراء مثل هذه التسوية بين طبيعتَيْه، التي يوجبها انخراطه في الدولة انخراطاً طبيعياً وإقامته علاقات طبيعية مع سائر اللبنانيين. وستكون التسوية مع الحزب من دون ذلك مستحيلة إلّا عندما تكون تسوية أمر واقع، أي فاقدة لشروط التسوية الحقيقية. بيد أنّ أيّ تسوية ممكنة الآن هي عبارة عن استحواذ إضافي للحزب على الدولة بكلّ أدواتها وأجهزتها، أي تحويلها دولة ضدّ نفسها وضدّ خصومه، بمن فيهم جعجع والجميّل اللذان لم يتحرّك أحد في الدولة لمحاسبة مهدّديهما في الفيديو المذكور آنفاً.

لكنّ الحزب مع ذلك يتمنّى لو يدخل جعجع والجميّل في أيّ تسوية مرتقبة لأنّه يسعى إلى غطاء كامل له ضمن الدولة اللبنانية. وهذا هو معنى التسوية بالنسبة إليه، أي أن يمنحه الأفرقاء اللبنانيون غطاءً كاملاً ضمن الدولة، فقوّته الأساسية تكمن هنا، أي في التحكّم بالدولة بأوسع غطاء وطني ممكن. وهنا المعضلة الثانية في الطرح الجنبلاطي، لدرجة أنّ المعارضة لا تستحقّ تسميتها إلّا في حال حافظت على رفضها لاستحواذ الحزب على الدولة. وهذا مسار طويل لكنّه ضروري، ويستحقّ أن تبقى المعارضة خارج الحكم شريطة أن تعيد إنتاج سبل مواجهتها لهيمنة الحزب في ضوء أولويّاته هو لا أولويّاتها هي!

ايلي القصيفي- اساس

مقالات ذات صلة