لماذا يغلق الثائرون مقرات حزب البعث في السويداء؟

مع إصدار قادة الحراك في السويداء بيانهم الثوري الذي يتضمن توجياتهم لمسار تحركاتهم، والذي تضمّن قراراً ملفتاً بإغلاق مقرات حزب البعث، يظهر جلياً أن الخطوات الراهنة تقطع وبشكل كبير مع الرمزيات الثقافية السائدة أو المفروضة تاريخياً على السوريين، وخصوصاً تلك المتعلّقة بالحضور السياسي للنظام في المكان.

هذا السياق من الأفعال المضادة، ليس جديداً، فقد حطمت السويداء تماثيل الأسد مرات عديدة، وطردت رجال أمنه، ورفعت البيارق، وسمّت مجموعات رجال الكرامة بها، وانتهت بأن رفعت علم الاستقلال السوري، المعتمد حالياً بين السوريين كعنوان لكل من يقفون ضد النظام الحاكم المستبد.

لا تتعلق مشكلة الثائرين في السويداء السورية المنتفضة ضد نظام بشار الأسد مع حزب البعث العربي الإشتراكي، بوجود مقراته في كل بقعة على طول المحافظة وعرضها، فالحيثيات المادية لا تبدو مهمة في سياق صراع الرمزيات الراهن، بل إن جذر المشكلة معه يأتي من زاوية المعنى.

فمنذ أن استولى البعثيون على السلطة في العام 1963، سعى هؤلاء إلى تعليب الذاكرة السورية، وجعلها ملحقة بهم، فالاستقلال عن المحتل الفرنسي، لم يعد هو الحدث الأبرز في الأجندة الاحتفالية الوطنية، كما أن سلسلة المناسبات التي تخص مكونات الشعب السوري، باتت عندهم مجرّد تفاصيل محلية يمكن تجاهلها، وفي أحسن الأحوال تركها تجري من دون تكريسها على مستوى المجتمع كله!

تجفيف منابع الاحتفال الجماهيري السوري، كان يقابله فتح لمجريات الاحتفال الآخر الحزبي البعثي، حيث حلّت ذكرى تأسيس حزب البعث في الواجهة، ومن قبلها كرست ذكرى الانقلاب البعثي في 8 آذار 1963، وانتهى المشهد عند تاريخ انقلاب حافظ الأسد على رفاقه في 1970، والذي سُمي بذكرى “التصحيح”…!

وضمن سلسلة الاستبدالات هذه، كانت عملية تهميش عيد الجلاء، تجري على قدم وساق، وبينما كانت وسائل إعلام النظام تكرّس له بضعة ساعات في يومه فقط، كانت هذه الوسائل تنتج كومة هائلة من المنتجات الفنّية التي تطنب في الاحتفال الحزبي، وتكرس له أياماً، يتم فيها تكريس شخصية الديكتاتور، ومنجزاته، فيستتبع كل شيء لوجوده، بعدما ألحق اسم البلد به، وجرى حفر صورته بابتذال في كل تفاصيلها.

خربت في عقول السوريين فكرة المناسبة الوطنية، فبعد عقود من تخريب الذاكرة، بات أي احتفال بالذاكرة الأصلية السابقة صعباً، بعدما صودر تاريخ نضال أجدادهم وآبائهم ضمن الصياغة الرسمية المسطرة بالأقلام البعثية وكأنها تفاصيل مختلقة، لا أحداث حقيقية سجلها المستعمر الفرنسي ذاته، قبل أن تسجّلها أقلام المؤرخين الرسميين.

هنا قد يُطرَح سؤال عن سر العداء بين الديكتاتورية وبين الذاكرة العامة التي سبقت وجودها، ويذهب كثيرون إلى الإجابة عبر إحالة الأمر إلى تكوين بنيوي فيها يجعلها تلغي الاحتمالات البديلة عنها. فهي تلجأ إلى تجريم الآخرين ممن مرّوا قبلها، وإلى شيطنة البدلاء عنها. وكذلك فإن الحياة لا يمكن أن تستمر في حال انهارت وذهبت، ومن هذه الزاوية يمكن فهم الشعار الإجرامي “الأسد أو لا أحد”، ويمكن فهم توصيف علم الاستقلال على أنه علم الانتداب، وغير ذلك من القضايا التي ما أنفك إعلام النظام يشتغل عليها منذ بداية الثورة وحتى الآن.

في وقت ما، ضمن السنوات الماضية، طرح الثائرون فكرة تقول بأن السوريين يحتاجون إلى استقلال جديد، بعد استقلالهم من حقبة الاستعمار. ولعل المقاربة هنا، وبِرُكونها إلى المساواة بين احتلال المستعمر واحتلال الديكتاتورية للحياة السورية، تفضي بشكل أو بآخر إلى ضرورة أن يستعيد القوم ذاكرتهم بكل تفاصيلها التي كُرست في النصف الأول من القرن العشرين.

وفي هذه المنطقة، محاولات دؤوبة لاستعادة وجه يعتقد الجميع بأنه أرقى وأهم لحظات الذاكرة الوطنية، وتأتي رمزية الاحتفال الوطني بجلاء المستعمر. فلا يجب أن يتم التعاطي معها كمجرد حالة احتفالية، بل ينبغي أن تؤخذ من مضامينها لا من شكلها، أي استعادة تأسيس مشروع الدولة الوطنية، بوصفها إطاراً يجمع كل أفراد الوطن الواحد، مع احترام خصوصياتهم، وتكريس حريتهم، في سبيل تجاوز الكارثة التي علقت فيها سوريا منذ عقود.

وعلى الإيقاع ذاته، ينظر الثائرون إلى حزب البعث ومقراته ككتلة صماء من فلذات القهر والإجبار وفرض القباحة والإذلال. عثرة، تذكر الجميع بالديكتاتورية. ولعل الحوار الذي حدث بين الناشطين الذين يغلقون الشوارع، وبين رئيس فرع الحزب الذي يريد التوجه إلى عرشه، فسأل محدثه: “انت بتعرف مع مين عم تحكي؟”، يلخص القصة كلها.

المدن

مقالات ذات صلة