الفدراليّة ليست طرحاً مسيحيّاً… هي ردّة فعل على هيمنة الحزب

بعد الحروب الدينيّة في أوروبا، برز مفهوم جديد في إدارة المجتمعات وحكم شعوبها. إنّه مفهوم الدولة، وتحديداً “الدولة الأمّة”. قامت هذه على عقد اجتماعي اتّفقت أطرافه، من مكوّنات المجتمع الدينيّة والإثنيّة والقوميّة واللغويّة، على أن تكون الدولة هي السلطة المخوّلة إدارة شؤونهم وحمايتهم. ونتج عن هذا العقد دستورٌ يساوي بين جميع المواطنين في الحقوق والواجبات. تحوّلت الجماعات المتقاتلة إلى شعب متّحد لديه جيش واحد يدافع عن الدولة والشعب والأرض في مواجهة الخطر الخارجيّ، وقوى أمنيّة تسهر على تطبيق القانون وتقمع من يخالفه. كلّ مجتمع اعتمد نظام حكم يتناسب مع واقعه الجيوسياسيّ. بعض المجتمعات اعتمدت النظام المركزيّ، ومثالها الأبرز فرنسا. وبعضها الآخر اعتمد نظاماً فدرالياً، ومثاله الأبرز الولايات المتحدة الأميركيّة. وفي النظامين قامت دولة قويّة تحفظ القانون وتضمن المساواة بين المواطنين.

الفدراليّة ليست طرحاً مسيحيّاً

في السنوات الأخيرة زاد الحديث عن الفدرالية في لبنان. وبدا أنّ هناك جوّاً مسيحيّاً عامّاً مؤيّداً لها. وفي الواقع إنّه طرحُ أفراد أنشأوا جمعيّات لا تمثّل سوى ذاتها. ربّما المستجدّ هو تسلُّل هذه الفكرة إلى بعض البيئات الحزبيّة على الساحة المسيحيّة. ونلاحظها على مواقع التواصل الاجتماعيّ. والسبب ضعف الدولة المركزيّة وتلكّؤها عن القيام بواجبها في حماية المواطنين وفي إنفاذ القانون على الجميع وبروز جماعة، جماعة الحزب، فوق القانون ومهيمِنة على الدولة ومؤسّساتها وسلطاتها. وهنا لا بدّ من التذكير باغتيالات ما بعد 2005 التي أودت بحياة سياسيين وأمنيّين وإعلاميين، وبغزوة 7 أيار، وبمقتل النقيب الطيّار في الجيش اللبناني سامر حنّا، وباغتيال زميله العقيد منير أبو رجيلي والمصوّر جو بجّاني والناشر المثقف لقمان سليم، وبتعثّر التحقيق في قضية انفجار مرفأ بيروت، وبغزوة الطيّونة، وبحادث الكحّالة الأخير، وربّما يحصل غداً حادث آخر أو اغتيال آخر…

برز في الآونة الأخيرة خطاب إسلاميّ يرفض الفدرالية، عِلماً أنّها ليست طرحاً مسيحياً لا من قبل مرجعيّتهم الدينيّة ولا من قبل أحزابهم السياسيّة. وهذا واضح. وهو ما أكّدته لـ”أساس” مرجعية دينيّة كبيرة في دار الإفتاء.

اللامركزيّة الموسّعة

بيان نواب الـ 31، الذي صدر ردّاً على رسالة الموفد الفرنسي جان إيف لودريان إلى مجلس النواب، تطرّق إلى “اللامركزية الموسّعة بوجهَيها الإداريّ والماليّ” في إطار كلامه عن “تنفيذ كلّ مندرجات وثيقة الوفاق الوطنيّ في الطائف”. والكلّ يعلم أنّ تلك الوثيقة أقرّت “اعتماد اللامركزية الموسّعة” في إطار “دولة واحدة موحّدة ذات سلطة مركزيّة قويّة”. هدف تجمّع النواب هو إقامة جبهة سياسيّة معارضة لهيمنة الحزب على الدولة. وجوهر البيان “وضع الإطار السياسيّ للمواجهة في المرحلة الراهنة”، إذ “لم يعد هناك أيّ مجال لإضاعة الوقت، أو ترتيب تسويات ظرفية تعيد إنتاج سيطرة الحزب على الرئاسات الثلاث والبلد، بل بات لزاماً على قوى المعارضة كافّة التحرّي الجادّ عن سبلِ تحقيق سيادة الدستور والقانون وصون الحريات على كلّ الأراضي اللبنانيّة وحصر السلاح بيد الدولة وقواها العسكريّة الشرعيّة”.

أثار ذكر “اللامركزية الموسّعة” حساسيّة بعض الأطراف السياسيّة التي تجد نفسها طبيعياً في مواجهة الحزب، خاصّة أنّ بيان النواب ذكرها “بوجهَيها الإداري والماليّ”. وربّما ربط بعضهم بين اللامركزية وطرح الفدراليّة، ولا سيما أنّ الأطراف الأساسيّة في تجمّع النواب الـ 31 مسيحيّة في غالبيّتها (القوات والكتائب). وهنا لا بدّ من توضيح بعض النقاط:

1- إنّ اللامركزية على اختلاف أنواعها لا تعني الفدرالية. والإدارات المناطقيّة لا تسلب السلطة المركزيّة صلاحيّاتها، إنّما يأتي اعتمادها “تسهيلاً لخدمة المواطنين وتلبية لحاجاتهم المحليّة”، كما جاء في وثيقة الوفاق الوطنيّ.

2- يجب أن لا يثير طرح اللامركزيّة حساسيّة البعض. فهي ضروريّة لإزالة الإجحاف اللاحق بمناطق الأطراف على مستوى الإنماء وللحفاظ على التوازن في التوزّع الديمغرافي في البلاد. وهي تساهم في بقاء السكّان في مناطقهم فلا يضطرّون إلى النزوح إلى العاصمة والإقامة في ضواحيها التي أصبحت مكتظّة. لذلك كانت اللامركزية في قلب مشروع فؤاد شهاب الذي يتغنّى به الجميع. وبدأ تطبيقه في قضاء كسروان.

3- إنّ أيّ نوع من اللامركزية الإدارية يستوجب لامركزيّة ماليّة معيّنة ولو بحدود. إذ كيف للامركزية إدارية أن تقوم بدون مال؟ وكيف للامركزية إدارية أن تكون فعليّة في ظلّ تمسّك السلطة المركزيّة بجباية كلّ الضرائب وتحكّمها بتوزيعها على المناطق؟ أليست أموال البلديات لدى الدولة اللبنانيّة خير مثال على سوء هذا النظام؟

4- غالبية الدول المركزية في الغرب توجّهت، أو تتّجه، نحو اللامركزية، بما فيها فرنسا، نموذج الدولة المركزيّة في العالم.

معركة استعادة الدولة

هل يعني هذا أنّه حان وقت طرح اللامركزيّة؟

ربّما ليس الوقت المناسب الآن. أما وقد طُرح فيجب أن لا يكون عائقاً أمام انضمام كلّ الأطراف السيادية إلى معركة استعادة الدولة وإزالة هيمنة الحزب عليها. وهي معركة سياسيّة ديمقراطية سلميّة وطويلة. وتتطلّب جبهة سياسيّة، طال انتظارها منذ سقوط تحالف 14 آذار وحلمها ومشروعها، تضمّ كلّ الأطراف والطوائف المعارضة للحزب وميليشياته وسلاحه. من هنا أهميّة تجميع القوى والشخصيات السنيّة في إطار موحّد، كما أورد كاتب هذه السطور عنه في مقال سابق. فوجود شخصيات سنّيّة في الجبهة الحاليّة، مع احترامنا لها، غير كافٍ.

د. فادي الاحمر- اساس

مقالات ذات صلة