التدخين من التباهي إلى المنع… آفة تبعث دخانها في رئة العالم

رغم أن البشرية مارست التدخين منذ أكثر من خمسة آلاف سنة، فإن آخر الاكتشافات وجدت بذوراً من نبات التبغ المتفحم في مدفأة قديمة في ولاية يوتاه في الولايات المتحدة الأميركية. ما يدل أن الأميركيين القدماء قد يكونون أول من استخدم هذه النبتة منذ أكثر من 12 ألف سنة. وقد تكون شعوب المايا سبقت السكان الأصليين لأميركا في استخدامه حيث تظهر النقوش في المواقع الأثرية كهنة المايا يدخنون خلال تأدية طقوس دينية.

بدأت زراعة التبغ في أوروبا في القرن 16، واعتبرت معياراً نقدياً، كما زرع منذ بداية القرن 17 في الصين واليابان والهند والشرق الأوسط وأفريقيا. وظل التبغ حكراً على الأثرياء حتى القرن 19 حين بدأ الإنتاج التجاري للسجائر، بعد أن كان “الغليون” و”السيجار” يشعلان حقبة لا بأس بها من الزمن. وبعد أن كان مضغ أوراق التبغ شائعاً في القرن 19، مشت سوق السجائر بإيقاع بطيء قبل أن يغزو العالم ليصل إنتاج السجائر قبل 100 عام إلى 70 مليار سيجارة في أميركا، ثم بدأ تسويقها للسيدات بشكل واسع.

ثوار ومثقفون ونساء

بعد أن ارتبط التدخين لردح من الزمن بالطبقية، حيث تباهى الأثرياء والبرجوازيون بتبغهم وأكسسواراته، أصبح التدخين يرتبط بالثورات، وكأنه علامة على التمرد ورفض السلطة، فدخنه ثوار أميركا الجنوبية، وكان رمز الثورة أرنستو تشي غيفارا مدخناً شرهاً، وتحول “السيجار” إلى جزءاً من شخصيته. وانتشر التدخين كالنار في الهشيم في أوساط المثقفين، ووجدت السيجارة مرتعاً بين أصابعهم. وربما كان لصورهم ينفثون دخانها بفخر وكبرياء تأثيراً على الأجيال للتشبه بهم. ودخلت السيجارة بدخانها كتب الشعر والأدب كتوقيع لا بد منه، يكتب عنها الأدباء ويتغزل بها الشعراء، ولا تبرح أصابع الفنانين، وربطت بالإبداع والحرية، كما أنها صارت عنواناً للنضج والثقافة والعمق وأصحاب التجارب، كما صورتها أستوديوهات هوليوود والأستوديوهات المصرية حينها. فكان الرجل الجذاب والبطل يدخن بعصبية وانفعال حيناً، أو كمظهر من الجدية والرصانة أحياناً، أما السيدات المدخنات فكن إما النافذات أو بنات الليل كما درجت تسميتهن حينها. دخل التدخين في الوجدان الشعبي للناس، وبطريقة غسل الأدمغة، من خلال جعله عادة طبيعية. ودفعت شركات التبغ مبالغ طائلة لتظهر بشكل عفوي وطبيعي في الأفلام في تلك الحقبة. وبعد أن كانت النساء يخجلن من التدخين لفترة زمنية طويلة بخاصة في المجتمعات الأبوية، أصبحت الشركات تنتج سجائر خاصة بالنساء رفيعة وبتصاميم أنثوية. حتى أصبح أكثر من ثلث الكوكب مدمن ينفث دخان السجائر والنارجيلة و”السيجار” و”الغليون” وغيرها من الوسائل التي تحمل في طياتها التبغ والماريجوانا والقنب وأنواع مختلفة من الأعشاب، وما فيها من نيكوتين ومواد مهدئة وإدمانية.

من التسويق إلى التحذير

وعلى رغم أن التدخين فرض نفسه كعادة اجتماعية، حيث من عيوب الضيافة ألا نقدم السجائر في البيوت، والمناسبات، عدا عن جلسات النارجيلة التي انتشرت بزخم في العقود الثلاثة الأخيرة في المناطق العربية خاصة، إلا أن حرباً تبدو شعواء، في الظاهر في الأقل، تشن على التدخين وتفرض قيوداً قاسية حول العالم، وإن بدرجات متفاوتة بين الدول والقارات، ولكن يبدو أن نجاحها يمشي مشية سلحفاة في مناطق عدة، ويكاد يكون معكوساً في مناطق أخرى. في منتصف القرن 20 باتت المخاوف الصحية تنتشر وتربط التدخين بسرطان الرئة وأمراض القلب. حتى أجبر مصنعو التبغ طباعة عبارات تحذير من مضار التدخين على علب السجائر في عام 1970. وكانت تكتب بخط صغير جداً. وواجهت شركات التبغ عدداً من القضايا، ومنعت تدريجاً من تسويق منتجاتها. وكانت أجيال قد عاشت على وقع “تعال إلى حيث النكهة” المترافقة مع صعود نجم “الحلم الأميركي”، إضافة إلى تأثير نجوم الفن والأدب والفلسفة على الناس بصورهم وهم يدخنون. وكأن التدخين أصبح ممراً شبه إجباري للوصول إلى مصاف هذه الطبقة من الناس.

تفكيك الصورة والتدخين السلبي

هذه الصورة المركبة للمدخن لم تستطع منظمة الصحة العالمية وما رافقها من أبحاث وندوات وحملات أن تفككها، فالعلاقة تبدو معقدة بين العوامل النفسية والجسدية التي يتركها التدخين على الناس. ومن وسائل الحد منه، بدأ أيضاً العمل بحزم على التدخين السلبي، الذي يعني الوجود في أجواء المدخنين، بعد أن ثبتت أضراره الصحية على المتلقين. وبحسب منظمة الصحة العالمية التي خصصت يوماً عالمياً لمكافحة التبغ، يحتفل فيه في 31 مايو (أيار) من كل عام، فإن دوائر صناعة التبغ تسهم في تغير المناخ وتحد من القدرة على التكيف مع تغيره، وتتسبب في إهدار الموارد وإلحاق الضرر بالنظم الإيكولوجية، كونها تسهم سنوياً في انبعاثات غازات الدفيئة بمقدار 84 ميغا طن من ثاني أكسيد الكربون، كما تتسبب زراعة التبغ في تدمير نحو 3.5 مليون هكتار من الأراضي الزراعية سنوياً، وتسهم في إزالة الغابات، وخصوصاً في البلدان النامية.

ووضعت قيود كثيرة على التدخين بناء على أبحاث في دول متعددة تطال سن المدخن وقوانين حظر التدخين في الأماكن العامة المغلقة، مثل المطاعم، والحانات، والنوادي الليلية، والأسواق، ووسائل النقل العام وسواها. بدأ التطبيق في أميركا في أواخر التسعينيات. ومن القيود أيضاً حظر التدخين في الأماكن العامة شبه المغلقة، مثل المدرجات الخارجية، والشرفات، ومناطق انتظار السيارات، إضافة إلى منع بيع التبغ للقاصرين، وفرض ضرائب عالية على التبغ. ونشر برامج توعية. وقد نفعت هذه القيود في الحد من التدخين السلبي، أكثر من خفض معدلات التدخين. ومما لا شك فيه أن شركات صناعة التبغ بذلت جهداً كبيراً في منع تطبيق قوانين التدخين عبر ترويجها فكرة التأثيرات السلبية على قطاع الأعمال والسياحة، وعلى أن تهوية المكان قد تكون بديلاً مقبولاً. مع الوقت كبر خط التحذير على علب السجائر، وبات عريضاً ويحتل ثلثها تقريباً. بات أكبر من اسم المنتج، مع صور مخيفة للأمراض التي يسببها، وبات الابتكار سيد الموقف في جمل التحذير.

ولكن هل أثرت هذه الإجراءات؟

تشكل الدول النامية 80 في المئة من مستهلكي التبغ في العالم. وهي تعد من آخر الدول التي طبقت قوانين منع التدخين في الأماكن العامة، حتى إن عدداً منها لم تطبقه بعد.

يودي التدخين بحسب منظمة الصحة العالمية بأكثر من ثمانية ملايين شخص سنوياً، من المدخنين وغير المدخنين الذين يستنشقون دخان السجائر من الأشخاص الذين يدخنون حولهم.

وقد نشرت مؤسسة “وورلد بوبيولايشن ريفيو” World Population Review في إحصاءاتها الجديدة لعام 2023، إن معظم المدخنين يوجد في جنوب شرقي آسيا ومنطقة البلقان بأوروبا. مع استثناء، أن تشيلي في أميركا الجنوبية لديها واحدة من أعلى نسبة المدخنين في العالم.

ويظهر الترتيب العالمي للتدخين جزيرة ناورو في شمال شرقي أستراليا في صدارة اللائحة حيث أكثر من نصف سكانها من المدخنين، تليها جزر كيريباتي على خط الاستواء بواقع 52 في المئة، ثم جزر توفالو 48.7 في المئة، تليها ميانمار 45.5 في المئة، وتشيلي 44.7 في المئة، ليحتل لبنان بحسب التقرير المرتبة السادسة عالمياً بواقع 42.6 في المئة. وذكر التقرير أن عدد المدخنين من الذكور في لبنان هو 49.4 في المئة، ومن الإناث 35.9 في المئة.

وأشار التقرير إلى أن دول غرب أوروبا والأميركيتين تميل إلى نسب أقل من المدخنين بين سكانها. وأن أعداد المدخنين حول العالم آخذة بالانخفاض، بسبب التوعية المتزايدة حول الآثار السلبية للتبغ، وأيضاً بسبب حملات مكافحة التدخين. ففي المملكة المتحدة مثلاً كانت نسبة المدخنين عام 2000 تبلغ 38 في المئة، وانخفضت لتصبح 19.2 في المئة فقط.

“نفخ عليها تنجلي”

رغم كل محاولات التوعية، وحظر الإعلانات التي تسوق للتدخين، فإن كثيراً من المدخنين حول العالم ما زالوا أوفياء لسجائرهم. يجدون المتعة والسلوى في طقوس التدخين كافة، رغم معرفتهم لمضارها، يوشحونها بمزيج من الأفكار والعادات، لتجدها تستقر بين أصابعهم، تحترق على مهل، كأنها بخورهم الخاص. وعلى رغم السجائر الإلكترونية و”الفايب” التي جاءت وكأنها لتختصر دخان السجائر العادية، فإن المدخنين يتوقون أبداً إلى حارقة أنفاسهم رغم البدائل.

يقول رواد أيوب وهو مدخن منذ أكثر من 20 سنة، إن التدخين كان الفسحة التي يتنفس بها، “التدخين كان يهدئني، أنفس فيه كل توتري وغضبي. ومع ولادة ابنتي، وجدت نفسي أقرأ التحذير على علبة الدخان كأنني أراه للمرة الأولى، وقررت ألا تكون متعتي سبباً في أن أموت باكراً وأترك ابنتي. وتركت زوجتي التدخين قبلي أثناء الحمل. ومنذ خمس سنوات قررنا أن نجعل بيتنا الذي كان يعج بالأصدقاء المدخنين مكاناً خالياً من التدخين، بعد أن غيرنا الأثاث الذي يعج بروائح الدخان”.

من جهتها، جومانا ماجد، وهي مدخنة منذ 34 سنة، بينها ثلاث سنوات “تدخين بالسر” بسبب عدم تقبل المجتمع للمرأة المدخنة، تقول “خفت من الصورة المرعبة التي وضعت على علب الدخان في دبي، فلم أعد أشتري من المصدر ذاته. إنما أطلبها من الخارج”.

وعلى رغم إصابتها بسرطان الثدي منذ أكثر من 10 سنوات تقول لا تعتقد أن للتدخين دوراً في مرضها. “لم يطلب مني الطبيب التوقف عن التدخين. حتى إنني أظن أنهم يتركوننا ندخن، حيث الموت بانتظارنا، فلا مشكلة من سجائر إضافية”. ومن منطلق “نفخ عليها تنجلي”، باتت تدخن أكثر بعد إصابتها بالمرض، وتشعر بالراحة أكثر من الضرر، وكأنها تنفخ الطاقة السلبية عبر الدخان المتصاعد، لكنها تتمنى ألا يصبح أولادها أسرى هذا الإدمان. وجومانا ضد التدخين في الأماكن التي ينزعج منها الناس، ولا تقبل أن تكون سبباً في التدخين السلبي. وهي لا تدخن بوجود أولادها، أو عندما تحضر لهم الطعام.

اندبندنت

مقالات ذات صلة